المجفل سفيراً لخادم الحرمين لدى سورية    نائب أمير مكة يُدشّن ويضع حجر الأساس ل 121 مشروعاً    النظر في اشتراط 30 عاما كحد أقصى لتمهير    مملكة الإنسانية وصحة الشعوب    آل الشيخ يعزز التعاون مع البرلمانات العربية    خادم الحرمين الشريفين يرعى نهائي أغلى الكؤوس    كلاسيكو التحدي بين «الأصفرين».. والبطل على أعتاب «التاريخية»    «الشورى» يستأنف جلساته بمناقشة أداء القطاعات وتحدياتها    عبيدالله سالم الخضوري.. 16 عاماً ملكاً على الكونغو    5 من أمراض المخ ترتبط بتغير المناخ    وزارة الإعلام تحتفي بطلاب وطالبات أكاديمية طويق ومدارس مسك الفائزين في معرض آيتكس 2024    جامعة المؤسس: الزي السعودي إلزامي على الطلاب    فريق طبي بمستشفى عسير يُنقذ حياة أربعيني تعرّض لطلق ناري في الرقبة    "سناب شات" تضيف عدسات الواقع المعزز لكروم    ضريح في جزيرة يابانية لتكريم القطط    أنت بحاجة إلى ميزانية    بيان التسمم    رابطة اللاعبين تزور نادي العروبة    أخضر الشاطئية يتأهل لربع نهائي البطولة العربية    حتى يبدع الحكم السعودي    ضمن فعاليات تقويم جدة بسوبر دوم.. غونتر يتوج بلقب" ملك الحلبة".. و" ناي جاكس" ملكة السيدات    ريال مدريد يودع الساحر الألماني    ولادة ثلاثة وعول في منطقة مشروع قمم السودة    وجهة الابتكار    إدارة تعليم عنيزة تدشن مبادرة التسجيل في النقل المدرسي    الإطاحة بثلاثة وافدين يروجون حملات حج وهمية    الأمن المدرسي    العمودي والجنيد يحتفلون بناصر    الزهراني يحتفل بزواج إبنيه محمد و معاذ    الاحتلال يواصل قصف أحياء رفح    أمير الرياض يرعى الاحتفاء بالذكرى ال 43 لتأسيس مجلس التعاون الخليجي    أجيال المملكة والتفوق صنوان    كي تكتب.. عليك أن تجرِّب    تكريم الفائزين في مسابقة «فيصل بن مشعل لحفظ القرآن الكريم»    ختام «بنكهة الشرق» والأميركي «أنورا» يحصد الجائزة الذهبية..    وصول أولى رحلات مبادرة طريق مكة من المغرب    حلقات تحفيظ جامع الشعلان تكرم 73حافظا    وصول أكبر معمرة عراقية لأداء فريضة الحج    الغربان تحصي نعيقها    المكسيك تسجل حرارة قياسية    12 ألف حاج تلقوا خدمات صحية في المدينة المنورة    عليهم مراجعة الطبيب المشرف على حالتهم.. «روشتة» لحماية المسنين من المشاكل الصحية في الحج    اكتشاف دبابير تحول الفيروسات إلى أسلحة بيولوجية    شكراً «نزاهة»    بيت الاتحاد يحتاج «ناظر»    أتعمية أم خجل.. يا «متنبي» ؟    الشغف    التألق والتميز السعودي في الزراعة !    أسرتا السليمان والزعابي تتلقيان التعازي في فقيدهما    «الموارد البشرية» تطلق عدة مبادرات في موسم الحج    سعود بن بندر يطلع على خدمات «تنموي سلطان بن عبدالعزيز»    تعيين د. المجفل سفيراً لدى سورية    تخفيف مشقة الحج عن كبار السن    مشرفو الحملات الإندونيسيون: طاقات بشرية وفنية سعودية لراحة الحجاج    سمو أمير تبوك يرعى حفل تخريج الدفعة الثامنة عشرة لطلاب وطالبات جامعة تبوك    أكد حرص القيادة على راحة الحجاج.. أمير الشمالية يتفقّد الخدمات في« جديدة عرعر»    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج دورة الضباط الجامعيين    ولي العهد يعزي محمد مخبر هاتفياً في وفاة رئيسي وعبداللهيان ومرافقيهما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مقدمة" شارل مالك في طبعة ثانية ومزيدة . التصور الفلسفي سيرة ذاتية وشهادة على الكينونة
نشر في الحياة يوم 08 - 04 - 2001

لم يأخذ الجزء الأول الوحيد من "مقدمة" شارل مالك ما يستحقه من قراءة ونقاش بسبب صدوره في ظروف الحرب اللبنانية، وهي ظروف شغلت مالك، كأحد أقطاب الجبهة اللبنانية، عن اتمام الجزء الثاني من الكتاب. لذا، فإن اعادة اصدار "المقدمة"*، في طبعة مزيدة تتجاوز مبدأ الواجب التكريمي لتفسح المجال النظر في إحدى مراحل مسيرة التأمل والتفكير الفلسفيين في لبنان.
