القلعة الأثرية بمحافظة جزر فرسان .. وجهة سياحية ومعلم يمزج التراث بجمال الطبيعة الساحرة    الأحوال تعلن تعديل مواد تتعلق بتغيير الاسم الأول وتعديل أو حذف اسم الشهرة أو الفخذ أو القبيلة    «الراجحي» يتوج بالذهب من بلاد «التانجو»    الدكتوراه ل«العنبر» في فلسفة التربية    «السياحة»: ارتفاع الغرف المرخصة في العاصمة المقدسة إلى 227 ألف غرفة خلال موسم الحج    عمرو دياب يصفع.. يشتم.. ويثير الجدل    النائب العام يتفقّد ويدشّن مقرات للنيابة العامة في المشاعر المقدسة    الحملات المشتركة: ضبط (12974) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود    غانتس يستقيل.. حكومة نتنياهو باقية        «الموارد»: إصدار 11.7 ألف تصريح لخدمة «أجير الحج».. و42.85 ألف تأشيرة عمل موسمية    جنة ينافس العيسى على رئاسة الأهلي    الفلبين تحظر واردات الطيور والدواجن من أستراليا بسبب أنفلونزا الطيور    قرار الأمم المتحدة بوضع إسرائيل على القائمة السوداء خطوة في الاتجاه الصحيح    انخفاض الروبل أمام العملات الرئيسية حتى 10 يونيو    غزة تستغيث لتوفير مولدات كهربائية للمستشفيات    الطقس: حار إلى شديد الحرارة على معظم مناطق المملكة    نائب أمير مكة يتفقد العمل بصالات الحج    "آبل" تخرج بعض إصلاحات "آيفون" من الضمان    "أبل" تدعم تطبيق البريد ب "الذكاء"    الهلال يعلن برنامج تحضيراته للموسم الجديد    الأخضر يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة الأردن    الاتحاد يمدد إعارة حامد الغامدي    مقتل صاحب أول صورة ملونة لكوكب الأرض من الفضاء    سوء التغذية يسبب اكتئاب ما بعد الولادة    بيئة نجران تدشن اليوم العالمي للبيئة تحت شعار "أرضنا مستقبلنا"    الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    تأهّل الحزم والنور والابتسام والصفا إلى نصف نهائي بطولة المملكة لكرة اليد الشاطئية للكبار        الجبير يرأس وفد المملكة المشارك في الحدث رفيع المستوى بشأن العمل من أجل المحيطات    بعثة المنتخب السعودي تزور صالة مبادرة "طريق مكة" بباكستان    100 ألف زائر في كرنفال القادسية الأسطوري    انطلاق الدورة العلمية الكبرى تحت عنوان "التوحيد في الحج"    الدفاع المدني ينفذ فرضية حريق بالعاصمة المقدسة    فرع هيئة الصحفيين بمكة ينظم ورشة الإعلام في الحج    «هيئة النقل» تنفذ أكثر من 98 ألف عملية فحص حتى بداية شهر ذي الحجة    ضيوف المليك: استضافتنا للحج امتداداً لأعمال المملكة الإنسانية    منصور ابو شهران في ذمة الله    القبض على 3 أشخاص بالمنطقة الشرقية لترويجهم (5.5) كيلوغرامات من الحشيش    نائب رئيس جمهورية جامبيا يغادر المدينة المنورة    جامعة الملك خالد تتقدم 160 مركزًا في تصنيف QS العالمي للجامعات 2025م وتحقق المركز 601    فيصل بن مشعل يقدر لامين وأمانة القصيم جهودها في مدينة حجاج البر    حظر دخول أسطوانات الغاز للمشاعر المقدسة    اليحيى يُراجع خدمات الحجاج بمطار المؤسس    400 مشروع فني وتصميمي لطالبات كلية التصاميم بجامعة الإمام    «الأحوال»: منح الجنسية السعودية لشخصين.. وقرار وزاري بفقدانها لامرأة    زيادة مقاعد برنامج "طب الأطفال" بتجمع القصيم الصحي إلى 100 متدرب    فقدت والدها يوم التخرج.. وجامعة حائل تكفكف دموعها !    لاعبون بكلية مزروعة    الصيف الساخن يعكر نومك.. 3 نصائح تساعدك    هل نجح الفراعنة في علاج سرطان المخ قبل 4 آلاف عام؟    "الأخطبوط" عبادي الجوهر.. "أرينا" أكبر تكريم والسعودية نعمة    فضائل الدول الصناعية وعيوب من عداها    «التحيّز».. الداء الخفي    حفلات التخرج.. من الجامعات إلى رياض الأطفال    وقوف امير تبوك على الخدمات المقدمة في مدينة الحجاج بمنفذ حالة عمار    وزير الداخلية يخرّج "1410" طلاب من "فهد الأمنية"    خالد بن سلمان يجري اتصالاً هاتفياً بالرئيس المنتخب وزير الدفاع الإندونيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشرفة البحرية على كورنيش المنارة ببيروت... احتفال مشاة يومي وائتلاف جماعات تساوم على قواسم مشتركة متجددة . حال التفرق أو الاجتماع عرض يتوج صفة الشرفة أو يؤدي بها الى الانحلال
