أطلق الفنان السعودي عبدالرحمن السليمان على معرضه الأخير في "أتيليه جده للفنون الجميلة" عنوان "تحولات المكان" في تعيين يشير إلى ثبات وحركة في آن في مساره التشكيلي الاحترافي منذ مطالع الثمانينات: ثبات لنا أن نرى فيه سعياً إلى استحواذ مكان بين التذكر والمعاينة، وحركة لنا أن نجد فيها تحققات مختلفة ومتعددة لما هو جار في الزمن. واتخذ السليمان من مواليد الأحساء من هذا التجذر في المكان دلالة على موضوع يعود إليه لتشكيله من غير كلل أو تردد، حتى أننا نجد في ما صوره في منتصف الثمانيات ترسيماً جلياً لما لا يتوانى عن العود إليه، أشبه بسعي متجدد لرغبة غير مستنفدة. ومثل هذه الرغبة هي التي تفسر وحدها هذا الإلحاح، هذا التراوح، أو هذا التجدد الخفي الذي لا يبرز في تغيرات مشهدية قوية أو طاغية، وإنما في خفاء الدرجات والتلوينات، أو في تغير التضادات. هذا ما نتحقق منه في خلوص دائم إلى ألوان بعينها، ولا سيما الداكنة، التي تكاد أن تكون توكيداً وتخفيفاً وتنويعاً في مقامات الأخضر، الأخضر الذاوي الذي يخفي أكثر مما يجلو، ويكتم أكثر مما يصرح. وهذا ما نتابعه من لوحة إلى أخرى في مساع بينة في تشكيل الحيز التشكيلي، الذي يذكرنا بالمشهد الطبيعي تذكيراً إشارياً، إذا جاز القول، ليس إلا: يذكرنا بشيء من لونيته، من مناخاته اللونية، من بعض علاماته الطبيعية التي تستعيدها اللوحة، على أن فعل التذكر هو موضوع معالجة في المقام الأول. فالتذكر قد يعني المعاينة، أو تتبع مشهد بعينه، من دون أن يكون الحاصل التشكيلي تسجيلاً أو تدويناً، أو انفعالاً مباشراً بما يعرض للعين في معايشة أولى، أو ثانية، أو متغيرة بين لحظة زمنية وأخرى. وقد يعني التذكر استدعاء لما خفي في الذاكرة، أو هدهدته العين في نجواها وطلبها لأشياء باتت بعيدة، لكنها لا تزال "دافئة" في ينبوع العيش الوجداني. لهذا التذكر، إذن، أشكال أو أسباب، قد تعود إلى الابتعاد عن المكان "الأصلي"، موطن الولادة، والعيش في مكان آخر، هو الدمام، واقعاً، حيث يعمل السليمان ويعيش. إلا أنها أشكال وأسباب لا تحول، بل تشجع على ابتناء علاقة بالتذكر تنهل من التصوير أسبابها في المقام الأول. فالسليمان لا ينقل مشهداً، وإنما يؤلفه. ذلك ان المعالجة هي التي ترتئي ما يناسبها، وهي التي تملي شروطها كذلك على الفنان، في لعبة خافية وحاذقة في آن، تتداخل فيها أو لا تنجلي فيها بوضوح معالم التأثر بالمكان الطبيعي من معالم المعالجة المتمادية له: قد تلقى زهراً أو بعض حروف عربية كما في لوحات قديمة نعرفها، أو تتبين رسوماً وقعت عليها العين في رسوم الحيطان، أو زخارف أو رموزاً مستقاة من تقاليد شعبية في الجزيرة العربية، إلا أنها ليست مستبقاة بل مستدعاة، وهي موضوع معالجة لا تثبيت. ما يعني أن الفنان ينشغل ببناء الحيز التشكيلي في المقام الأول، في توليد مساحة تشكيلية لها ما يبررها "فيها"، لا خارجها. هذا ما يتأكد في أبنية لوحاته ذات الأشكال المستطيلة عرضاً، إذ هي أبنية تمثل للعين الناظرة مثل توليد لمكان، على أن يحتل البناء مركز اللوحة الوسطي، فلا تنشغل الريشة في التقاط التكوين أو الموضوع من "زاوية" ما، بل تقيم علاقة وحسب، دائمة ومتكررة، بمواد المشهد من دون شكله