الرسام سلام عمر من الرسامين العراقيين البارزين، اختار مثل الكثيرين من مواطنيه المثقفين والفنانين ان يعيش في المنفى. والآن يقيم في الدوحة منصرفاً الى الرسم والتدريس الأكاديمي. وفي سلسلة معارضه العربية تستقبل صالة جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت للمرة الأولى، تجاربه في معرض يتضمن 23 لوحة أكريليك على خشب وقماش تحمل هاجس التعاطي مع المساحة كفضاء لأحلام الحرية، عبر لغة تتلاءم مع هندسة الحداثة الجديدة في تحطيم الحدود الثابتة للوحة الحائط، وبحثاً عن جمالية بديل من رقعة الوطن المحاصرة، بجذورها البعيدة وألوان تربتها ومناخاتها. ولأنه اعتاد الحفر على المعادن، راح يستعير في لوحته، وجه المحفورة ومظهرها وملمسها وطبقاتها. وهو يلوّن ويمحو ويختزل ويزخرف ويحرق ويضمِّد. كأنها جراح الذاكرة أو آثار شوائبها. سلام عمر هو من مواليد العام 1960 ويقيم في قطر منذ العام 1998. وشارك في معارض عدة ومهرجانات عربية. وله أكثر من خمسة معارض فردية بين بغدادوقطر. هنا حوار معه: تتعاطى مع اللوحة كمساحة افتراضية قابلة للتقطيع الهندسي. وهذا التقطيع يبدأ بالشكل لماذا؟ - التلاعب بالسطح التصويري هو نتيجة عملي الطباعي. بتُ استوحي المراحل التي يتم فيها تحضير اللوحة الطباعية، لأطبقها على اللوحة، بغية البحث عن رؤية محدثة لعمل تجريدي جديد بعيد عن الجمود واليباس. لوحاتك تصدم العين لفرط ما هي مشحونة برسائل بصرية متعددة الغايات والموثرات كأنك تريد أن تقول أشياء كثيرة في آن واحد وفي دفعة واحدة، أن تجمع بين شاكر حسن آل سعيد وضياء العزاوي؟ - لوحات العزاوي تعتمد على الألوان الحية المتصارعة، وشاكر حسن آل سعيد يخاطب المساحة من داخل رؤية فلسفية تتعاطى لغة الرموز السحرية واسلوب التحريق. أنا بين الاثنين وهما من أساتذتي الذين أحببتهم وتأثرت بهم، الى جانب رافع الناصري والأخير تدربت على يديه في فن الحفر الطباعي. أنا امتداد لهولاء. أنتمي الى جيل نشأ على أفكار تجمع البعد الواحد وعاش تجاذبات مفاهيم الحداثة والتراث والحروفية والتجريد. ماذا عن خطواتك في مجال الغرافيك؟ - بعدما أنهيت دراستي الأكاديمية في الغرافيك، عمّقت اطلاعي بالفنون العالمية. فتأثرت بأعمال تابياس وفونتانا وبوري. وكنت في بداياتي أرسم بالأسود والأبيض حتى أواخر الثمانينات، لأن الطباعة تحتاج الى استوديو وتجهيزات وأدوات، لم أتمكن من توفيرها إلا حين انتقلت للعيش في بغداد حيث أسستُ محترفاً خاصاً للغرافيك العام 1992. وبدأ احتكاكي منذ ذلك الحين بالفنانين الكبار الذين أخذت أنفّذ لهم أعمالهم في مختلف التقنيات الطباعية في محترفي. نفذتُ آنذاك أعمالاً كثيرة للرسام والنحات اسماعيل فتّاح، كما اكتشف سعدي الكعبي السمات الغرافيكية التي تحملها قماشة لوحته، فاشترى مني آلة الطباعة. تلك الخطوة قربتني من الوسط الفني ودفعتني الى دائرة الضوء ما ساهم في بلورة شخصيتي الفنية. وبعدما أقمت معرضي الفردي الثاني في بغداد، اكتشفت مؤثرات الفن السومري والآشوري وحضورهما في أعمالي وهما يمتزجان بأحاسيس رسام كهوف بسيط يخلو ذهنه من التطور العلمي وتتموج تعبيراته بالعاطفة. لماذا انتقلت من الحفر الى عالم اللوحة ومتطلباتها؟ - لم أمنع نفسي من التعاطي مع إغراءات اللوحة التشكيلية، بأسلوب الفنان التجريدي الذي يسعى دوماً للتفتيش والاختبار والاكتشاف. مستبدلاً شريحة المعدن، بالخشب أو القماش الذي أخذت أنقل اليه احساسي بالحفر وبطريقة التحبير والمحو، ما أتاح لي اجراء أبعادٍ لسطحٍ داخل مسطح حفراً أو حرقاً، وبالتالي فإن العلاقة بين الناتئ والغائر تذكّر بطبقات الأرض وتعرجات كثبانها. هذا النوع من العمل على القماشة وأبعادها، يميزني عن اتجاه شاكر من آل سعيد، الذي يبتغي البعد الروحاني للكتابات السحرية والأدعية. وعلى رغم تشابهنا في أسلوب التحريق، إلا انني استخدم اشارات بسيطة وخطوطاً متقاطعة أو شبكة مربعات أو وشماً، كما استلهم حركة النجوم والدوائر والاشارات البصرية. وما هي إلا مفردات ضئيلة أحركها بقوة. أدعها في دائرة الضوء ومراراً في دائرة الظلام. ومثلما أُربك السطح التصويري كذلك أربك العلاقات اللونية في مناخ التجريب. ماذا أضافت إقامتك في قطر الى تجربتك التشكيلية؟ - في العام 1998 تركت بغداد بعدما تلقيت دعوة لتدريس مادة الغرافيك لمدة سنتين في مركز الابداع في الدوحة - قطر. وهناك تعرفت الى شخصية بارزة ذكرتني بعصر النهضة في أوروبا. هو الأمير الشيخ حسن بن علي آل ثاني، الذي شجعني واقتنى بعض أعمالي، وفتح لي نافذة على عالم الفن، ومن خلال اطلاعي على مكتبة متحف قطر للفن العربي المعاصر، هذا المتحف الذي يضم روائع الأعمال التشكيلية العربية. وكذلك مكنني اتصالي من طريق الانترنت الاحتكاك مع الغاليريات والفنانين في العالم، وهي وسيلة مفقودة في العراق نتيجة الحصار. هذه الانتقالة حفّزتني لانتاج أعمال مهمة. مقارنة مع اقامتك في بغداد ما هي الصعوبات التي يلاقيها الفنان؟ - في بغداد ونتيجة الحصار السياسي والاقتصادي والثقافي، أصبحنا في عزلة كبيرة. نفتقد الى مواد الرسم والتصوير. وهي باهظة الثمن لا يمكن شراؤها بسهولة. ما كان بمقدوري أن أنفذ لوحات كبيرة الأحجام لو كنت مقيماً في العراق. لأنها مكلفة وصعبة الحمل والنقل ولا تُباع بسهولة. الجمهور يبحث عن لقمة العيش في ظل العوز والفقر والعزلة، ما يساهم في تراجع الفن. ثمة أصحاب مجموعات باعوا مقتنياتهم الفنية بأسعار زهيدة نتيجة الحصار. وإذا كان من سوق ناشطة هذه الأيام فإن السوق التجارية تشجع اللوحة الرخيصة مادياً وفنياً. وعلى رغم ذلك فلا يجوز نكران تجارب شابة وجادة تتمتع بحضور قوي ونافذ ومعظمهم من أبناء جيلي. كيف نحدّد موقعك في جيلك؟ - أنا فنان سومري، لستُ ابن هذا العصر إلا بانتمائي لتراث عريق أجدُ فيه كل محرضاتي الفنية. وتسحرني فيه دوماً المظاهر البدائية التي أتلمسها على سطح الكهوف. لذلك أسعى لتعتيق السطح التصويري ليحتمل اختزال الزمن. فأسترجع بذاكرتي ألوان الأرض، مثل صانع الفخار القديم الذي يبدأ بزخرفة آنيته، بأشكال هندسية بدائية غنية بتعبيرها الروحاني البسيط. هكذا أحاكي اللوحة كجزء من جدار أو كقطعة من خزف من بوابة عشتار، وربما كحطام من رقيم قديم. لأن خطابي الجمالي يمتد الى أبعد من المساحة التي أعيش فيها. ولو كانت مملوءة بالتناقضات؟ - أحاول أن أدفع من أعماق اللوحة الى سطحها سلسلة من التراكمات وقوى من المتناقضات. شخصيتي متضادة، وهي شخصية العراقي الحادة التي لا تقبل المساومات.