نشر في الحياة يوم 13 - 02 - 2000

ويبتدئ المسبح شطراً ثالثاً من الشرفة ورصيفها. والمَعْلَم على الشطر الجديد انعطاف الكورنيش كله إلى اليسار، واستقامته مذ ذاك استقامة متصلة، من غير التواء، إلى مسبح فندق الريفييرا. فيستقبل الميممُ جنوباً وغرباً رصيفاً عريضاً، يزيده عرضاً انفتاح أفقه من كل الجهات" جهة البحر المستوي على مستوى الرصيف، أو قريباً منه، والمنبسط نظير البصر إلى خط الأفق" وجهة الشرفة المستقيمة من غير اعوجاج ولا انعطاف ولا حاجز تقريباً، وتؤول هذه الجهة كذلك إلى زرقة البحر وأفقه، ويستقبلهما النظر من غير عناء ولا جهد" وجهة هضبة رأس بيروت الشمالية، وهي يقوم حرم الجامعة الأميركية على بعضها، فأخلى معظم منحدرها، وكل سفحها، من الأبنية" وحاطت الحرمَ أبنية سكن وتعليم وسفارات وفنادق، "قديمة"، أي يعود إنشاؤها إلى زهاء ثلاثة عقود، فلم تعلُ الأربع طبقات، وقصَّرت عن حجب منحدر الهضبة أو حتى جزئه القريب من السفح، ويعرف بإسم جل البحر في هذا الموضع، على خلاف الأبنية الجديدة التي تأخر إنشاؤها إلى عشية عام 1990، وتسلقت العشرَ طبقات أو أقل بقليل.
الحواشي
ويخرج هذا الجزء من الشرفة، يساراً، أي على يسار الميمم جنوباً وغرباً، من جوار أشجار الحرم الجامعي القريبة الظليلة والمُدْغِلة، إلى فضاء فسيح يُشبَّه للمتنزه خلوه من البناء القريب، على ما مرَّ للتو" ويخرج، يميناً، من جوار البحر اللصيق إلى شريط صخري، يتسع أو يضيق، يعلو أو ينخفض، يستقيم أو يعوج، ولكنه لا ينفك في كل أحواله من ملازمة الشرفة. ويقصد السابحون الشريط الصخري هذا في أوقات الدفء، ويقلبونه، في الصيف وفي الأيام الثلاثة الأخيرة من أسبوع العمل، مسبحاً حراً، ويرتادونه أفراداً وعصباً وأسراً، ويتخذونه مقيلاً ومقهى ومطعماً، ويقصدونه إما بسياراتهم يركنونها إلى الرصيف القريب، ويودعونها ما يحتاجون اليه، وما يتركونه، أو بباصات النقل المشترك تنقلهم من الدورة، شرق بيروت، وإليها، ومن حي السلم، بطرف جنوب بيروت، وإليه.
والسابحون، أفراداً وعصباً وأسراً، حين يكثرون، وهم كثر طوال خمسة أشهر إلى ستة في السنة الواحدة، السابحون هؤلاء هم من جماعات الشرفة وأهلها على أنحاء كثيرة. فهم يحفونها، من جهة الطريق العام، بسياراتهم وجلوسهم وكلامهم ولبسهم وعريهم، ومن جهة الشاطئ والبحر، حيث ينزلون ويجتمعون ويتفرقون ويغطسون ويلعبون ويسبحون ويأكلون. وهم يجتازون الشرفة في مجيئهم ورواحهم، لابسين أو عراة إلا من لباس البحر. وقد يخلف السابح، واحداً أو جمعاً، السباحة والشاطئ إلى القعود على مقعد صخري أو كرسي جاء به. ويلتئم شمل السابحين من جديد، على ما كانوا عليه، أو يزيدون صاحباً أو قريباً لم يشأ البلل بالماء ولا تكلف ترك الثياب واجتياز الحاجز والنزول إلى الشاطئ الصخري. ويتصل مسبح فندق الريفييرا بشريط الساحل الصخري هذا، ويزيد عليه مصطبة واسعة تنتهي إلى مرفأ مراكب بخارية ويخوت" والإثنان، المصطبة والمرفأ، صنعهما الفندق صناعةً لزبائنه، وحجبهما عن أعين المتنزهين وفضولهم بخيمة من البلاستيك الصفيق، ثابتة، على خلاف خيمة مسبح الجامعة الأميركية.
