أقام الفنان السعودي المعروف عبدالله حمّاس معرضه الشخصي الأخير في "أتيليه جده للفنون الجميلة"، والصالة هذه تتميّز برحابة جدرانها التي تصلح لاستقبال أعمال حماس العملاقة، وهي تمتد طولاً أمتاراً عدة. ولذلك سمّي المعرض "جداريات". وهو المعرض الشخصي الثاني عشر للرسام. يعتبر الفنان حماس احد رسامي مجموعة جدّه المعروفين بنشاطهم التشكيلي. ارتبط اسمه في بداية التسعينات ب"بيت التشكيليين"، القائم في احد القصور القديمة في اعرق احياء جده، وهو احد مؤسّسيه، وتسلّم إدارته دورات عدّة. والأهم من كل ذلك ان النادي احتضن معارضه ونشاطه التصويري اليومي، وقد تعرفت عليه وعلى جدارياته عام 1993 في هذا الموقع، وظلت شخصيته الديناميكية وميله الى التصوير من دون حدود صورتي ماثاتين في ذهني. ما زلت اذكر كيف كان يصوّر مباشرة بألوان الاكريليك على قماشة "رولو" كاملة تتجاوز العشرة أمتار وهو ما نسميه بالعامية "توب القماش"، لاحظت يومذاك انسجاماً يصل حد التطابق بين حيوية شخصيته وتسارع فرشاته وتجريداته الحدسية التي تفيض وجدانياً من دون اي افتعال او قرار مسبق. كانت تدفقات عوالمه حافلةً بالاشارات الغرافيكية المحليّة، وذاكرة التجريد الغنائي الباريسي، ومع الايام ترسخت الأولى وتراجعت الثانية، وذلك من خلال بحثه الدؤوب عن جذور هويته الثقافية، وخصائص ذاكرته البصرية التنزيهية. ولعل ما يجدر ذكره ان معرضه الذي أقامه في بينالي القاهرة خلال دورة 1995 كان أرسله بكامله جاهزاً ومتصلاً في صيفة رولو ثوب قماشي كامل يتجاوز الثلاثين متراً. وطلب من فناني إدارة البينالي تقسيمه الى لوحات صغيرة، وهكذا كان. يتعامل حماس مع السطح التصويري في طريقة سردية، وتداعيات متلاحقة لا تقبل التوقّف، تماماً مثل تربيعات السيراميك الملون على الجدار، ومثل صفحات ألف ليلة وليلة، وهي تقبل مثلها التفريخ الى ليالٍ منفردة. ولعل هذه الخصائص كانت غائبة في معرضه الباريسي الذي أُقيم قبل عامين، فقد أسرت قياساته ابعاد الصالة. وهو ما يخالف جذرياً طبيعته التخيلية المتدفقة، التي تعتمد على صيرورة التجربة الداخلية، وانعكاسها في صيرورة المادة وامتدادات التكوين، صيرورة لا تعرف إلا التغيير من حال الى حال مثل تقلبات الموجة. وتفترش هذه الحيرة الابداعية مساحة الجدار والبيئة، ولذا تبدو اللوحة اشبه بالشريط السينمائي المتتابع، كلما توقفت شريحة منه عبرنا الى تداعيات صورية اخرى وهكذا. يحتل سخاء انتاجه وتسارعه وامتداده المذكور محاولة لاستثمار المدى الحيوي الفيزيائي. ولا علاقة له بالكم التسويقي او الاستهلاكي. فالقياس الكبير يناسب بعض الفنّانين من امثاله ولا يناسب آخرين. وتورّط المشرفون على متحف "متروبوليتان" في نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية في الطلب من الفنانين المعروفين تكبير أحجام أعمالهم. وقد أخفق بعضهم مثل النحات جياكوميتي الذي عُرف بنحول أشكاله الوجودية العدمية. حماس يملك مزاجاً معاكساً، قريب من مزاج فنانين أميركا اللاتينية من مثل الفنانين ريفيرا وسيكيروس، اللذين لا يستوعبان السطح التصويري الا جداراً يتعايش مع تدافع جماهير المدينة، يشاركهم خروجهم من انطوائية لوحة الحامل والمنمنمة المرسومة في الكتب او الايقونة القزمة. لكل فنان قياس خاص في الادوات، سواء اللوحة ام الفرشاة، يتعايش معها، ويتحكم من خلالها بتطويع المادة. وطرحت هذه المشكلة