غالباً. وتبدو القماشة في ذلك أشبه بالنص الحديث، تلتم فيه عناصر متأتية من مجالات مختلفة، وتنبئ عن أحوال مختلفة، إلا أنها تجد في النص، في علاقاته، ما يلمها بعضها على بعض، ما ينشؤها ويبنيها، وفق هذه الصورة أو تلك. هذا ما يعطي بعض أعمال السليمان أحياناً طلة تكرارية، تبدو فيها اللوحات في مبانيها مساع متعددة لبناء بعينه، وإن اختلفت مواد المبنى ومعالجاته، في الدرجات والمناخات، من لوحة إلى أخرى. هكذا عاد في عهد ما إلى مواد بيئته الأصلية، إلى جوامعها وحاراتها وسوقها ومنازلها الطينية ومآذنها وقبابها وأبوابها ونوافذها، في معالجات تشكيلية لها: "لم يكن هدفي، يؤكد السليمان، نقل هذه المظاهر أو الصور بقدر استخلاص ما، منها، استخلاص قول جديد فيها، وبعث مختلف لها". كما عاد كذلك إلى مشاهد في نخيل الأحساء، أو إلى ألوان معتمة في سجادة بدوية، أو إلى ألوان زاهية في ثوب مطرز، أو استعاد هيئات طائرات وبنادق ودبابات وآلات حفر الأرض وغيرها. وهي كلها تدل على المكان، في استعمالاته اليومية، الشعبية والتقليدية والقديمة، في زمنه المتمادي، وتدل على المكان كذلك في تحولاته، في ما يصيبه ويغيره أمام عين مندهشة أو حزينة: "صور من العنف والقساوة والفظاظة الإنسانية نشاهدها.... تختلط هذه التناقضات، تختلط معها خطوطي المستقيمة، وخطوطي اللينية، المتعرجة، خطوطي التي ترسمها المسطرة، أو ارتعاشات يدي، وقلقي على أرض الواقع. على لوني الداكن شيء من تفاؤل من تلك الخطوط الصباحية التي تضيء سماءات داكنة، وهي تلك الفضاءات الخضراء التي لا يراها الآخرون خضراء، انهم يسبغون عليها ذواتهم وقلقهم فيحيلون تفاؤلها إلى كدر، وأحياناً إلى حزن عرفته منذ العاشرة من عمري". ومثل هذا السعي امتحان لقدرات التشكيل العربي على إقامة علاقات بالمكان الطبيعي، بما فيه من ألوان وأشكال وعلامات، وعلى إقامة علاقات بالفن، بما فيه من مواد ووسائل مخصوصة به. وهي علاقات باتت بعيدة عن التناول الانطباعي للمشهد في تغيراته الشكلية والضوئية، لكنها لا تنقطع عنها، وإن انصرفت إلى معالجات يغلب عليها تجريد المكان إلى معادلات ضوئية ولونية وشكلية مخففة. ومثل هذا السعي يقود الفنان إلى ربط فنه ببيئته، من جديد، ولكن من دون تناولات فولكلورية ساذجة، تعيد للعين ما تراه خارجها في صور قبيحة في أحيان عديدة، مثل صور المراكب أو البدو أو السجاد أو النخيل وغيرها، التي نلقى بعض نماذجها في بعض التصوير الخليجي الساذج. والسليمان فنان تشكيلي، خريج كلية المعلمين - التربية الفنية مثل أعداد كبيرة من فناني الخليج أو الأردن وغيرها ممن لم يتح لهم الدخول إلى مدرسة فنية عالية متخصصة، عدا تحصيله خبرات فنية متنوعة ومتعددة في غير مشغل، ومنها خصوصاً مشاغل أصيلة التشكيلية. ويمارس الفنان، الى جانب التصوير بالألوان الزيتية والمائية، تعليم التربية الفنية في الدمام، عدا دوره المميز في النقد التشكيلي في الصحافة السعودية، ومنها كتابه "مسيرة الفن التشكيلي السعودي". وللفنان معارض متعددة، عربية ودولية، عدا دوره النشيط في تأسيس "جماعة أصدقاء الفن التشكيلي" في الخليج، كما حصل جوائز عديدة في تنافسات عربية، سواء في الإمارت أو الكويت أو السعودية وغيرها.