لعل الحلقة الفلسفية التي كتب شارل مالك "سيرتها الذاتية" في مقدمته، وألبسها صيغة ثماني مراتب للوجود حضرت له في تمامها، برزت له في اتضاح معالمها كما في تداخلها. ان ممارسة كينونته متأتية من العيش في هذه المراتب الرياضيات، العلوم، الكوزمولوجيا، الحلولية، المثالية، الكيانية، الحياتية، الايمان، وبالتالي فهو لا يتدرج من واحدة الى أخرى كمن يصعد سلماً. ان ما يهمه هو تطوره الكياني لا الزماني. أما ما يهمنا نحن، من تلمس مدلول "السيرة الذاتية" في مقدمته، فيكمن في لحظ هذا التعريف الكامن للفلسفة، في كل صفحة من صفحات الكتاب، على أنها وبحد ذاتها، بمثابة سيرة ذاتية. لسنا أمام سيرة ذاتية في التطور الفلسفي لشخص، بقدر ما نحن أمام تطور في تعريف الفلسفة كسيرة ذاتية، كشهادة تنطلق من قناعة راسخة بأن "لكل شيء يكونه الانسان أو يفعله معنى، وقيمة، وغاية"، وان الأولوية تكمن في النظر في كينونة الأشياء، وليس في وجود الموجودات.
بعد ان يكون قد أكسبه مضموناً ظهورياً فينومينولوجياً، يستعيد مالك فعل التعجب الأرسطي المنذهل امام كل عفوية، وبساطة وطلاقة، أي أمام "هكذية" الأشياء. هذا التصور للفلسفة كسيرة ذاتية يعني في المقام الأول البدء بمقاربة معطيات الحياة التي هي الظهورات. و"الظهورة" مصطلح يقترحه المؤلف لتعريب phenomenon، كون هذا المصطلح أكثر قدرة على التعبير عن فعل الكشف من "الظاهرة". لكل ظهورة طبيعة خاصة تميزها، وهي تكشف عن نفسها بنفسها، فتنتقل بين امكاني الوجود: الخفاء والظهور، وهذا الانتقال يكون من خلال الكشف الذاتي، الذي هو العملية الأصلية التي لا بد منها للمشاهدة، في حين أن الاكتشاف لا يعدو كونه مجرد الاقرار بالكشف. المشاهدة مباشرة تكون، أو لا تكون. الحياة في الوصف، اما الموت، ففي التحليل. تلك هي المنهجية الظهورية التي يستخدمها مالك كي يميز بين حقيقة الشيء وكيفيته، وكي يؤكد ان حقيقة الشيء تكمن في هكذيته، أي في ما هو هو. بيد ان المؤلف لا يستخدم الوصف بالمعنى الهوسرلي في مواجهة التحليل، بل في مواجهة النقد الكانطي والفلسفة النقدية. انه يؤسس بذلك لما يمكن ان نعرّفه بفلسفة الوثوق، اي فلسفة احترام الوجود كمبدأ أول للوجود، و"تحرير العقل من عبء هذا الوجود". فالعقل لا يتحمل مسؤولية وجود الحقيقة بل مسؤولية ايجادها، والحقيقة هي المسؤولة عن نفسها، والمتكفلة بوجودها. ان الظهوري الذي يقبله مالك، ويتبناه، هو "الواثق من نفسه ومن الوجود"، وهو من هذا المنطلق يعيب على الظهورية الهوسرلية عدم احاطتها بمشكلة الوجود وتركه معلقاً بين قوسين، وهذا ما يؤدي بحسب مالك الى "بتر الحقيقة" من خلال التشديد على نصف الوجود فقط أي على كونه فكرة، وتناسي نصفه الآخر، أي كونه ارادة.
