} يفتقد أبو علي أنسه بالجنود ويتمنى لو أن "شعب" العمال انسحب... ويأمل عبدالرزاق في انحسار الطيران الاسرائىلي. لم يكن أبو علي يتوقع ان يفقد الأنس المتأتي من الجنود السوريين في ملعب "النهضة" في هذه السرعة. وهو لم يتوقع ان يأتي الى عمله على مقربة من موقعهم يجد منهم أحداً. فأبو علي، وهو شارف التقاعد، يعمل في إحدى منشآت بلدية بيروت على الكورنيش البحري. ولم يتناهَ اليه خبر اعادة انتشار الجيش السوري من "بيروت وبعبدا واليرزة وبعض مناطق جبل لبنان" بحسب ما جاء في بيان لقيادة الجيش اللبناني في 14 حزيران/ يونيو الجاري، من وسائل الاعلام ووكالات الانباء وما ردده الناس. بل جاء الى عمله ليتسلم نوبته من زميله، فأخبره هذا ان الجنود رحلوا. ولم يفعل شيئاً حين علم برحيلهم، ولكنه لم يكن راضياً: "كيف رحلوا؟ لا يحق لهم ان يرحلوا بهذه السرعة!". فهو لا يرى ان انتشار الجنود السوريين في لبنان يؤثر في شيء. فما "يؤثر"، على قول عامل البلدية هو "الشعب". و"الشعب" يعني به العمال السوريين. وهؤلاء يأخذون "من طريقنا مجال العمل"، وفرصه. وأبو علي عمل زمناً طويلاً في قسم التنظيفات في البلدية، وأحيل مع أمثاله من القدماء على مرافق عمل غير عمله الاول منها حراسة الحدائق وتنظيفها، بعدما لُزِّم لمّ النفايات لشركة خاصة. وهذه الشركة معظم عمالها "من السورييشن". وعلى هذا يصوغ أبو علي أمنيته فيقول: "ليت الشعب انسحب وبقي الجنود! فكنت أجد فيهم أنساً هنا، أنا الجالس على هذه الكرسي ست ساعات وحيداً". ولكن "اعادة الانتشار"، على ما تسمي الصحافة المحلية انسحاب بعض الوحدات العسكرية السورية، ما زالت غير واضحة، فلا عدد الجنود الذي غادروا لبنان، اذا هم غادروه فعلاً، معروف ولا عدد المراكز التي اخليت. وعلى رغم إفادة ما نشر من معلومات ان "الجيش السوري أخلى بيروت ومناطق في الجبل، وبلغ عدد المغادرين 10 آلاف"، ومشاهدة المواطنين عدداً كبيراً من الدبابات والجنود يعبرون الحدود الى الاراضي السورية، فالمتجول في بعض انحاء بيروت، وفي منطقة الرملة البيضاء خصوصاً، يشاهد جنوداً سوريين في أكثر من مركز "سابق". وعادة ما يكون هؤلاء الجنود في لباس مدني. ولا يزال مركز مخابرات سوري قرب مستشفى الشرق الأوسط، وآخر قرب جامعة بيروت العربية، على منحدر الطريق الجديدة الغربي. ورجحت مصادر ان "يكون بقاء هذه المراكز للمخابرات يدخل في اطار التعاون الأمني بين لبنان وسورية تطبيقاً لاتفاقية التعاون والأخوة والتنسيق الموقعة بينهما في العام 1993". ويلاحظ المتجول مراكز ثابتة كثيرة كان يشغلها جنود سوريون ويحرسونها، حلّ محلهم فيها او على الارصفة امامها جنود من الجيش اللبناني، تمهيداً لتسليمها الى اصحابها لاحقاً فمعظم مراكز الجيش السوري في بيروت جلست في مبان خاصة. وهذه المباني كلها تحتاج الى ترميم. فنزلاؤها من الجنود يقيمون فيها منذ دخولهم بيروت الغربية غداة "الحرب" بين الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي وحركة "أمل" الشيعية في 1986 ثم في 1987. وزاد عددهم حين تعاونوا مع الجيش اللبناني العماد لحود على القوات العسكرية اللبنانية بإمرة العماد ميشال عون في خريف 1990. وبدت المباني التي اخليت، بعدما غادرها الجنود، قديمة وبالية، على رغم ان بعضها ما زال قيد الانشاء غداة عقدين ربما على ابتداء انشائها. ولم يخلف الجنود الذي غادروا تلك المراكز فيها الا صوراً للرئىس الراحل حافظ الاسد، ولنجليه باسل وبشار الاسد، الرئىس الحالي، وشعارات خطّوها على جدران تلك الابنية، تدل الى