نورمان جويسون هو واحد من مخضرمي هوليوود، الآن. كان ذا سمعة طيبة في العقود الفائية، لكنه الآن شبه منسيّ. ومع هذا ها هو فيلمه الأخير "الاعصار" يستقبل، إذ عرض، بحفاوة وبضجة. هنا نلقي نظرة على الفيلم، وفي العدد المقبل نجري حواراً حوله مع مخرجه. العاطفة غلبت الحكمة، والحكاية سادت المفهوم والترفيه انتصر على التعمق في أفلام نورمان جويسون الى اليوم. وفيلمه الجديد "الإعصار" لا يختلف كثيرا عن باقي أعمال سيرته، الا من حيث أن المرء بات يعلم أنه أحيانا ما يمكن تقدير سينما مخرج يحاول دائما صنع أفضل ما يستطيع حتى وإن لم تكن النتيجة على النحو التي يتمناها الناقد. "الإعصار" ينتمي الى أنواع كثيرة وتيارات، لكن أحد أهمها هو سينما القضايا. والقضية هنا قوية بمضمونها ليس فقط لأنها تدعو الى الإنصاف والمساواة والعدالة، بل أساسا لأن القصة واقعية حدثت مع روبين هوريكان كارتريقوم بتشخيصه دنزل واشنطن: ملاكم أسود في الستينات على شيء من الشهرة والقوة. في أحد الأيام كان في ملهى حيث تعرف على شاب أسود آخر معجب وهذا عرض على روبين أن يكون سائقه لليلة. قبل ابتعادهما عن الحانة توقفهما سيارة شرطة. تقبض عليهما وتقودهما الى الزنزانة كمتهمين بارتكاب جريمة قتل ذهب ضحيتها أربعة رجال بيض في حانة أخرى. خلال التحقيق يصل التحري ديلا بيشا السوري الأصل دان هدايا الى المكان ويكشف الفيلم عن أن التحري يكن لروبين الضغينة، فهو متأكد من أن روبين ارتكب الجريمة ومصر على تقديم الإثبات لكي يضعه وأمثاله وراء القضبان. يتم تقديم الرجلين الى المحكمة التي تصدر حكمها عليهما بالمؤبد. الفيلم ينفصل عن الشاب الآخر منذ البداية ثم يبتعد عنه تماما منذ دخول روبين كارتر السجن لقضاء فترة عقوبته. طوال الوقت يردد أن بريء من التهمة المنسوبة اليه. اصراره على البراءة جلب اليه المتاعب. لقد رفض أن يرتدي ثياب السجن فوضع في عتمة الزنزانة الصغيرة تحت الأرض منفردا لأسابيع. وبصعوبة حافظ روبين على اتزان عقله. في مشاهد مؤثرة نراه يكاد يفقد تلك الرزانة متحدثا الى نفسه، ملهوسا ومتعبا. حين انضمامه الى عنبر المساجين، رفض الاشتراك معهم ايضا. قرر أن لا يدع السجن يستولي عليه لأنه حالة لا تخصه فهو بريء. روبين قاوم الوضع بتجنبه القيام بما يقوم به الآخرون "كنت أستيقظ حينما ينامون وأنام حين يستيقظون". علاوة على ذلك ألف كتابا، تم طبعه وطرحه في الأسواق و... من دون رواج. لكن نسخة قديمة من الكتاب، بعد سنوات عديدة، تصل الى يدي شاب أسود أسمه ليسرا روين شونن ترك اميركا الى كندا ليعيش مع طلاب جامعيين أكبر منه سنا. رجلان وامرأة يشجعونه على شق طريق مستقبله بعدما لجأ اليهم من واقع عائلي سيء. روبين يصبح رسالة ليسرا والمجموعة الذين يؤمنون ببراءته ويقررون استكمال التحقيق في ملابسات القبض عليه، ذلك التحقيق الذي كان محامي روبين توقفوا عنه بعد عدة محاولات مخفقة. في النهاية، يتم تقديم القضية لا