ويعظم شأن المتكأ المعدني في هذا الشطر من الشرفة. وكان الشطر الثاني ابتدأ هذا التعاظم. وقد يكون مرد الأمر إلى انفكاك المتكئين من بعض الصفة الأهلية والمحلية التي تغلب على الشطر الأول، والى خلو الشطرين، معظم الثاني والثالث، من صيد السمك ومن صياديه" وهؤلاء يضوون اليهم من يتذرعون بالرصيف ذريعة، ويتوسلون به إلى غاية ليست النزهة المحض وجهها الغالب. فإذا تحرر أهل المتكأ من الصيادين وجمهورهم، وتحرروا من العائلات الثابتة والمجتمعة، اتخذوه مرقباً يرقبون منه أهل الرصيف على أنواعهم، مشاتهم وقاعديهم، أفرادهم وحلقاتهم وجماعاتهم. وهم يجمعون الملاحظة، وتصفحَ الوجوه والأجسام، ومتابعة الرائحين والمولين، إلى المحادثة فيما بينهم إذا كانوا جمعاً من ثلاثة شبان أو أربعة، على ما هي حالهم في الأغلب والأكثر.
ويخوِّل العدد والجمع، وتخول الذكورة، وربما الثبات والوقوف بإزاء المتحركين والجالسين، تخول هذه كلها أصحابَها إيقاعَ النظر الفاحص في أهل الرصيف الباقين، ووضعَه عليهم عامة، وعليهن خاصة، وتعقبَهم، وتعقبهن، بالكلام والإيماء والضحك والسكوت المجتمِع. وقد يتعقب الواحد، أو الإثنان والثلاثة، صبية تمشي أو تخب، أو جمعاً من الصبايا، مشياً، من غير إلحاح ولا لجاجة. ويقتصر التعقب، في معظم الأحيان، على بضع خطوات يمشيها الشاب، أو الشابان، ووجهُه وضحكه وإيماؤه وكلامه إلى أصحابه فوق ما هي إلى من يتعقب ويعترض. فالمسرح ومحاكاة الغزل والمشاكسة، هما قصد المتكئين والمراقبين. ومن العسير، على ما رأيته وأرى، أن يكون في مستطاع المتعقب الجدي، في أوقات الوفادة، المضي على تعقبه من غير تقطع يطفئ التعقب ويميته" هذا إذا علقنا أحكام عمل ونظر الشرفة وما نقضي به ضمناً من تباعد وبعدٍ من القسر. ولكن اتصال الكلام والنظر والإيحاء، واتصال المتكئين وحلقاتهم، وهي خطوط وليست دوائر، يحملان المتنزهات الشابات، الفرادى والمجتمعات، إذا كن من غير أصحاب ذكور معهن، أو قريبات مسنات، على الابتعاد من المتكأ، والنأي بأنفسهن من المشي بحذائه إلى توسط الرصيف وتطرفه.
ولا يحول هذا بين حلقات الشبان الجالسين على الحاجز أو المتكئين إليه، وبين التعليق بأنواع الكلام، النازع منزع الغزل اللطيف أو المتعارَف والرتيب أو المازح أو البذيء والمتعمد الجَرح والحط، على الفتيات والشابات المارات، الماشيات قرب الحاجز والبعيدات منه. وليس يسيراً على الفتيات والشابات الماشيات تعرُّف الكلام الذي يقصدن به، ومن منهن تُقصد به، من كلام مرسل على هواهنه، على ما هي حال معظم هذا الكلام. فهن، إذا كن فرادى، يمشين أو يركضن مشية جادة، وييمِّمن وجههنّ إلى أمام، ورفيقهن جهاز تسجيل يحملنه في يد من اليدين، ويخرج منه شريط في طرفه جهاز استماع يستقر في الأذن ويغلقها دون جلبة الشرفة وناسها" وإذا كن جماعة التهين بمكالمتهن بعضهن بعضاً، واختلطن بالرائحين والغادين، واختلط الكلام الذي يقصدن به، إذا ثبت وجود مثل هذا الكلام، بمصادر الكلام المتطاير والمتنقل الأخرى.