انهم من "الوحدات الخاصة" وانهم "رجال الاسد". وحاولت "الحياة" الحصول على معلومات دقيقة من مصدر أمني رفيع عن المحصلة الاخيرة اعادة الانتشار، فلم توفق. واكتفت المصادر المأذونة بالقول: "لا يمكننا التحدث في هذا الموضوع حتى الآن لأن العملية لا تزال سارية ولم تنتهِ، وبالأمس في 22 حزيران عقد اجتماع بين قائد الجيش العماد ميشال سليمان وقائد القوات العربية السورية العاملة في لبنان اللواء ابراهيم صافي ورئيس فرع الأمن والاستطلاع فيها اللواء الركن غازي كنعان، وبحثوا في هذه الخطوة". وعلى هذا، لم تزل اعادة الانتشار غير واضحة المعاني في انظار الناس وافهامهم، أكانوا في بيروت أم في جبل لبنان. فالجنود السوريون لم "يختفوا" تماماً من بعض طرقات بيروت او الجبل حيث بقوا سنوات طويلة. وأجوبة الناس عن رأيهم في الانسحاب، او في تقليص عدد الجنود الذين يرونهم تنم عن حيرتهم في وصف ما جرى، وفي ما اذا كان اعادة انتشار شاملة، ام لا. ولا يستطيع احد الجزم في ما اذا كان الجنود السوريون غادروا كل مواقعهم في بيروت. وينبه بعض من سئلوا الى ان الاخلاء جرى ليلاً، الا اخلاء واحداً في اليرزة، قرب وزارة الدفاع. ففي هذا الموقع وحده غادرت كتيبة مركزها امام عدسات التلفزة والمصورين، وحظي المصورون بتلويح الجنود المغادرين، وبابتسامهم فرحاً. لذا ربما بدت آراء الناس متفاوتة. فبعضهم غير مبالٍ. وبعضهم غير عارف بأسباب اعادة الانتشار. وبعضهم الثالث غير مقتنع بأن الجنود المغادرين خرجوا من لبنان. وبعض رابع بدا راضياً. ويعلق أبو حسن، وهو ينسب نفسه الى رأس بيروت ويعمل قرب مركز بارز للمخابرات السورية في شارع السادات اخلي الاسبوع الماضي، بقوله: "اذا ذهبوا عسكرياً فسيعودون مدنياً". وأوضح ان الآليات اخليت، اما الجنود الذين يلبسون بزات عسكرية فسيخلعونها حين ينهون مدة خدمتهم، "ويعودون الى بيروت بملابس مدنية ليعملوا مع العمال الآخرين". وتأملات ابو حسن تقوده الى الاستنتاج ان "الحدود بين لبنان وسورية مفتوحة، واذا حصل شيء امني يمكنهم ان يعودوا الى بيروت في ساعتين". اما ابو زياد، جار ابو حسن، فلا يشك في ان على السوريين ان يغادروا لبنان. وحجته ان "الوضع تغيّر"، كانت مهماتهم ضبط الامن، وانهاء الحرب وتسليم الجيش المهمة الامنية، و"هذا كله حصل". وخلص حسن، ابن ابو حسن الذي تقدم كلامه، من رأيَيْ ابيه وجارهما، الى ان "مشكلة البلد هي قلة الاشغال". والسوريون المغادرون لم يكونوا سبب المشكلة، بل "الدولة هي سبب كل علة". وسأل عبده، وهو عرف باعادة الانتشار من وسائل الاعلام، حين مرّ بالرملة البيضاء مع رفيقه ورأى جندياً سورياً يقف حرساً امام احد المراكز الباقية، سأل رفيقه: "شو عم يعمل هيدا هون؟". فعبده ظن ان الجنود السوريين غادروا كلهم بيروت. ففاجأه بقاء من بقي منهم امام المباني المتصدعة والمتهدمة. ولم تتغير الحال في نظر عبدالرزاق سواء "رحلوا ام بقوا". "لم اكن منزعجاً من وجودهم، ولم انزعج من رحيلهم وهم في السنوات الاخيرة لم يضايقوا احداً". ولكنه بدا متفائلاً ب"تخفيف طلعات الطائرات الحربية الاسرائىلية في سماء بيروت"، بعد ترك القوات السورية ارضها. وفي الطريق الجديدة اسرَّ شابان ان القوات السورية لا تزال "تحتفظ" بمركز قرب مباني جامعة بيروت العربية، في عهدة المخابرات. وهي اخلت مخيم صبرا، حيث كان لها مركزان للجيش وثالث للمخابرات قبل اعادة الانتشار بشهرين، على ما اخبر الشابان. والشابان يشاركان رأي "الناس". و"الناس مرتاحون لأن هذه الخطوة نتيجتها تخفيف الضغط عن بيروت".