"فنانون عراقيون معاصرون" معرض تشهده صالة الأحداث الثقافية التابعة لمتحف معهد العالم العربي، ويضمّ لوحات لسبع فنانين عراقيين شبان يخرجون للمرّة الاولى من بغداد. شهادات إبداعية طازجة عن محنة المرحلة القاتمة. وهي الشريحة من الرسامين التي حجبت نشاطها سنوات حربي إيران والخليج والحصار الأخير، فقطعت اتصالهم وتواصلهم مع العالم الخارجي. ويستمرّ المعرض حتى العاشر من أيلول سبتمبر. يطرح المعرض سؤالاً إنسانياً قبل أن يكون فنياً مفاده: ماذا حلّ بعراق الفن التشكيلي خلال أزمة الحربين والحصار؟ وما هو مصير صالات العرض العريقة والمحترفات الزاهية وميراث جماعات "بغداد للفن الحديث" و"البعد الواحد" و"الرؤية الجديدة"؟ يثبت المعرض ان التجربة الإبداعية في العراق ما زالت تعاند الاندثار والاندحار وجدار الصمت. وهيأ المعهد بهذه التظاهرة على تواضعها إطلالة على ما بقي من سنوات التصحّر وانقطاع أدوات التعبير من ورق وقماش وألوان وسواها. يرسّخ المعرض معجزة "غاليري حوار" التي قامت في حديقة عامة، ثم تحولت الحديقة الى مقهى حوار بين الفنانين. ولعل أبرز مظاهر هذه المقاومة استمرار بصمات الرواد في لوحات المعرض وتجاربه الشابة، إذ نعثر فيها على خصائص أعلام فناني ما قبل الستينات. هكذا تتناسخ جدران شاكر حسن في تجارب كريم منصور، وتشع إشارات ضياء العزاوي الملسوعة بالشمس السومرية في زخارف فاخر محمد. أما آفاق أو أبجديات رافع الناصري فتتجلّى في لوحات شداد عبدالقهار، وأشباح ملصقات مهر الدين الكابية في تشكيلات قاسم سبتي. يلتزم معظم العارضين بالإشارات السومرية. كل يتناول "رقعة الشطرنج" على طريقته، ومعظمهم مولودون ما بين بداية الخمسينات وبداية الستينات، ودرسوا في معهد فنون بغداد، وانحصرت عروضهم ما بين بغداد وعمان. وتنتسب خصائص الكثيرين منهم إلى غلبة الكرافيزم والرسم على السيولة الصباغية كما هي في تاريخ الفن العراقي منذ جواد سليم، ما عدا غسان غائب. لذا يبدو غريباً عن المجموعة - ومهما يكن من أمر فالمعرض غير متماسك في مادته، ولا شك انه لا يمكننا أن نركن إلى شهادة أو اختيارات "كوميسير" المعرض الفرنسي ماثيو، فمن الواضح التسرّع في إنجازه. ويكشف النص المبتسر الموجه الى الصحافة عن تواضع معرفته بتاريخ الفن العراقي وحاضره. نكتشف ذلك من خلال إحالاته، ومقارناته المسطّحة، وهو نفسه يعترف بغياب النحت ويذكر أسماء رواده وليس الشباب اي جيل المعرض لانه لا يعرفهم والذريعة تواضع الامكانات المادية ولعل هذا ما يفسر ايضاً غياب الكرّاس. يحتلّ كريم رسن منصور مركز الثقل في المعرض فهو من الوعود الكبيرة التي لا تقل اصالة عن الرواد، يزرع في لوحاته الجدارية المتغضنة إشارات عدمية مأسوية متصحّرة، ويخدش جدرانه بكتابات يائسة وحميمة في آن - وهو تعرفنا للمرّة الاولى على بشارته في المعرض العراقي السابق الذي اقيم في المكان نفسه من المعهد. كان ذلك عام 1989 وتحت عنوان "بين دجلة والفرات". كانت أعماله الخشبية الموشومة برسوم وثنية بالغة الاصالة متفوقة في شكل صريح على اعماله الراهنة، ومما يثير العجب انه اقترب اكثر من جدران شاكر حسن مع بعض من الاسلبة والتنميط، ومن الغريب ان اعمال اليوم تتراجع في