ينطلق مبدأ الوثوق من الظهورية نفسها، فيعيّن حدودها، ويتجاوزها الى مراتب الوجود الثماني، وكأننا أمام فينومينولوجيا الوثوق على غرار فينومينولوجيا الروح لهيغل. يتخذ مبدأ الوثوق في مرتبة الرياضيات سمة اليقين المنسجم الذي لا يداخله ريب، والذي يزيد الثقة بالذات من دون مبارحة محدودية الذات وانكفائها على نفسها. تكشف فلسفة الوثوق عن المقصد التوحيدي للرياضيات، فالمعادلة هي توحيد كل من كثرتين، والواحد الرياضي يعني الانسجام وعدم التناقض، وتعرف الرياضيات على انها فيض لا حدود له من "الواحد". بيد ان هذه الوثوقية تحمل على عبثية التجريد والتخيل الى ما لا نهاية، وتؤكد ان مهمة العقل تكمن في الرجوع الأخير الى الموجود. ولا يتورع المؤلف في هذا المجال من اشهار حكمه القروسطي، مؤكداً ان عبارة من تَمَنْطَقَ تزَنْدَقَ تدل على معنى عميق، كون المنطق ينطوي على اغراء الزندقة ص 249. وفي تجاهل لما وحدته الهندسة ما بعد الأوقليدية نراه يؤكد ان الموجود اللارياضي أهم وأعمق من الموجود الرياضي، فتمسي قضية العلاقة بين الانسان والعلم قضية المحافظة على احترام الكلي للجزئيات وابقائها في منزلتها من دون الكليات، وقضية توسط الانسان لما بين الرياضيات والطبيعة، وقضية الواحد الذي يكمن وراء انتظام الرياضيات في ذاتها، وفي الطبيعة اثر وايتهد. هذا الواحد هو خالق الشي من لا شيء، وليس صانع الكوزموس من الكايوس. وهذا الخالق مختلف جوهرياً عن نوع وجود الكون. ان فلسفة الوثوق تؤسس نفسها على هذا الاختلاف العميق بين الذهنية الايمانية الابراهيمية والذهنية العقلانية الاغريقية. العقل، في الذهنية الاغريقية، هو الذي يوصلنا الى الله، وبالتالي فإن هذه الذهنية هي منبع لكل النزعات الذاتية والريبية أو الاكتفائية العقلانية التي يحاربها مالك، كما يحارب الحلولية الصوفية المرتبة الرابعة ويواجههما بالذهنية الابراهيمية حيث البارئ هو الذي يوصلنا الى العقل، وليس العكس، لأن الاقرار بأن الكون لا يعلّل ذاته بذاته هو الشرط الأولي لإمكان التعجب الكياني.
قد تجد في كل صفحة ما يفيد حديثنا عن فلسفة الوثوق، ولكن "مبدأ الوثوق" بحد ذاته، أي كمفهوم قبلي يجعل من هذه المقدمة كلاً متكاملاً، ويبرز اهميتها كنص فلسفي، هو مبدأ لا يفصح عنه المؤلف بهذا الوضوح. ان قراءتنا للنص هي التي تظهر المبدأ، وهي التي تزعم ايضاً بأنه لبّ محاولة شارل مالك الفلسفية، وان التغاضي عن اظهاره يبطل خصوصية هذه المحاولة، ويحوّل الكتاب الى جملة من التأثرات الانتقائية بالفلسفة الغربية مسكوبة في اطار ايمائي ابراهيمي. كما لا يمكن تحليل الظاهرة واختزالها الى هذا العنصر أو ذاك، كذلك لا يمكن ارجاع كل قضية في هذا الكتاب الى هذا الفيلسوف او ذاك. ان تلمس الدلالة الفلسفية لهذه المقدمة، لا تبدأ، باعتقادنا، من رصد ما أخذه مالك عن كيركيغارد أو هوسرل او هايديغر أو وايتهد أو هارتمان، بل تبدأ من النظر الى هذا النص كلعبة تحاكي فينومينولوجيا الروح عند هيغل، وتستبدلها بهذا النوع من فينومينولوجيا الوثوق المعادي لأهمية الشك وضرورته بالنسبة الى التفكير والتأمل الفلسفيين.
