لا شيء كان لينبئ بأن هذا الرجل الهادىء وذي القامة المعتدلة والصوت الخفيض، سيتحدث بكل هذه القسوة عن امراض القرن الحادي والعشرين. وبعيداً من الطمأنينة التي يركن اليها الكثيرون حين يتحدثون عن الأوبئة الجرثومية وكأنها شيء من الماضي، او كأنها أمور تقع في مكان بعيد، فان الطبيب اللبناني جورج بحر يهزأ من هذه الطمأنينة التي يصفها بانها كاذبة وخطيرة تماماً "ان الايدز ليس تحت السيطرة ابداً، وعلى العكس نحن على ابواب ضربة جديدة من هذا الفيروس تفوق كل ما نتخيله، وينطبق الوصف نفسه تقريباً على وباء جنون البقر... ان القرن الحادي والعشرين هو قرن مكرس للأوبئة الفيروسية بامتياز". وعندما ضربت طائرات الارهاب في نيويوركوواشنطن، وصف بعض مفكري الغرب الحدث بانه بدء حرب بين الدولة والقوى الفيروسية الصغيرة، النشطة والحسنة التنظيم. واسهبت بعض تلك المقالات في المقارنة بين الفيروس وما يماثله من قوى في السياسة. هل كان الطبيب محقاً في انذاره، وربما الى حدٍ ابعد مما تخيله هو نفسه؟ الارقام تحمل نذر الكارثة وبكل بساطة، اشار بحر الى ان الاطمئنان في موضوع الايدز هو سير بأعين معصوبة نحو هاوية سحيقة. "يميل البعض الى الانكار، والبعض يجهل الحقيقة، وهناك من ...يكذب"! وبرأيه ينطبق هذا الوصف على الدول والجماعات والمؤسسات والافراد على حد سواء. ففي خلال عقدين من الزمان، قتل الفيروس 16 مليون شخص، ويحمله 34 مليون شخص في دمائهم، وتتزايد اعداد هؤلاء بمعدل 15 ألف شخص في اليوم الواحد. ذلك هو نموذج من أرقام الايدز وخطورته. وفي المقابل، دأب الروس على نفي وجود حال وباء بالايدز لديهم، ولم يعترفوا خلال الثمانينات من القرن الماضي سوى بمئتي حال. وسرعان ما سقط ذلك القناع الصفيق، فسجلت عشرة آلاف حال قبيل ختام القرن الماضي. وقفز هذا الرقم مجدداً الى سبعين الف حال في ختام العام 2000. وبلغت الاصابات الجديدة في روسيا خلال 2001، نحو 75 ألفاً، اي بزيادة مقدارها 15 ضعفاً، بالمقارنة مع ما سجل رسمياً من حالات اصابة خلال السنوات الثلاث الماضية. وتعطي الولاياتالمتحدة ارقاماً اشد تشاؤماً، فقد حصد الايدز 400 الف شخص منذ ظهوره، أي اكثر من خسائرها في الحربين العالميتين خلال القرن العشرين. ويقطن فيروس الموت في دماء 330 الف شخص من سكانها. وأخيراً، أجرى مركز ترصد الامراض في اتلانتا دراسة شملت ثلاثين الف شخص ممن يحتمل انتقال الفيروس اليهم. وبينت الدراسة ان هناك احساساً مخادعاً بالامن لدى البيض، الذين يميلون الى اعتبار الايدز "مرض السود والملونين"، وبالتالي باتوا اقل تنبهاً لاجراءات الوقاية، بما في ذلك اجراء الفحص اللازم عند الضرورة. وفي المعنى العلمي، فان البيض هم اشد قابلية لانتقال فيروس الموت اليهم، نظراً الى نومهم على وسادة الامان الزائفة. وبحسب أحدث تقارير "منظمة الصحة العالمية"، فان الايدز ينتشر في سرعة لافتة في العالم، خصوصاً الدول الغربية الغنية، اضافة الى دول اوروبا الشرقية. واشار مدير برنامج الاممالمتحدة امكافحة الايدز بيتر بيوت، الى ان اوروبا الشرقية سجلت ربع مليون اصابة خلال هذا العام. وحذرت مديرة منظمة الصحة غرو هارليم من ان الارقام المخفوضة تعكس الفشل في ترصد المرض في كثير من البلدان، ما يعني انتشاراً صامتاً ومريباً للايدز في تلك البلدان. وسجلت افريقيا 4،3 مليون اصابة جديدة من اصل اربعة ملايين اصابة جديدة في العالم اجمع. ومات في تلك القارة 3.2 مليون شخص خلال هذا العام، وبلغ معدل الاصابة خمسة في المئة في دول غرب افريقيا و 30 في المئة بين الحوامل في سوازيلانده وبوتسوانا. وتغير "بروفيل" الاصابة في بريطانيا ودول غرب اوروبا، وهي مناطق اعتادت القول ان فيروس الايدز الاكثر انتشاراً فيها هو من النوع الذي ينتقل عبر الجنس المثلي لدى الذكور، اضافة الى المخدرات. ولا تسمح الارقام بالاستمرار في هذا الامان المخادع، اذ تبين ان 54 في المئة من الحالات الجديدة في العام 2001 حدثت بين ممارسي الجنس الطبيعي. وكذلك ارتفعت نسبة الاصابة بواسطة هذه الطريقة الى 47 في المئة في ايطاليا، بعد