مفهومها عن القديمة لانها تعود الى فترة الافتتان بجدران أو كتابات الفنان الاسباني تابييس وعناصره المشهدية المتهافتة، في حين ان لوحاته الاولى كانت بريئة من اي اثر للظل والنور، وتقع في تخييل حدسي على مستوى الخط واللون لا يجارى. وقد يكون الدفتر الورقي المعروض اقرب الى المستوى السابق انجزه خلال ايام الحصار، كل يوم ورقة ورسم بالحبر الاسود، كل يوم يقلب صفحة ويعيش مرارة اليوم الجديد وهكذا دواليك. مع تجربة شداد عبدالقهار تستمر حساسية اللوحة - الجدار ولكن المادة تبدو اقرب الى طبيعة اللدائن البتروليّة، يحزّز في بشرتها البضّة مفردات صورية سومرية او يستعيد آلية ولادة هذه الابجدية في الألف الرابع في اوروك فيختار واحداً من الاعضاء البشرية: فم أو عين أو قلب أو رأس، يجمع الهيئة الاسطورية مع الشعبية ويجمع النحت مع الكرافيك، من غير ان تكون له علاقة بالبوب الاميركي كما يدعي كوميسير المعرض. اما لوحات قاسم سبتي فتنتسب صراحة الى الخصائص الكرافيكية والطباعية في حساسية اللوحة العراقية، وتبدو الوانه واطئة الدرجات وذات وجدانية حزينة. يبلغ كريم سيفو درجة أبعد في هذا الاتجاه قانعاً بالرسم والتلوين بالاقلام على اوراق صغيرة في قياس الكتاب. وتزداد في هذا المجال استعارته من الرسوم التوضيحية السهلة. وقد تكون ابرز معروضاته تلك التي تمثل رأساً مأسوياً مرسوماً بالاسود والابيض، خارجاً من "رؤوس" علي طالب وعلاء بشير. يحصر غسّان غائب تكويناته التجريدية ضمن إطارات، وما أن يصوّر في المساحة الداخلية حتى تطفو الصباغة على هذه الحدود فيدخل الإطار في مساحة التلوين. تبدو هذه العلاقة بين المساحة الداخلية والحافات اشبه بما يحدث في المخطوطات المحلية، حيث تهاجر الحلية من باطن الصفحة الى الهامش. وتبدو تلطيخاته شفافة استشراقيّة. قزحيتها سديمية تصل الى درجة "اللاشكلية" وهو نوع من التجريد الغنائي انطفأت شعلته منذ بداية الستينات في أوروبا. أما تجريدات فاخر محمد الزخرفيّة فتملك الاشعاع المشرقي نفسه، ولكنه يخلط بين تلقائية العزاوي العميقة وبين سطحية الاداء المتسرّع. لذا فإن تجربته اقرب الى الهواية منها الى الاحتراف. كذلك الامر بالنسبة الى الرسامة هناء مال الله، فهي تعرض اتجاهين متناقضين: الدفاتر الورقية المرسومة واللوحات ذات المواد السخيّة. تقوم الاخيرة على التوليف بين السمة الجدارية في السطح والرسم الكرافيكي ولعل ابلغ هذه اللوحات تعبيراً هي لوحة: "تمثال سومري يصلّي في واجهة متحف". ونعثر في هذا العنوان على الالتباس الذي تعاني منه مضامين المعرض. فهي تميل الى خلع رداء الهوية الثقافية اكثر من البحث صراحة عن الهوية الاصلية او البديلة. يظهر ذلك من خلال غياب الشجاعة الكافية للبوح بمكنونات الذات الثقافية. وتبدو استعادة خصائص الرواد بطريقة خجولة مدرسية او مكرورة. ونسمع في المعرض صرخة "مكتومة"، مرارة مأزومة ولكنها مختومة بالشمع الاحمر، وخصوصاً انّ العارفين بالامر يدعون ان اسماء غابت كان من المفروض حضورها واسماء شاركت لاسباب غير فنية. قد لا يخلو هذا الحكم من قسوة فالمعرض يشبه الزهرة التي تضرب جذورها في الاسمنت والحديد، على رغم ما يعفّرها من غبار وما يطوّقها من أسلاك شائكة.