فعلى طول الشرفة لا تنفك أجهزة راديو ومسجلات السيارات المستقرة من رفد أنواع الكلام والإشارة والبيان عن المعاني بروافد كثيرة. وفي معظم الأحيان يسكت القاعدون والجالسون والمتكئون، المتحلقون في الأغلب، وينيبون عنهم إلى العبارة عن طربهم أو لواعجهم أو مجونهم، الأصوات الكثيرة التي تعلو بغناء هذه وإنشادها، فتقتصر عبارتهم هم على ترديد أجزاء مؤاتية أو مناسبة من الغناء، وعلى إيماء الانفعال بوجوههم وأجسامهم وأدائه. وتخاطب الروافدُ هذه المارةَ مخاطبةً غير متعينة ولا مقصودة، ولكنها تشركهم، أي تريد إشراكهم في الموضع، وهو الشرفة، وفي مخاطبته المعلنة المفترضة ومحاورته. ويؤيد هذا التأويل ويرجحه صدورُ الكلام، والغناء، عن جماعة، وتوجههما على جماعة، وافتراضهما علانية عامة، وغفلاً من التخصيص، ولو انتظر صاحب الكلام، أو صاحب المسجلة والراديو وجهاً أو سمعاً" فهو في كل أحواله مشرك أصحابه في الانتظار، وفي معالجته وتدبير عبارته" وهو مضطر إلى حمل عبارته على مسالك العلانية، والى الرضوخ إلى تبديد العلانية المعاني الخاصة التي قد يسعى صاحب الكلام في تضمينها عبارته، وهذا لا يحول بالضرورة بينه وبين إلحاح وفظاظة منفِّرين وجارحين.
ولكن المتكئين والمتخذين الحاجز مسنداً يسندون إليه مجلسهم وقعودهم وتحلقهم - متحادثين وسامعين ونظارة وشاربين ومدخنين - ليسوا جماعة من ضرب واحد أو متجانسة، على ما قد يوحي الوصف المتقدم. فهم ليسوا كلهم ذكوراً وشباناً، وليسوا كلهم شللاً، وليس دأبهم الوحيد تعقب الرائحات والغاديات بالكلام والنظر، أو بأحدهما، فهم كذلك أزواج، زوجان شاب وشابة زوجان" وهم أفراد، شاب على الدوام، أو رجل" وهم شلة مختلطة" وقد يكونون أسرة، أو بعض أسرة، فيها الرجل والمرأة والولد والجد والجدة" وقد يغلب اتكاؤهم على جلوسهم أو يغلب الجلوس على الإتكاء، ويغلب الأكل والشرب والتدخين على النظر إلى الشرفة وأهلها أو على النظر إلى البحر، ويتقدم التحلّق والنظر إلى البحر على التحلق والنظر إلى المارة" وقد تقوى عروة المتحلقين، جلوساً أو اتكاءً، فينصرف واحدهم إلى أصحابه ولا ينتبه إلى جواره المضطرب والمتغير إلا أقل الإنتباه، أو تضعف العروة فيصرف المتحلقون معظم اهتمامهم إلى الجوار" وقد تنقسم الحلقة أو الشلة، واحدة إلى جهة من جهتي الرصيف، ويتردد بعض أفرادها بين السيارة أو المقعد الحجري وبين الشطر المجتمع إلى الحاجز" وبعض أهل المتكأ يدير ظهره المنحني إلى الشرفة والمارة، ويجلس على العارضة المعدنية، ويستقبل البحر والأفق وحيداً ومنسلاً من كل علاقة أو رابطة تصله بالناس.
