كما كان العرب يظنون ان اليهود واللوبي الصهيوني يسيطرون على العالم أجمع، أو على الأقل على أجهزة الاعلام العالمية، غدا الاسرائيليون يعتقدون ان العرب، والفلسطينيين بشكل خاص، وراء تدهور صورة اسرائيل الاعلامية في العالم. حتى ان مستوى هذا التفكير وصل الى حدود البارانويا، اذ اتُهم منتج برنامج بي. بي. سي. "بانوراما" الذي تناول مسؤولية رئيس الوزراء الاسرائيلي أرييل شارون في مجزرة صبرا وشاتيلا، بأنه من أصول عربية، بينما هو، والاسم يفصح عن ذلك ايدان لافرتي، من عائلة ايرلندية. هذا الشعور الأحمق وصل حتى الى الاعلام الاسرائيلي المعروف عادة باعتدال موقفه، وبتأييده السلام، ولا سيما بجدية مواضيعه. فمجلة "جيروزاليم ريبورت" نصف الشهرية نشرت مقالة لإيهود يعاري يتهم فيها ياسر عرفات بأنه يتولى، بذاته، التخطيط لكسب المعركة الاعلامية ضد الدولة العبرية! وها هي الدكتورة حنان عشراوي غدت في المقالة مجرد أداة للترويج الاعلامي لمصلحة الشعب الفلسطيني. كذلك فإن الصور التي تبنتها المحطات العالمية ليست الا من انتاج فلسطيني، اذا عرف الشعب الفلسطيني سبل اختراق المحطات العالمية الكبرى ووكالات الأنباء: رويترز وآي بي وغيرهما. وحسب احصاءات يعاري فان 95 في المئة من الصور المتلفزة المبثوثة في العالم هي من نسج فلسطيني! وهي، بالطبع، صور تخفي فظائع السلطة الفلسطينيية أو مجموعات التنظيم أو حماس، ولا تظهر سوى العنف الاسرائيلي! فسلطة عرفات عرفت كيف تجعل الاعلام العالمي تحت سيطرتها ما بين تهديد بالمنع واعطاء بعض التسهيلات! وتصل بارانويا صاحب المقال الى مستويات من التلفيق الواضح اذ يؤكد ان الصحافة الاسرائيلية ممنوعة من دخول الأراضي الفلسطينية، بينما تصدر اسبوعياً مقالات لإيغال سارنا في "يديعوت احرونوت" من رام الله فيما عدد من صحافيي "هآرتس"، كعميره هاس أو جدعون ليفي يجولون في الضفة والقطاع. جديد اسرائيل يكمن أيضاً في إعادة تشكيل وسائل اعلامها. فإذا كانت الرقابة الحكومية على الصحف والمجلات شبه معدومة، ولا علاقة لها بما يشهده العالم العربي، فإن رقابة أصحاب وسائل الاعلام على صحافييهم أخذت في الآونة الأخيرة تشكل خطراً جدياً على حرية الصحافة. في الخمسينات قدّم بن غوريون تعريفاً مأثوراً للاعلام: "ما هي الصحيفة؟ شخص عبر ثروته يوظف عمالاً ليكتبوا ما يريده"! وهذا التعريف كان مجرد نكتة، الا ان التحولات التي طرأت على الاعلام الاسرائيلي في السنوات العشر الأخيرة، مع وصول بنيامين نتانياهو الى سدة الحكم، حوّلت هذه النكتة الى واقع مرير. فاليوم 90 في المئة من الصحافة الاسرائيلية مطبوعات وسمعي - مرئي تمتلكه ثلاث عائلات، بمن فيها عائلة نمرودي صاحبة جريدة "معاريف" والمتهمة بفضائح قانونية منها التواطؤ على... قتل شخص يُرزق! والضغوطات التي يتعرض لها بعض الصحافيين الاسرائيليين، كالطرد من وظيفتهم والتأكد من صعوبة عثورهم على فرصة عمل أخرى بسبب احتكار العائلات الثلاث لوسائل الاعلام، يقابلها صدور عدد كبير من مجلات ومحطات اذاعية جديدة ناطقة باسم الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة. وهذا تعبير واضح عن التحولات التي طرأت على عالم الاعلام الاسرائيلي منذ ما قبل انتفاضة الأقصى، لا بل منذ ما قبل أوسلو. فالتحولات هذه بدأت تدريجاً مع وصول تكتل ليكود، للمرة الأولى، الى الحكم سنة 1977. هكذا توقفت مطبوعات ك"دافار"، "عالهمشمار"، "هعولام هاذه"، كما توقف "صوت السلام"، لسان حال اليسار الاسرائيلي، ليحل محلها عدد من وسائل الاعلام اليمينية - الدينية حيث كان آخر تعابيرها مجلة على انترنت باسم "يديد يبيزيك" التي اصدرها أحد مسؤولي مطبوعات الجيش. والمجلة هذه، بحسب تعبير صحيفة "هآرتس"، تشبه في نضالها اليميني صحف الطلاب اليسارية في السبعينات... لكن الامر لا يقف هنا. فبينما كانت تحتضر صحيفة حزب "ميريتس" اليساري "بوليتيكا"، كانت نشرة الحزب القومي الديني "هاتسوفي" وصحيفة المستوطنين "نيكودا" تشهدان اقبالاً متزايداً من القراء. والجديد أنه منذ اندلاع الانتفاضة، غدا عدد من الصحافيين المحسوبين على اليسار خاصة بين طاقم "هآرتس" كعوزي بنزيمان مثلا يتبنون مواقف اليمين الاسرائيلي وسياسة حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها شارون. آخر حبّات العنقود ان صحيفة "الاوبزرفر" الاسبوعية البريطانية لم تعد تتحمل المضايقات الاسرائيلية للمراسلين الأجانب، فنشرت موضوعاً يظهر أنواع وأساليب الضغوطات التي تستعملها الدولة العبرية والمجموعات الصهيونية في العالم: كإغراق المراسل الناقد لسياسة اسرائيل بوابل من الرسائل الالكترونية المستنكرة لمقالاته، واتهام المراسلين من أصل يهودي بكره الذات، وذوي الأصول غير اليهودية بالعداء للسامية... انها سياسة التخوين، فأهلاً وسهلاً بالاسرائيليين الى هذه السياسة التي نمارسها نحن بشكل "خارق عن العادة" كما يقول التعبير التونسي.