على محكمة الولاية التي تم لها النظر في القضية أكثر من مرة من دون نتيجة بل على المحكمة الفيدرالية التي هي آخر جهة يمكن اللجوء اليها، فإذا اصدرت حكمها برفض التبرئة، لم يعد ممكنا لروبين اللجوء الى اي محكمة أخرى. هذه المحكمة تصدر قرارها بالبراءة ويخرج روبين من السجن بعد أن قضى فيه أكثر من 20 سنة وهو لا يزال مصرا على براءته. /رسالة إيجابية "الإعصار" فيلم بقضية. صحيح أنه يقدمها عبر سلسلة من المشاهد المؤسسَة عاطفيا، لكن الصحيح ايضا أن الفيلم يحتوي على الرسالة الايجابية التي يمكن القبول بها ضمن اي معالجة وبل تبنيها والدفاع عنها. بعد ساعتين من العرض يخرج المرء وهو واثق من أن ما حدث لروبين كارتر ما كان يجب أن يحدث. البعض صفق بحرارة بعد انتهاء الفيلم حين شوهد في عرض خاص يؤمه عادة صحافيون ونقاد اعتقدوا أنهم شاهدوا وخبروا كل شيء وصارت لديهم مناعة ضد اي جديد. ونورمان جويسون عرف خلال مهنته التي امتدت من 1962 الى اليوم وشملت على أكثر من 25 فيلما، عرف بأفلام القضايا: هو الذي أخرج "في حرارة الليل" مع سيدني بواتييه ورود ستايغر 1967 وهو الذي قدم "... والعدالة للجميع" مع آل باتشينو 1979 ولاحقا "قصة جندي" 1984. لكن جويسون في الوقت ذاته مخرج محدود الجرأة فنيا ودراميا. في كل واحد من هذه الأفلام وجد مخرجا يحافظ فيه على خيط متصل بموقعه الأبيض. صحيح أن ليس كل البيض عنصريين لكن رود ستايغر في "في حرارة الليل" هو هناك لينفس بالون النقمة. وصحيح أن القضاء في "... والعدالة للجميع" بات مصلحة أكثر منه عدالة، لكن بسبب بعض المحامين الشرفاء -خصوصا اذا ما كانوا يهودا- فإن العدالة المفقودة ستعود. اما في "قصة جندي" فإن المرء يكاد لا يفهم ما الذي حشر جويسون في قصة تنحصر شخصياتها في العنصر الأفرو-اميركي. هم الأبطال وهم الأشرار. رغم ذلك، هي أفلام لا يرتاب المشاهد أبداً في ايمان مخرجها برسالاتها. هذه ليست مسألة استغلال او توظيف مادي، بل مسألة عدم خوض المهمة الى آخرها. التوقف قبيل بلوغ عمق الغاية بقليل. "الإعصار" جيد التنفيذ. ادارة التمثيل ممتازة والإنتقال من الماضي الى الحاضر او العكس، ومن المشاهد الداخلية الى الخارجية يتم بكثير من السلاسة. لكن تلك الاسئلة المستمدة من بعض أعمال المخرج السابقة تطرح نفسها في مطارح ولو أقل من المعتاد. وعندما تعلم أن الواقع الذي يتحدث عنه الفيلم تم تغييره وربما أكثر بكثير مما كان يجب، لابد أن ينتاب الشك العملية كلها. فبعد إطلاق الفيلم ارتفعت اصوات كثيرة كانت تابعت القضية وشاهدت الفيلم واعتبرته خرج تماما عن الواقع. بعضها ذهب للتأكيد بأن روبين الذي أطلق سراحه بالفعل وقابله هذا الناقد قبل جلوسه الى المخرج لم يكن بريئا على الإطلاق. وماذا عن شخصية التحري ديلا بيشا الإسم ربما صقلي ؟ لقد تبين أنه لم يكن سوى ابتداع خيالي من الكاتبين أرميان بيرنستين ودان غوردون. في العدد المقبل حوار مع نورمان جويسون