حققت بغداد تقدماً كبيراً على مدى العام الأخير في اتجاه كسر الحظر الجوي والاقتصادي المفروض فأبرمت اتفاقات عدة للتبادل التجاري كما استعادت العلاقات الديبلوماسية مع دول عربية بعضها خليجية. ولم تكن سورية استثناء من هذه التطورات، إلا أن ما شهدته العلاقات بين بغدادودمشق في الأشهر القليلة الماضية يمثل بذاته مؤشراً على تطور نوعي في العلاقات بين الجارتين "اللدودتين"، إذ تم رفع مستوى زيارات المسؤولين من البلدين، فبعد أن كانت مقصورة على الخبراء ووزراء الحقائب الفنية "غير السياسية" مثل الصحة - النقل - الري شهدت الفترة الأخيرة نقلة في مستوى زيارات المسؤولين خصوصاً من الجانب السوري. هكذا وفي خلال فترة قصيرة قام رئيس الوزراء السوري محمد مصطفى ميرو بزيارة رسمية هي الأولى من نوعها إلى العراق منذ 20 عاما استغرقت ثلاثة أيام، وبعدها بأيام قليلة قام طه ياسين رمضان نائب رئيس الوزراء العراقي بزيارة لسورية، ولم يفصل بين الزيارتين سوى الزيارة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى الكويت وهو تراتب له دلالته. وقبل شهرين فقط أقيم معرض للمنتجات السورية في بغداد طبقت فيه قواعد اتفاق لتحرير التجارة بين الدولتين كان أبرم في شباط فبراير الماضي. ووفقاً للتقديرات الرسمية، بلغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين العام الماضي 500 مليون دولار، ينتظر أن إلى بليون دولار نهاية العام الحالي حسبما توقع وزير التجارة العراقي محمد مهدي صالح. كما دخلت دمشق على خط المشاريع المائية في العراق، ففازت الشركة العامة للري ومياه الشرب السورية بعقد لتنفيذ مشروع مائي مهم في العراق بقيمة 113 مليون دولار. وإذا كانت هذه المؤشرات تدل على استمرار النهج العراقي في اتخاذ الاقتصاد مدخلاً لتطوير علاقاتها العربية، وكسر الحظر الدولي المفروض عليه، وهو النهج ذاته الذي تم اتباعه قبل سورية مع دول عربية أخرى، فإن اختلافاً مهماً ميّز الحالة السورية عن سابقاتها، فسرعان ما تم تسييس التحسن الذي طرأ على العلاقة بين دمشقوبغداد، وهو ما لم يحدث في جميع حالات التقارب السابقة بين بغداد وأي عاصمة عربية. والتسييس هنا هو بمعنى توظيف هذا التقارب لتحسين علاقة بغداد مع دول أخرى أو إعادة دمجها في الإطار العربي مجدداً، فضلاً عن الخطوة الأبعد وهي محاولة ردم الفجوة الضخمة بينها وبين الكويت، إذ لم يحدث حتى الآن أن بدأت دولة عربية في تحسين علاقاتها مع العراق اقتصادياً ثم انتقلت إلى الإطار السياسي وحاولت الدخول على خط العراق - الكويت أو العراق - السعودية، والأمثلة حاضرة في العلاقات التجارية والاقتصادية مع مصر والأردن والبحرين والإمارات. فحتى مع تطور العلاقات السياسية والديبلوماسية نسبياً، ظل هذا التطور محصوراً في النطاق الثنائي وحسب. والعكس صحيح، إذ جاءت المبادرات السياسية لحل المشكلة مع الكويت من دون مقدمات اقتصادية، ومبادرتا قطر ثم اليمن العام الماضي للقيام بدور الوسيط في هذا الموضوع تشهدان على ذلك. في الإطار الثنائي أيضاً، نلفت إلى أن علاقات بغداد العربية دشنتها دول لم تكن لها خلافات جذرية حقيقية مع بغداد، بل إن بعضها كان من الدول المتعاطفة مع العراق حتى في أوج أزمة ثم حرب الخليج الثانية، ونعني هنا تحديداً الأردن، إضافة إلى بعض الدول التي لم يكن هناك وجه للخلاف بينها وبين العراق إلا في اعتدائها على أراضي وسيادة دولة عربية مجاورة. ومن أبرز هذه الدول مصر، وهو ما يمكن أن ينطبق أيضاً على الإمارات والبحرين، فرغم كونهما دولتين خليجيتين إلا أن موقفها من العراق يُعد خصوصاً في السنوات الأخيرة من أكثر المواقف تعاطفاً مع العراق وتحديداً الشعب العراقي، الأمر الذي أوضح بجلاء أن خلافها مع بغداد كان تحديداً بسبب واقعة بعينها هي غزو الكويت، بل بعبارة أكثر تحديداً ليس لغزو الكويت بحد ذاته وإنما بسبب الخشية من وقوعهما تحت طائلة