فيجتمع من هذا كله ميزان علاقة بين أهل المتكأ، على ضفتي الشرفة، وبين أهل وسط الرصيف، من مشاة وخابين ومتزلجين وراكبي دراجات هوائية دراجين، مضطرب فقد يغلب أهلُ الرصيف أهلَ المتكأ عدداً، وحركة، ومحادثة بين متوسطي الشرفة، وقياماً بالنفس، وإدارة انتباه على محور النفس هذه. فيقبع المتكأ إذ ذاك، وأهله، بهامش الرصيف، ويصير القاعدون على العارضة المعدنية، وهم يسندون بإحدى القدمين على أرض الرصيف، ثباتَ قعودهم، من حواشي الشرفة وذيولها. ويملأ أهل وسط الرصيف الشرفة كلها، ويعلو سيلهم وموجهم، ويجرون جرياً قريباً من تنفس البحر العريض والمديد. وهذه الحال تشهد في آخر أيام الأسبوع، في أيام الصحو والدفء، أو في أيام العطل القصيرة التي لا يدعو قصرها شطراًَ كبيراً من ساكني بيروت إلى تركها إلى بلداتهم ومدنهم في المحافظات. فإذا غلب أهلُ وسط الرصيف أهل المتكأ غلبت محادثاتهم ومحاوراتهم وحركاتهم، وهي بهذه الحال مبثوثة فيهم من غير تعيين ولا تَصْدر عن موضع أو جماعة، غلبت ما عداها، وتضاءل شأن كلام أهل المتكأ ونظراتهم، أو اقتصر على من يحاذونهم. ولما كان ترويح أيام العطالة شأنَ الأسر والشلل والجماعات فوق ما هو شأن الأفراد والآحاد، لم يقع أهل المتكأ، أي الغالبون عليه من شلل شللين.
وقد يغلب أهلُ المتكأ أهلَ الرصيف ووسطِه. فيكثر الأولون، وتقتعد أقفيتهم القسطل المعدني المتصل على طول حافة الرصيف. ويتصل القعود والقاعدون. فكأن هؤلاء طيور كبيرة وثقيلة تجثم على سلك ثخين قرَّبه ثقلُ الجاثمين عليه وعددُهم من الأرض. ويشخص هؤلاء إلى الرصيف، ومارَّته القلائل وصفحة أرضه الظاهرة، شخوص المتمكِّن والمستعلي على قلة، فيقلِّبون النظر والقول في المارة عامة، وفي النساء خاصة، من غير أن يشغلهم العدد القليل عن تبادل الكلام، أو عن تشخيص ما يتراوونه وتمثيله مديرين الظهور إلى المارة، ومنصرفين بعضهم إلى بعض.
انصرام الشرفة
وينتهي الشطر الثالث من الشرفة، وهو أطول أجزائها وأرحبها آفاقاً وأفسحها، عند منعطف قوي الانعطاف، يلي مسبح فندق الريفييرا ببضع عشرات من الأمتار. وآية الانتهاء غلبةُ الشريط الصخري على الشاطئ، ودخول الرأس الصخري الماء، مخلفاً وراءه فسحة من البر، فيما تنعطف الطريق من الجنوب الغربي إلى الجنوب في خط مستقيم يمر بالمسبح العسكري، ويحاذي، قبل المسبح العسكري، مرفأ صيد سمك، ومرفأ يلحق المسبح نفسه، ومرأب سيارات المستحمين والسابحين" ويحاذي، بَعده، مقاهي بحرية "تتوجها" مدينة ملاهٍ يُرى، من بُعد، دولابها الكبير. فما أن ينعطف الرصيف، وييمم جنوباً، حتى تزول عنه حال الشرفة البحرية وصفتها، ويحجز بينه وبين البحر إما بر عريض أو منشآت تحبس البحر في وجوه استعمال مقيِّدة يحجبه بعضها عن النظر، ويعدو بعضها الآخر على المتكأ ويخرب قسطله، ويحيل الإتكاء عليه. وإذا اجتاز الرصيف باب مرأب المسبح خسر معظم فسحته، وانكمش، واضطر المشاة المتنزهون إلى مقاسمته، على ضيقه وضموره، منتظري سيارات النقل ومحطة ركابها. وحين تكثر الحافلات تقوم أجسامها الطويلة والعالية سداً بين الرصيف وأهله وبين الطريق. فلا يبقى، على جهتي الطريق، متَّسع للنظر أو للمشي المجتمِع جماعةً. ويؤذن الحال هذا بانصرام الشرفة، وطي أحكام عملها واجتماعها والاشتراك فيها، قبل انصرام حالها المادي جراء بعد الرصيف من البحر، وضيق كتف الطريق، وارتفاع تلة بإزاء أواخر الطريق، وانقلاب طريق السيارات إلى وظائف عملية ملحة يبدد إلحاحها السيرَ المرسل، على غير قصدٍ وفي حِلٍّ من القصد والغاية.