وهكذا فإننا نشهد "مبدأ الوثوق" وهو يبدأ يعي نفسه في المرتبة الخامسة، أي مرتبة المثالية. يعتبر المؤلف ان المراتب الأربع الأولى الرياضيات، العلوم، الكوزمولوجيا، الحلولية تبقى في عداد مراتب الانغلاق على الذات والانعزال عن الوجود الحقيقي، في حين يبدأ الانعتاق من الذاتية مع بلوغ المثالية. ثم يصبح التمظهر الهيغلي حقيقة نصية، يعنونها مالك ب"العود الى هيغل"، كونه أول من فلسف تاريخ الفلسفة، وأخضعها لقاعدة تطورية ديالكتيكية، أي كونه قد جعل الفلسفة في حال من الوعي المطلق لذاتها. هنا تبرز المفارقة، ففي حين كانت فينومينولوجيا الوثوق تحاكي اللعبة الهيغلية، وتنتقد النقد الكانطي بطريقة دورية، ها هي تعود وتقف ضد ما تسميه "الغطرسة التيوطونية" عند هيغل، مؤكدة ان العقل البشري لا يمكن ان ينفذ الى الكيان الأسمى، ومحذّرة من الحلولية العقلانية "التي لا تترك ذرة من الحرية والسيادة"، مميزة بين مطلقها الرباني، وبين المطلق الهيغلي. هنا يرفض مالك ما اعتقدنا انه انضواء في الخط الممتد من بارمنيدس الى هيغل، ويؤكد ان الوجود هو بالأفراد كل في ذاته، اما المعرفة فبالكليات ، فيكون هذا التمييز، بمثابة تعريف أولي لفلسفة الوثوق.
بيد ان هذه الوقفة ضد العقلانية الهيغلية، واتهامها بالغطرسة التيوطونية، تتماشى ويا للمفارقة، مع ارتماء في احضان النزعة التيوطونية المركزية الأوروبية عند هيغل التي تقول إن العقل للغرب والقلب للشرق، والتي تعطي مالك، إمكان التبشير بمبدأ الوثوق ضد الذاتية والعقلانية من جهة، كما تودع له الحق الحصري في الاقتباس الكيفي من الفلسفة الغربية، تحت يافطة "تمثل وحدة التراث المتراكمة"، وفي ظل استفهام ماكر يقول فيه: "ما رأيك اذا كانت القمم جميعاً في تراثهم وحضارتهم وتاريخهم الحي، ولم يكونوا في تراثنا وحضارتنا وتاريخنا الحي؟ هل هذا محض صدفة؟" . ان تتبع ما يقوله يظهر لنا بما لا يرقى اليه الشك ان هذا الارتماء في أحضان النزعة المركزية - الأوروبية هو نتيجة ملازمة للقول إن التاريخ الحقيقي هو المتمثل بتاريخ الفكر ولحظات الحسم الكبرى، كما انه نتيجة طبيعية لنفي مقولة التقدم في حركة الفكر، بل نفي الحركية ذاتها.
ان مبدأ الوثوق هو مبدأ السكون المطلق، وهذا ما يميز الوثوقية عن الضروب الفلسفية الأخرى من الايمانية لاحظ رفض مالك للقفزة عند كيركيغارد مثلاً. بقدر ما يجنح مبدأ الوثوق الى السكون، بقدر ما يفقد النص بهاءه، وتمسي أمام مطلقات من نوع "الفلسفة والمثالية شيء واحد"، و"أي فيلسوف على الاطلاق هو مثالي، وانتماؤه بالتالي افلاطوني". ينفي الكاتب، وهو تاريخياً من خبراء مكافحة الماركسية في الشرق، امكان قيام ممارسة فلسفية غير تلك التي تسنها المثالية، لكنه لا يقوم مثل سواه بنفي صفة الفلسفة عن ماركس، بل يعتبره فيلسوفاً، ومثالياً بامتياز، لأنه عنى بعالم المثل شأن سواه من الفلاسفة، واختار منها مثلاً معينة تعجبه، ولأنه شارك سواه من الفلاسفة في تغيير مجرى التاريخ ولم يتفرد عنهم في هذا الشأن، ويعلل مالك كل ذلك بأن في ماركس "جذوة من خارج التراث العقلاني الاغريقي، هي متأتية، بلا ريب، من التراث الايماني الابراهيمي".
