شهدت البيئة العربية والدولية، في العقد الماضي الكثير من التحولات والتطورات والإشكاليات التي أثرت في الصراع العربي - الإسرائيلي. ولكن لم يجر تمثّل هذه التحولات في الخطابات السياسية السائدة الى الدرجة التي تمكّن من صوغ اسس التعامل معها أو مواجهتها، إن بسبب عدم نضج التفكير السياسي للحركات السياسية العربية، وحداثة تجربتها، أو بسبب التجاذبات والتحيزات السياسية العصبوية. وما زال التفكير السياسي العربي، على الأغلب وبدعوى الثوابت، يبحث عن الوحدة العربية في واقع يغرق في القطرية، وينتج البنى ما قبل المجتمعية العائلية والطائفية، ويتمسك بمقولة الصراع على الوجود مع إسرائيل، وبشكلها المطلق، من دون دراسة مدى تمثّل هذه الحقيقة في الوعي والممارسة السياسيين، سواء على مستوى المجتمعات أو على مستوى الأنظمة. كما يجري تقديس خيار الحرب النظامية أو الشعبية من دون تفحّص البنيات المجتمعية التي يفترض أن تقوم بها، فضلاً عن وجود الإرادة اللازمة لذلك لدى القوى المسيطرة. وبالمقابل يجري الحديث عن فشل خيار الحل العسكري وكأنه كان متجسداً بالفعل. والسؤال الملح هو: لماذا عندما طرحنا الوحدة العربية وجدنا انفسنا نتوق حتى للوحدة الوطنية، على مستوى كل بلد عربي؟ وعندما طرحنا التحرير لم نستطع فرض تسوية الحد الأدنى، وعندما قلنا اننا ضد التخلف إذا بنا ننتج التبعية والتخلف والفساد والقهر؟ وإذا أخذنا مقولة الصراع العربي - الإسرائيلي مثلاً، وبغض النظر عن تغير البيئة السياسية الدولية بهيمنة الولاياتالمتحدة على "النظام الدولي الجديد، وتأثيرات ذلك على هذا الصراع، فإننا نرى أن التأثيرات الحاسمة في هذا المجال إنما تقع على عاتق العوامل والبنى الذاتية العربية. والواقع أن التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في المجتمعات العربية، الحاصلة بنتيجة التفكك العربي والتهميش الاقتصادي وتعثر المسار الديموقراطي، وإعادة انتاج البنى البطركية أسهمت في انتاج البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا تضع المصالح الوطنية والعربية على رأس جدول أعمالها، مع تنامي نزعة فك الارتباط بالصراع العربي - الإسرائيلي، ثم تبني "السلام كخيار استراتيجي". وهذا أدى الى تغير موضوع هذا الصراع من ممانعة وجود إسرائيل الى البحث في شكل هذا الوجود، أو من البحث في ملف حرب 1948 ونتائجها، الى البحث في ملف حرب 1967، كما تغيرت ميادين الصراع من ميادين الحرب والمقاطعة الى ميادين المفاوضات والمصالحة، ومن حيز العداء والنفي الى حيز التعايش والقبول وربما التعاون أحياناً. والنتيجة أنه لا بد من الأخذ في الاعتبار التحولات الدولية والعربية وانعكاساتها على مجمل قضايا ومستويات الصراع مع إسرائيل. فالعرب يفتقدون لاستراتيجية مشتركة في عملية التسوية بقدر افتقادهم لمثل هذه الاستراتيجية في صراعهم مع إسرائيل. ونتيجة ذلك فمن الطبيعي أن تواجه قضية فلسطين في العالم العربي انتكاسات وتعقيدات، مثلها مثل أي قضية أخرى كقضية التكامل الاقتصادي أو التبادل التجاري، أو حتى توحيد مناهج التربية والتعليم. والمشكلة الأساسية هنا تتعلق بوضعية الإنسان العربي أو وعيه لذاته ولمواطنيته وعلاقته بالسلطة مروراً بمستوى التطور المجتمعي والنظام السياسي. ومن ناحية ثانية لم يتمثل التفكير السياسي العربي التحولات في حقل العلاقات والصراعات وموازين القوى الدولية. وهذه أدت الى تضاؤل عناصر القوة التقليدية المتمثلة بمساحة الدولة وعدد سكانها وقدرتها العسكرية، بنتيجة التطورات العلمية والتكنولوجية ومسارات العولمة الاقتصادية والسياسية والإعلامية. والمشكلة هنا أن الدول العربية التي لم تهيئ أسباب كسب الصراع بالوسائل العسكرية مع إسرائيل، لا تبدو مهيأة لخوض هذا التحدي معها في المجالات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعلمية. والواضح ان المشكلة ليست في الإمكانات وإنما في تحرر الإرادة وفي مستوى إدارة الصراع. والصراع مع إسرائيل لم يعد وهو ليس بالضرورة حكراً على الأشكال العسكرية والنظامية التي تضطلع فيها الدولة بالدور الأساس، وإنما بات مجالاً للمشاركة الشعبية، وبات بالإمكان خوضه بمختلف الأشكال السياسية والمدنية. وهو ما تؤكده وقائع الانتفاضة الفلسطينية، وأشكال الممانعة الشعبية العربية لقبول إسرائيل. وفي الواقع فإن التفكير السياسي العربي، معني بتطوير نظريته في الصراع والتي كانت تقتصر، فقط، على آليات الاشتباك المباشر وآلياتها العنيفة التي تستنزف القدرات والإمكانات العربية أساساً، وكانت مصدر تفوق لإسرائيل. واشتغلت النخب والأحزاب طويلاً بالطريقة العسكرية - الأوامرية والانقلابية، وبمعزل عن مجتمعاتها وبروح الوصاية عليها، ومن دون مراعاة مستوى تطورها السياسي والاقتصادي والثقافي، وفي زحمة الهموم والقضايا أنتجت الكثير من الشعارات والمقولات المطلقة. ولكن المشكلة الأساسية ليس في صحة هذه الشعارات، أو نبلها، وإنما في عدم توافر الحامل المناسب لها سواء على مستوى النظام الرسمي الراهن ومستوى الأحزاب الموجودة أو على مستوى الجماهير بوضعها الراهن، وبالقيود التي تكبلها وبمستوى تطورها المجتمعي والثقافي. * كاتب فلسطيني.