هذا النهج التوسعي وتكرار ما حدث للكويت معهما. ومرة أخرى الوضع مع سورية مختلف، فللدولتين تاريخ طويل من العداء والجفاء المتبادل على المستويات كافة، فعلى رغم انتماء كلتيهما إلى الفكر البعثي، إلا أن تصور وتطبيق كل منهما لهذا الفكر يبدو معاكساً تماماً للأخرى. إضافة إلى ذلك فإن عداء شخصياً متجذراً جمع بين الرئيسين السوري حافظ الأسد والعراقي صدام حسين، ما جعل أي تقارب سوري - عراقي خارج حسابات الدولتين لسنوات طويلة. وبالتالي فإن حصول هذا التقارب لم يأت من فراغ، ويعني من دون مواربة أن خطراً جللاً يداهم الطرفين معاً حتى "اضطرا" إلى الالتقاء أخيراً. عربياً، يحمل التقارب بين بغدادودمشق دلالات مهمة بالنسبة إلى ما يوصف في الأوساط العربية الرسمية بالحالة العراقية - الكويتية، وقد صحبت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد للكويت أجواء متفائلة بدور سوري في اتجاه التقريب بين الموقفين العراقي - والكويتي. وبغض النظر عما آلت إليه تلك الأجواء على أرض الواقع فإن المغزى الذي يمكن الخروج به هو أن دمشق مؤهلة للعب دور فاعل مؤثر في الملف العراقي بمحتوياته كافة بما فيها أصعبها وهو المحور الكويتي - السعودي. في المقابل، رغم محاولات دمشقية حثيثة لتقليل هواجس الكويت من تقدم العلاقات مع بغداد، وما حاولت الكويت إظهاره من عدم قلق أو تحفظ على ذلك التقدم، فإن تحسن العلاقات السورية - العراقية يمثل في التحليل الأخير إضافة إلى رصيد العراق في المعادلة العربية والإقليمية. إقليمياً، تنذر تطورات الصراع العربي - الإسرائيلي بأن الوجه المسلح للصراع مرشح بقوة للظهور مجدداً، وغنيٌّ عن البيان أن حالة العلاقات بين بغدادودمشق تمثل متغيراً مهماً في معادلة التوازن الإقليمي الاستراتيجي، ويكشف التحرك السوري تجاه العراق عن محاولة سورية لتدعيم محور دمشق - طهران والتحوّط لأي تراجع فيه بآخر جديد: دمشق - بغداد يقوي من موقفها أمام إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، ويضيف زخماً جديداً إلى المساندة العربية التي تتوقعها دمشق حال تفجر الموقف مع إسرائيل. في السياق ذاته، فإن محور إسرائيل - تركيا يلعب دوراً فاعلاً في التطورات الحاصلة في منطقة الهلال الخصيب، ولا يمكن النظر إلى تطور العلاقات العراقية - السورية بمعزل عن التطور المستمر في العلاقات التركية - الإسرائيلية، ونشير هنا إلى الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون قبل شهر إلى أنقرة، وهي الزيارة التي أحاطها غموض كبير حاول بعض التحليلات تفسيره باستعدادات إسرائيلية لمواجهة عسكرية قد تكون سورية أحد أطرافها، ما يستلزم الترتيب مع أنقرة بشأنه، ويزيد من حُجية هذه التفسيرات ما تناقلته تسريبات وأنباء غير رسمية عن إقامة تل أبيب حائط صاروخي في جنوب الأراضي التركية يستهدف كلاً من سورية وإيران. وإزاء تعقد الموقف الراهن عربياً وإقليمياً، فإن أبعاد التقارب السوري - العراقي تبدو متداخلة ومعقدة إلى حد كبير، وتجمع بين السياسي والاقتصادي، والقُطري والقومي، والعربي والإقليمي. وكل ذلك يندرج في إطار معادلة استراتيجية متعددة المستويات. وعلى رغم هذا التشابك والتداخل الكبيرين، فإن خيطاً واحداً يمكن استخلاصه من وسط هذه المعطيات الكثيرة: إنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح ووفقاً للمقدمات تكون النتائج والمحصلات، فالثوابت والمحددات هي التي تحكم صيرورة الأحداث وتحرك بوصلة التاريخ وتوجه الساسة والسياسة، والشواهد قائمة وتتحدى: أيلولة حصاد الخيار السلمي للصراع العربي - الإسرائيلي إلى لا شيء، واضطرار العرب - تدريجياً وإن بعد زمن - إلى الاعتراف والتسليم بضرورة وحدة المسار كنتيجة حتمية لوحدة المصير، وانكشاف الحلم الأميركي المهترئ، وتحولات ومفاجآت أخرى كثيرة لن تكون آخرها عودة سورية والعراق، كل إلى الأخرى. * كاتب وباحث مصري.