ان كانت 28 في المئة في العام الماضي. ولا تزال المخدرات تمثل اكثر من نصف حالات انتقال الفيروس في معظم اوروبا الغربية. وشدد بحر على ان التحذير من خطورة المرض الداهمة يجد تبريره ايضاً في عدم وجود ادوية تشفي من المرض، والكلفة المرتفعة جداً للادوية المستخدمة راهناً في علاجه، وفي عدم التوصل الى لقاح مناسب. ويرى ان اي لقاح للايدز لن يتوافر قبل خمسة اعوام على الاقل، والاهم من ذلك ان الوقاية التي تعطيها اللقاحات في هذه الحالات لا تزيد عن ثلاثين في المئة ممن يحتمل تعرضهم للاصابة! وهكذا، يجد قلق بحر عن الوضع الحالي للايدز ما يسنده، وكذلك سخطه عن الطمأنينة غير المبررة التي تعرض حياة الملايين الى خطر داهم. بريون مبدأ جديد في الوباء ويشير الى ان القرن العشرين لم يختتم قبل ظهور نوع جديد من الاجسام المولّدة للعدوى، هو "بريون" مرض جنون البقر. وعلى سبيل المثال، عادة ما تكون الفيروسات المعدية اجساماً مكونة من احد احماض الوراثة "دي ان اي" DNA او "ار ان اي" RNA. وابسط وصف ل"البريون" انه نوع غير طبيعي من بروتين يوجد في خلايا الدماغ، اي ان هذا البروتين يكون طبيعياً ثم يحدث "شيء ما" يغيره فيصير قادراً على احداث المرض. ويمثل انتقال "بريون" عبر اللحوم المصابة مثلاً، واحداً من ثلاث طرق للاصابة بالمرض، تشكل 85 في المئة من مجمل الاصابات. ويمثل حدوث طفرة جينية MUTATION قابلة للتوارث طريقاً آخر نحو خمسة في المئة في انتقال بريون. وتعطي هذه الطفرة امراضاً مثل "الارق المتوارث" Familial Insomnia، واضطراب "جاكوب - كروتزفيلد" الذي يصيب الدماغ ويسبب النوع البشري من جنون البقر. وهناك نوع من الطفرات الجينية لا تنتقل من طريق الوراثة، وتعطي البريونات التي تصاحب ظهور بعض حالات متفرقة من "جاكوب - كروتزفيلد". ماذا عن الحاجز بين الانواع الذي يفترض ان يحول دون الانتقال الواسع ل"بريون" من الابقار الى الانسان؟ يرى بحر ان هذا الحاجز يكون فعالاً في الجيل الاول من الابقار المصابة، لكن بريون يتأقلم، ومع الجيل الثاني والثالث، يصبح اشد قدرة على الانتقال من المواشي الى الانسان! الفيروس والشبه مع الارهاب! ليس من المنطقي القول ان الايدز يبعث على الرعب مثل الارهاب، ولا يصح التعامل مع المرض من منطلق الهلع في أي حال من الاحوال. ولكن ماذا لو قارنا بين ما حدث في واشنطنونيويورك في 11 أيلول سبتمبر وما يفعله فيروس الايدز في الجسم؟ في البداية لنتذكر أن ذلك الفيروس يحدث أذيته بواسطة دخوله الى الجسم، ويسير في نسيجه وأوعية اتصاله مثل الدم ، ويسيطر على مجموعة من الخلايا ويستخدم ذكاء برنامجها الداخلي في السيطرة عليها، ويستعملها في إحداث الاذى. وبالمقارنة مع الانسان، فالفيروس هو كائن بيولوجي يتميز بصغر حجمه، ولذا يدرس في علم خاص بالكائنات الدقيقة التي تحدث مرضاً، هو علم المايكروبيولوجيMicrobiology، وترجمته العربية هي "علم الجراثيم". ومن صفاته ايضاً انه قابل للعدوى والانتشار، وان له القدرة على عبور الحدود، والتنقل عبر مجموعات بشرية مختلفة، ويستخدم علم الاوبئة صفات الانتشار والعدوى جزءاً من تعريف الجرثومة. بل يشير بعض الدراسات في علم هندسة الوراثة الى ان المجموعات البشرية تختلف في مناعتها حيال انواع معينة من الجراثيم. ماذا لو قارنا ذلك مع 11 أيلول؟ هنالك مجموعة صغيرة أحدثت أذى في كيان قوة كبرى، وذلك بأن دخلت الى ارضها، في خطوة اولى، ثم تنقلت فيها. وبعد ذلك، سيطرت على برنامج ذكي محدد القدرة على الطيران، واستخدمت طرق اتصاله رحلات الطيران، وسيطرت على مجموعة منها الطائرات واستعملتها في إحداث أذى عميم في الجسم الكبير. ثم علت نبرة الحديث عن قدرة الارهاب على الانتقال عبر الحدود، بل ان الرئيس جورج بوش استخدمه للتعريف به، بحسب عبارته الشهيرة عن "الارهاب ذي البعد الدولي". ووصمت به مجموعة بشرية محددة، الى حد وصل الى الاستهداف بحسب العرق والشكل والمظهر، ونسب اليها نوع معين من الارهاب. ثم صدرت قوائم تذكر بفرمانات السلطنة العثمانية، تنسب الى مجموعة من بشر الارض إرهاباً!