أدت مجموعة الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية خلال بضعة الأشهر الماضية إلى إعادة النقاش حول أهم موضوعتين سادتا الساحة الرسمية فلسطينياً وعربياً، منذ مؤتمر مدريد، خصوصاً بعد اتفاق أوسلو، وهما: "استراتيجية السلام" و"الحرب المستحيلة". يمكن إجمال الأحداث المشار إليها بانتصار المقاومة في جنوبلبنان، وفشل مفاوضات كامب ديفيد، والتي وصلت، إسرائيلياً وأميركياً، إلى المساس بالسيادة على الحرم القدسي الشريف، ثم اندلاع انتفاضة الأقصى والرد الإسرائيلي الوحشي عليها، وأخيراً وليس آخراً انفجار الشارع العربي والإسلامي، وانعقاد القمة العربية. وما ينبغي أن لا يُنسى بهذا الصدد ما أخذ يظهر على جلد باراك وكلينتون من اثار مأزق وأزمة وضعف. بدا الأمر عند متابعة بعض شعارات التظاهرات أو التعليقات كأن البديل المطلوب أخذ يتجه إلى إحياء "استراتيجية الحرب والمواجهة"، فانبرت أصوات كثيرة تذكّر بموازين القوى، وبأن "الحرب مستحيلة"، ولكنها في الوقت نفسه لم تستطع أن تدافع عن "استراتيجية السلام" كما تجلّت وعبّرت عن نفسها في المرحلة السابقة. فلم يعد أحد يدافع عن المعادلة القائمة على أساس: الهدف هو السلام، أما الاستراتيجية والتكتيك للوصول إلى تحقيق الهدف فيقومان على التفاوض تحت الرعاية الأميركية المنفردة، توجيهاً وإدارة وقيادة. ولهذا راحت تلك الأصوات وهي تتمسك ب"استراتيجية السلام" تطالب بضرورة تجميع عناصر القوة واستخدام وسائل الضغط، وإعادة عملية السلام وفق معايير جديدة غير المعايير السابقة. أما من جهة أخرى فقد انبرت أصوات كانت تحفظت عن "استراتيجية السلام" بمعاييرها السابقة، راحت تطالب بالبحث عن خيارات استراتيجية أخرى مع الاعتراف بنظرية "الحرب المستحيلة". هذا يعني أن المنطقة العربية عاشت على مدى عقد من الزمن، وربما كان الأخطر في تاريخها عموماً، وتاريخ القضية الفلسطينية خصوصاً، في ظل موضوعتين مختلتين، أو فهمتا فهماً مختلاً، هذا إذا قبل بهما أصلاً من حيث المبدأ. لأن الطرح الجديد من حيث اعتماد سياسات تجميع عناصر القوة واستخدام عامل الضغط، بما في ذلك الاستمرار في الانتفاضة وتأييدها رسمياً وشعبياً، والتفكير حتى بالعودة إلى المقاطعة الشاملة، كما الحديث عن خيارات أخرى مع التسليم بأن "الحرب مستحيلة" ليسا مجرد اضافتين ثانويتين، إذا ما اتخذتا جدياً، بل هما "استراتيجية جديدة" غير تلك الاستراتيجية التي اعتمدت اسلوب التفاوض والبحث عن "حلول وسط" حتى ضمن العشرين في المئة المتبقية من فلسطين، أو اعتبار الغزل بالسلام والشراكة والتطبيع واظهار حسن النية سيؤدي إلى تحقيق "الهدف". وظُن ان التخلي عن الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي، وهو من أهم نقاط القوة لدينا، والرهان على كسب الرأي العام الإسرائيلي، خصوصاً الأميركي، سيساعدان على تحسين الوضع التفاوضي. لكن النتيجة كانت عكسية تماماً. فقد زادت الغطرسة الإسرائيلية والأميركية في التعامل مع المفاوض الفلسطيني، ووصل التمادي إلى حد لم يسبق لمسؤول إسرائيلي أو أميركي أن تلفظ به، من ذلك مثلاً "السيادة" على أرض الحرم القدسي الشريف، أو على حد تسميتهم "جبل الهيكل" المزعوم. على أن "الاستراتيجية الجديدة" حين تتجه إلى حشد عناصر القوة واستخدام وسائل الضغط تتطلب، في ما تتطلب، تضامناً عربياً متواصلاً، وتحتاج إلى تعبئة شعبية واسعة، وتطوير