والشطر الرابع من الشرفة، وهو شطرها الأول المبتدئ المسير من المسبح العسكري والميمم إلى عين المريسة والزيتونة وهي أخلت موضعها واسمها إلى "مساحة ردم" شركة "سوليدير" لإعمار الوسط التجاري والمرفأ، يكاد يكون أرضاً خلاء، أو هو يشبِّه الأرض الخلاء. فهو عريض، وِجهتاه، بحراً وبراً، خلو من البناء القريب" وهو، من وجه آخر، ضعيف الإضاءة، هزيل النخلات، قليل المشاة والخابّين والقاعدين، ومتكأه عارٍ من المتكئين، ولا تتورع السيارات من السير عليه، قاصدة موقف مطعم سمك أنشئ بالرأس الصخري، أو خارجة منه، والمشاة والخابون، رائحين وغادين، تظهر عليهم أمارات الانتهاء أو الابتداء. فهم، في كلا الحالين، مسرعون، يستعجلون الدخول في المسير، وفي وتيرته، أو يستعجلون الانصراف منه، ومن ينوي التثنية، أو الإنثناء راجعاً من حيث قدم، كمن يبتدئ المسير ويستأنفه، أو يستأنف مرحلته الثانية.
وبعض من خرجوا من مشيهم، أو ركضهم، يختارون هذا الجزء من الرصيف مضماراً لرياضتهم الختامية. فيتوجون خببهم، وهو النحو الذي يرتاضون عليه، بحركات تليينٍ لأجسامهم، أو بحركات تشدُّ منهم عضلات البطن والصدر والذراعين وتمرّنها. فيفترشون المقاعد الحجرية فراشاً قاسياً يسمِّرون عليه القدمين والساقين والمؤخرة، ويطوون عليها الجذع والصدر والرقبة والرأس والذراعين طية واحدة ومتصلة. ويجددون الطي ما وسعهم ذلك وقدروا عليه. وبعضهم يعتمد حاجز المتكأ، أو ما بقي منه بمتناول اليدين ومطالهما، فيقرفص ويقف حتى تنفد منه القوة على القرفصة والوقوف. وبعض ثالث يركض، حيث هو ومن غير أن يغادر مكانه، ركضاً محموماً ومجهداً يستفرغ فيه ما بقي من عزم لم يطفئه خبب اضطر ربما صاحبه إلى ضبطه على اجتماع أهل الشرفة وتفرقهم وفسحات ما بينهم. فيبالغ تريض الرياضيين، أو المرتاضين، في تشبيه خلاء هذا الموضع وإقفاره. فهو، في مرآة هؤلاء، مواضع متقطعة، كل موضع منها على حدةٍ من الآخر. ويسع كلَّ واحد الإنصراف، على هواه، إلى ما يحلو له أن يأتيه من حركات وسكنات، وكأنه وحده، لا رقيب عليه ولا حسيب. والشلل القليلة المقتعِدة المقاعد الحجرية، القريبة من المنعطف، أو مبتدئو مشيهم ومستأنفوه، أو القافلون من تنزههم وترويحهم متهادين ومتباطئين وواقفين بأماكنهم - هؤلاء كلهم ليسوا، بهذا الموضع، رقباء تصل رقابتهم أجزاء الرصيف بعضها ببعض، وتصل المرتاضين بعضهم ببعض. فتبقى أجزاء الرصيف ومواضعه على تفرقها، ويبقى الناس على فُرقتهم.
ولعل هذه الحال، حال التفرق أو الاجتماع على جامع ضعيف، هي العَرَض الذي يتوج صفة الشرفة الجامعة والغالبة، ويؤدي بهذه الصفة إلى الانحلال والطي. فيُظهر هذا الشطر من الشرفة ما تضمره الشطور الأخرى من ضعف أواصر الجماعات والأفراد، وضعف احتكام إلى أحكام عمل، ومعايير عمل، جامعة ومتفقة. ويُظهر هذا الشطر كذلك كثرة المذاهب والطرائق التي يصرِّف عليها أهل الشرفة وجماعاتهم وأفرادهم مواضع الشرفة وأجزاءها وجماعاتها وأفرادها. والمذاهب والطرائق هذه لا تتواضع إلا على أقل معايير الإستعمال والتصريف أضعفها. ولكن هذا الوجه من الشرفة البحرية، وأهلها، دون التطرق اليه وصف جمهور الشرفة الأول والأعظم، جمهورِ المشاة والخابين، والمتوسط الشرفة، وجامعِ مبتدأها بآخرها، وناظِم حلقاتها وشطورها ومراحلها بمشيه وخببه وركضه.