لم يكتب المؤلف من الجزء الثاني سوى فصله الأول، في الكيانية، وهي المرتبة السادسة، وقد اختار هذا الاسم لتعريب Existentialism، منتقداً عبارة "وجودية". من أصعب ما يواجه الفلسفة باللغة العربية مشكلة ايجاد مقابل عربي للمصطلح الفلسفي الغربي، الا ان هذه المشكلة لا يبدو ان مالك قد حلها في "كيانيته" هذه، فنحن نراه يعود ويصف مذهب سارتر بالوجودية، عامداً بالتالي الى التفريق بين الأخير وبين كيانية كيركيغارد نظراً لإنكار سارتر لوجود طبيعة انسانية. ان المصطلح الغربي الواحد يستخدم بمدلولات مختلفة بحسب كل فيلسوف، فهل يكون لكل مدلول مصطلح عربي موافق له، أو يكون للمصطلح الغربي على رغم تعدد مدلولاته في مقابل واحد بالعربية؟ ثم هل يكون هدف التعريب ايجاد اسرة اشتقاقية عربية تقابل اسرة اشتقاقية غربية، أم تكون الأسر الاشتقاقية في كل لغة، مختلفة في تنويعها وتقسيمها باختلاف مبدأ الاشتقاق المتميز من لغة الى اخرى؟ ان مشكلة الاصطلاح الفلسفي ليست تقنية فقط. انها في الفلسفة مشكلة فلسفية.
وإذ يعيد المؤلف التأكيد مراراً على قرار الوجود السابق لكل وجود، وعلى خيار الموت السابق للموت، فإنه يستعين بفلسفة "إما... أو" الكيركيغاردية، رافضاً في الوقت نفسه "القفزة" التي تميز الديالكتيك عند كيركيغارد، مستبدلاً اياه ب"المعاينة". لقد جعل الكيانية بمثابة مرتبة تشدد على ان الوثوق يسبق الوجود. ان التأكد من وجود الآخرين، والتأكد من تماثل التراكيب الكيانية، هي بالنسبة له أمور جازمة ومبرمة فوق كل يقين، وخصوصاً في مواجهة اليقين الديكارتي الذي يدرك مالك جيداً ضلوعه في "جريمة" استقلال الانسان عن الغيب.
وبقدر ما يمثل هذا الكتاب احدى المحاولات المفصلية لكتابة نص فلسفي في لبنان، يمثل فصلاً لبنانياً من كتاب "تهافت الفلاسفة". يقول مالك: "ان ما يسميه عمانوئيل كانت بالثورة الكوبرنيكية في دنيا العقل، ويزعم انه قام بها على غرار ثورة كوبرنيكوس في علم الفلك، هو باطل في أساسه"، ويبدو لنا ان ما يواجهه مالك فعلاً ليس الفلسفة النقدية فحسب، بل الروحية الكوبرنيكية بالدرجة الأولى، فلا يمكن فهم الوثوقية الا كنقيض مباشر للكوبرنيكية، ومن هنا نفهم أيضاً اسباب الهجوم الضاري ضد ديكارت وحظر الشك جملة وتفصيلاً، وتصنيفه ككسل فكري، ومرض عقلي، بكل ما ينذره ذلك، من سقوط مروّع في مصيدة كبير الشكّاك في الفلسفة، سكستوس امبيريقوس، وعبارته القائلة إن "كل حجة انما تواجهها حجة مساوية لها".
* صدرت "المقدمة" للمفكر اللبناني شارل مالك عن دار النهار، بيروت 2001.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.