القدرات العسكرية من أجل امتلاك المنعة ازاء الاختراقات والضغوط الخارجية، وأساساً الأميركية. أما استخدام وسائل الضغط فيحتاج بدوره إلى سلسلة من المبادرات والاجراءات السياسية والاقتصادية المتدرجة والمتلاحقة والمتصاعدة، فضلاً من أولوية الضغط من خلال استمرار الانتفاضة ورفدها بالدعم العربي والإسلامي الشعبي والرسمي. هذه الاستراتيجية، على تواضعها، وعلى استمرار انشدادها إلى "استراتيجية السلام" المنهارة، تشكل تحدياً حقيقياً لمن راحوا يطالبون بها، لأنها ستواجه بمعارضة أميركا وضغوطها، وبرفض إسرائيلي حاسم بعدما تعوّدا أن يناما على فراش من حرير وهما يخوضان في المفاوضات، ويواجهان "عملية السلام". فخلال تلك التجربة لم يقابلا إلا بالمكافأة على كل تشدد أو تمادٍ أو ضغوط من قبلهما. فكيف يستطيعان ابتلاع هذه الاستراتيجية التي يُفترض بها أن تقابلهما بثوابت الحد الأدنى، بلا تراجع، وبلا حلول وسط، وان تمارس ضدهما ضغوطاً قد تصل إلى المقاطعة وأكثر من ذلك. هذا ناهيك عن استمرار الانتفاضة ودعمها ورفدها عربياً وإسلامياً، شعبياً ورسمياً. ومن هنا فإن الجواب المتوقع هو التصعيد والتأزيم والتوتر، كما حدث مع التجربة السورية - اللبنانية، على نطاق أضيق، في معركة جنوبلبنان. وقد وصل التصعيد في لبنان حتى قبيل الانسحاب والإقرار بالهزيمة، إلى التهديد بحرق أرض لبنان وضرب سورية. فهل يستطيع أصحاب تلك الاستراتيجية أن يصلوا بالتصعيد والتأزيم والتوتير إلى ذلك الحد، ومع طول نفس، وإصرار لا يلين حتى يستنفد الإسرائيليون والأميركيون كل ما في جعبتهم من رد، ضمن حدود الممكن في الظروف الراهنة. وهو شرط فَرض التراجع إذا كان ما يقال جاداً وجدياً حول تجميع القوى وممارسة وسائل الضغط، واستمرار الانتفاضة حتى تحقيق هدف دحر الاحتلال إلى ما وراء الخط الأخضر بما في ذلك تفكيك المستوطنات واقصائه عن الحدود الأردنية والمصرية والمياه الاقليمية الفلسطينية، جنباً إلى جنب مع فرض الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران يونيو 1967 في الجولان واستكمال الانسحاب من جنوبلبنان. على رغم أن الشكوك تطغى عند محاولة الإجابة عن تلك الأسئلة، وعلى رغم ان العقلية التي راحت تغذي "استراتيجية السلام" السابقة لم تنتقد نقداً يمنع العودة إليها عند أول سانحة، فإن من الضروري تصفية الحساب مع "نظرية الحرب المستحيلة" على الصورة التي تطرح بها، والمقاصد التي ترمي إليها. بداية لا بد من اسقاط كلمة "المستحيلة"، ولو على الأقل من جهة احتمال لجوء الدولة العبرية إلى الحرب وفرضها عليك. ذلك لأن السؤال الذي لا مفر منه هو: إذا كانت الحرب مستحيلة من الجانب العربي بمعنى تحقيق الانتصار الحاسم في مقابلة نظامية من قبل الجيش، أو الجيوش المعنية ضد الجيش الإسرائيلي، سواء كان ذلك بسبب التفوق العسكري الإسرائيلي أم بسبب الرفد حتى التدخل العسكري الأميركي وربما الأطلسي، فهل هي مستحيلة من الجانب الإسرائيلي؟ وهل يمكن لأحد أن يُفسر تعظيم التسلح الإسرائيلي التقليدي وفوق التقليدي مع كل خطوة "سلام"، بغير التحضير لاستخدام القوة المسلحة، أو التهديد باستخدامها؟ وهو ما يجب أن يكون الأكثر توقعاً عند كل منعطف في الصراع، ومن ثم كيف يمكن أن تبنى الحسابات العربية بعيداً عن مواجهة الحرب، ولو من زاوية دفاعية فقط، وان كان الهدف الأصح هو التهيئة لجعل استخدام القوة المسلحة، أو التهديد بها، من قبل الدولة العبرية مسألة غير مجدية، ولن تستطيع تحقيق أهدافها أبداً. فالقول ب"الحرب المستحيلة" لم يحسب حساب الطرف الآخر، وكيف يفكّر، وماذا يعمل في المجال العسكري. ولم يتحوّط لما قد تخبئه الأيام. ومن ثم لا يحق له أن يسقط البحث في الاستراتيجية الدفاعية المفكر بها جيداً، والتي تسمح بالهجوم التكتيكي وانتزاع انتصارات ولو محدودة، وتحد من اشكال الخلل في ميزان القوى. إن التفوق العسكري الاستراتيجي بالأسلحة التقليدية وفوق التقليدية وعالية التقنية يمكن أن يواجه بمثله كما تفعل، أو تحاول، أن تفعل الدول الكبرى. ولكن لا يجدي معه في ظروف البلاد العربية والإسلامية تبني استراتيجية سباق التسلح ومواجهة جيش مقابل جيش في حرب نظامية. وهكذا كانت الحال دائماً منذ مئتي عام. وكان هذا ضمن إدراك قيادات الجيوش العربية دائماً، ولكنها حين فكرت في الدفاع، أو الدخول في مواجهة، في الغالب مفروضة، أو تحقيق درجة من الردع، كان الاعتماد في ذلك على الجيش والتسلح وليس على استراتيجية مقاومة شعبية طويلة النفس في حال العدوان أو الاحتلال، وبحيث ينظم التسلح ودور الجيوش بما يلائم تلك الاستراتيجية، فلا يعرض الجيش إلى مواجهة نظامية حاسمة: جيش مقابل جيش. ولا تُعرض الموازنة إلى استنزاف تسليحي غير مفكر به جيداً، ولا يسمح به أصلاً إلا ضمن سقف محدد لا يحق معه له بلوغ حتى شبه التوازن الاستراتيجي. لقد جربت هذه الاستراتيجية مع تجربة محمد علي عام 1807 وتكللت بإفشال غزوة بريطانية استهدفت الوصول إلى القاهرة. وجربت بنجاح عام 1956 في مصر. كما جربت الاستراتيجية الأخرى في تجربة محمد علي وعبدالناصر كذلك عندما سمحا بمواجهة جيش مقابل جيش حيث كانت النتائج فاجعة. إن المشكل الذي يواجه استراتيجية عسكرية - شعبية - دفاعية هو شرط المصالحة الدائمة بين القيادة والشعب، والثقة به، وعدم ارهاقه بسبب الركض وراء التسلح الضخم أو التصنيع الثقيل، أو بناء دولة أجهزة تبتلع الكثير من تخصيصات الموازنة، وتتغول على الناس، وصولاً إلى كبت الأنفاس وانتهاك كرامة الإنسان وحقوقه. طبعاً قد يبدو كل هذا بعيد المنال، ولكن من الممكن الاقتراب منه بشكل أو بآخر، فالذي يحدث في الانتفاضة في فلسطين فيه الكثير من هذا. فما لم تواجه القيادات والدول والجيوش من خلال الشعب كله وتتصالح مع الشعب، وتتكل على الله سنظل عرضة للانتكاسة، أو الارتكاس، عند أول منعطف. فالاستمرار بالانتفاضة والمقاومة وبالدعم الشعبي العربي والإسلامي، وتثبيت الوضع العربي عند السقف الذي حدده بيان القمة وقراراتها، والتزام الموقف الرسمي الفلسطيني بعدم العودة إلى المفاوضات تحت الرعاية الأميركية، على الأقل، سيثبت ان بالإمكان فرض الانسحاب على الجيش الإسرائيلي إلى ما وراء الخط الأخضر بما في ذلك تحرير الحدود وتفكيك المستوطنات، كما فرض الانسحاب من الجولان إلى خط الرابع من حزيران يونيو 1967، وتفكيك المستوطنات واستكمال الانسحاب من جنوبلبنان. إن اعطاء الوقت الكافي لهذه المعادلة سيؤثر في الموقف الغربي والرأي العام ايجابياً، وبوادر ذلك أخذت تلوح، بصورة مبكرة، منذ الآن. وها هو ذا مأزق الموقف الأميركي والإسرائيلي أخذ يتعمق، ويجب أن يستمر حتى انهيار الاحتلال. أما التوقف والعودة إلى المفاوضات برعاية أميركا، فسيضيعان الفرصة السانحة، وقد يعيد أن المسار الكارثي للقدس والقضية الفلسطينية. * كاتب وباحث فلسطيني