والجمهور الأعظم هذا، من أي الجهات أتيته وأردت وصفه، خليط كثير الوجوه. فهو لا يستبعد أحداً من الناس، لا سناً، ولا جنساً، ولا لساناً، ولا مكانة ورتبة، ولا لباساً وهنداماً، ولا خلقةً وسمتاً، ولا قصداً وغاية، ولا نحواً من أنحاء النزهة أو التريض، ولا اجتماعاً وتفرقاً. فيختلط في جمهور أهل الشرفة المسنون والمسنات والأولاد في عرباتهم أو الحائمون حولها والمتمسكون بأطرافها يحاولون أوَّلَ الوقوف والمشي" وبين هؤلاء وأولئك كل فئات السن والعمر، على بعض الغلبة للشابات والشباب في العقد الثالث. والكلام على غلبة، من غير تقييده بجمهور من الجماهير التي تقدم إحصاؤها مثل المتزلجين والدراجين، أو جمهور المتكئين على الحاجز، أو جمهور المقاعد الحجرية...، أو بشطر ومرحلة، أو بوقت النزهة عصراً، أو مساءً، أو ليلاً بعد وقت العشاء، أو بيومها في أيام العمل أو في أيام البطالة - مثل هذا الكلام مرسل، ويصدق في حال ولا يصدق في أخرى، على رغم غلبة عامة ينقاد اليها النظر والحدس ولا يكذبانها.
ويختلط في الجمهور الأعظم الجنسان، الذكور والإناث، على نحو ما يختلطان في جمهور الدراجين، وفي جمهور المتزلجين، وفي مقتعدي المقاعد الحجرية قريباً من سياراتهم، والمتحلقين حلقات عائلية أو حلقات صَحْبٍ على طرفي الرصيف، وفي المتكئين، والمتريضين. وهما يختلطان أفراداً، كل واحد أو واحدة يمشي، أو يخب، أو يركض، فرداً من غير صاحب أو صاحبة" ويختلطان أزواجاً، فيمشي الإثنان أو الإثنتان معاً، أو الثلاثة، أو الأربعة، جماعةً. ويعرِّض مشيُ البنت الفتية والبنات الفتيَّات، وحدها صاحبته لمخاطبة تترجح بين المغازلة وبين البذاءة الجارحة، وقد يعرِّضها لتعقب لا يخلو من إلحاح. ولكن علانية الشرفة، واختلاط أهلها، وكثرة مسارحها، تقيد المخاطبة والتعقب وتلزمهما بآداب قلما يتجاوزانها. وعلى مثال ندرة المشادات والمشاجرات بين المتنزهين يكاد ماشي الشرفة اليومي لا يقع على تعقب ملح ظاهر، أو ينتبه إليه. وهذا على خلاف البذاءة، في الوقت بين العصر والمساء على وجه التخصيص، وفي أيام الحشد والجمع، وحيث يكثر المتكئون الجالسون على الحاجز في الشطرين الثالث والرابع. وتتفادى الفتيات هذا الضرب من التعرض لهن إما بمشيهن بعيداً من متناول المخاطبة الخفيضة الصوت، أو بسماع شريط في آلة تسجيل صغيرة يحملنها، أو بالتهاتف بهاتف نقال خَلَوي تشهره كثرة منهن ولو لم يتكلمن فيه. وتقطع رفقة شاب، أو ولد، أو امرأة مكتهلة أو مسنة، ضروب التعرض جميعاً.
وليس يسيراً على المراقب، تعمَّد المراقبة أم لم يتعمدها، تمييز مناشئ أهل الشرفة وأقوامهم ومنابتهم، من غير طريق اللسان. فاللبنانيون، على اختلاف مصادرهم، هم كثرة أهل الشرفة، في معظم الأوقات. ولا يشي واشٍ ب"الأصل" الذي يصدر عنه المتنزه غير اسم تهتف به والدة وهي تمسك بتلابيب ولد هارب، أو لهجة أهلية ينم بها سؤال تتناول الأذنُ حروفه الأخيرة وهو يعلو أو يذوي. وتدل الأسماء واللهجات، وبعض أجزاء اللباس، على أنساب أهلية، ولا تدل على منازل ومناطق. فلا يعلم السامع "ضمن أي البلاد" على قول أحد أمراء "تغريبة بني هلال" المتكلم. وما خلا اللهجات المُعْلَمة - أي تلك التي تشهر علاماتها، مثل البيروتية التقليدية والجنوبية والبعلبكية والشمالية العكارية والطرابلسية والجبلية المتنية الكسروانية والشوفية - وأصحابها قلما يكونون كثرة، تبحر الأذن على أمواج كلام، أو فتات كلام، غفل المصادر الأهلية. وهذا على خلاف اللغات المختلفة التي يتكلم بها المتنزهون، ويُتعرَّف منها الإيطالية والروسية والألمانية، إلى الإنكليزية والفرنسية، ويكثر المتكلمون بهما من اللبنانيين ومن أهلهما، إلى لغات أو لهجات عربية يحدس فيها السامع من طريق العين وليس من طريق السمع.