منذ ان اوصى الفنان دولاكروا بأن يتدرّج المنظر في اللوحة من الفرشاة ذات القياس الرحب، حتى القياس الأصغر، من خلال العمارة المبدأية التي تنتهي بالتفاصيل. وهكذا يتوقّف الفنان في اللحظة التي لا تسمح فيها الفرشاة والعجائن اللونيّة بأكثر من التفاصيل. فالضوء وضبابه القزحي يعتمدان على الالماح اكثر من التصريح، في حين تعتمد الطبيعة والصورة "الفوتوغرافية" على الصقل اللانهائي. يذهب فناننا حماس ابعد من ذلك في نسبية المواد، فهو يصوّر على مدى ارحب مما يحتاجه ثم يتوقّف عند الحدود التي يقترحها التداعي الحدسي في التكوين. ولا نجد لهذه الطريقة مقابلاً في تاريخ الفن إلا في الفترة الانطباعيّة، وذلك عندما صوّر الفنان كلود مونيه المنظر على قماشة دائرية تطوّق المشاهد بزاوية كاملة: .36 درجة. أما تولوز لوتريك فلم يكن يثبت تكويناته الا بعد لصق ما تحتاجه القماشة من الاطراف، ثم يقصّ الزيادات بعد رتق الاقمشة، فيحصل على النسبة التي تتناغم مع طبيعة التخيلية والفيزيائية الجسدية. نعثر لدى هؤلاء مثل حماس على خيانة صريحة لمبدأ القياسات والنسب الذهبية الاتفاقية المثبتة سلفاً لدى شركات صنع الادوات، وهي استنبطت هذه النسب من قياسات الاكاديميين الكلاسيكيين، وقد خصّصوا قائمة للمناظر وأخرى للوجوه وأخرى للطبيعة الصامتة ثم للتكوينات الخ... وهكذا ولد مبدأ القياس النسبي الخاص بكل فنان. وصل فنان "البوب" الأميركي كريستو الى اجتياح اقمشته البيئة الطبيعية جبل - شاطئ، او التنظيمية جسر او إدارة امانة العاصمة - وكان آخرها تغليفه لجسر "البون نوف" في باريس. ولكن هناك فنان من اصل جزائري اشد أصالة منه هو محجوب بن بلّة الذي ابتدأت شهرته بتصوير ارضيّة طريق "اوتوستراد" عام في شمال فرنسا، فرسم بتعويذاته العربية الملونة إثني عشر كيلومتراً. ترتبط رغبة عبدالله حماس الامتدادية بالموروث المعماري الذي يجعل من الحياكة السردية شبه اللحنية المشرقية نسيجاً من السيراميك والزيلليج والفسيفساء تتسلق الجدران وتنعكس في برك الماء والعمائر الشفافة. مثلها مثل تمدد السجاجيد التي تنقل صورة الفردوس الى داخل البيت. في كلّ هذه الحالات يعانق العمل الفني المشاهد وليس العكس، اي اننا عوضاً من تأمله على الجدار مثل اللوحة ندخل في محيطه اللوني والخطي، وهو ما كان يدعوه مونيه "فن المناخ" وهو الفن القريب من المناخات الموسيقية المشرقية. وهنا نتوقّف عند ملاحظة معناها ان بعض لوحات حماس تعتمد على مفردة تربيعية قابلة للتكرار والتنوع حتى اللانهاية، تماماً مثل نظام الموسيقى الافقية اللحنية من مقامات وادوار وتواشيح وسواها. تبدو هذه اللوحات - على رغم غربتها كل مرة عن بقية لوحات المعرض - اشبه برقعة الشطرنج التي تكشف نظام التنويط العضوي المضمر لبقية اللوحات. يبدو هاجس هذه التربيعات الجبرية المتعامدة مناقضاً للتداعي الغرافيكي الذي يستحضر صور الطفولة من بيوت طينية ونخيل وبوابات ومنافذ الخ... ولكنه في هذه الحالات يصوّر في فراغ فلكي مشرقي منزّه عن التظليل والمنظور والتكتيل، وذلك ضمن "بانوراما" مشهدية تفرد اجنحتها في آفاق لا نهائية. ثم يترك للمشاهد كما ترك لبينالي القاهرة مهمة اختيار شرائح مجهرية من شريطها الافقي. يبدو عبدالله حماس في معرضه الراهن اشد حسماً وتطرفاً وتعرفاً على خصائصه هذه. لذا فقد اقتصرت لوحاته على سبعة "لفائف" جدارية تمتد كل منها مسافة أمتار.