وتستقبل الشرفة كل المكانات والرتب، ولا تُنزل أصحابها على مكاناتهم ورتبهم. فلا مواضع تختص بها جماعة دون جماعة، أو آحاد وأفراد دون آحاد وأفراد" ولا حواجز تحول دون اختلاط أهل الشرفة بعضهم ببعض، مشياً أو ركضاً أو قعوداً أو وقوفاً أو اتكاءً أو طعاماً أو شراباً أو تريضاً. فلا يسع أحداً، من أي طريق، حبس موضع، أو جزءاً من موضع، إما على نفسه، أو على جماعة بعينها، أو على عمل من الأعمال أو وجه من وجوه الترويح والتنزه. وليس اختصاص بعض الشطر الأول، أو الساحة التي تبتدئ الشرفة من شمالها، بالتزلج، في بعض الأوقات، من قبيل الوقف أو الحبس. فلا يُصرف بعض الشطر هذا إلى ما يصرف اليه من مباراة أو استعراض إلا وبعضه الآخر مباح لضروب التصرف الأخرى من غير قيد عليها. ولما أنكرت لجنة مسجد عين المريسة، ويقوم المسجد على رصيف الطريق الآخر وفي مقابلة الساحة، لما أنكرت عرض تمثال عشتروت في أوائل خريف 1999، ونسبت اللجنة إلى نفسها الحق في القيام على حرمة المسجد وحماه، اقتصر الإجراء على نقل التمثال أمتاراً قليلة إلى شمال الساحة، بعيداً من المسجد. واضطرت اللجنة إلى القبول ببقاء التمثال، على عريه أو على تشبيهه العري، بمرأى من الحِمى المطهَّر. وهذا قد يكون قرينة على تمتع الشرفة ببعض الحصانة التي تتمتع بها أراضٍ تخرجها المعاهدات الدولية من السيادة الوطنية المحلية وأحكامها، من غير علمٍ بحجة الرصيف المقنعة، أو بمن احتج للرصيف ولإحصانه بإزاء المسجد ولجنته.
وما خلا قرار وزارة الداخلية، في صيف 1992، منع سيارات "القهوة الإكسبرس" وعرباتها من الركون إلى طرف الرصيف، بعد أن اصطفت هذه السيارات على طول الرصيف، واستحوذت على مواقفه وعلى نظير هذه المواقف، على الشرفة نفسها بإزاء الحاجز، حيث ارتجلت مقاهيَ ثابتة ألحقتها بالعربات، وجعلت منها أسواق تصريف للمخدرات، على ما قيل، ولبغاء ذكري على وجه التخصيص - ما خلا هذا القرار لم تقمع السلطة عملاً كانت الشرفة مسرحه. ومنذ العام 1998، وطوال 1999، تركت الدوريات العسكرية، القليلة العديد والمتباعدة الأنفار، حراسةَ الشرفة، ولو من طرف خفي. وقلما يُرى الشرطة يتعقبون باعة الترمس وقناني الماء والمشروبات الغازية والحلويات وغيرها من سلع المنتزهات.
وعلى رغم القلق الذي يبعثه المتزلجون والدراجون، وهم يتعرَّجون، أو "يُسَوْلمون" من السلالوم، في التزلج على الماء والثلج، بين أهل الشرفة على حين غرة، قلما يبدي هؤلاء إنكاراً صريحاً على صنيع الدراجين والمتزلجين. ولعل كتم الإنكار وجه من وجوه تسليم ضمني بأحكام عمل عامة تزعم لجماعات أهل الشرفة كلهم الحق في التصرف بالشرفة من غير قيد، ما عدا القيد على الضرر الفادح، معنوياً كان أو عملياً ومادياً. فاستبعدت عربات "الإكسبرس"، ورضي أهل الشرفة استبعادَها ولو لم يُستشاروا في الأمر علناً وجَهاراً، لأنها تخالف أحكام العمل العامة المضمرة، وتخالف ما تقضي به هذه الأحكام من إباحة الشرفة لكل الجماعات، على ألا تؤدي إباحتها لبعض الجماعات، مثل جماعة "الإكسبرس"، إلى حمل بعضها الآخر على الامتناع من النزهة والتردد إلى المكان وارتياده.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.