في روايته التي لم تشتهر بعد بما فيه الكفاية "الحفل"، يفترض الكاتب الألباني اسماعيل كاداري، ان نبأ وفاة ماوتسي تونغ وقع على رأس السلطات الصينية وهي منكبة على الاحتفال باستقبال ضيوف كبار، فما كان منها الا ان أخفت النبأ وأتت بشبيه لماو، ألبسته ثيابه، وعرضته على الضيوف خلال الاحتفال. في الحقيقة لم تجر الأمور على هذا النحو يوم رحل ماوتسي تونغ عن عالمنا في التاسع من ايلول سبتمبر 1976، غير ان فرضية اسماعيل كاداري ترسم في الواقع صورة أمينة لما يمكن ان يكون قد خامر سلطات بكين من مشاعر يوم رحيل ذاك الذي نظر إليه الكثيرون على انه صانع النهضة الصينية الحديثة، ولم ير فيه آخرون سوى ديكتاتور من نوع نادر - ديكتاتور تمكن من ان "يقنع" ويحكم مئات الملايين من الناس، عبر ذلك الحاجز - القناع الذي مثلته صوره المبتسمة باقتصاد وكلماته الرنانة ذات الشعارات التي ملأت الربع الثالث من القرن العشرين واعتبرت قواعد للسلوك وبرامج عمل للتحرك من قبيل شبيبة انبهرت بذاك الذي قاد الشعب الصيني في رحلة الألف ميل وطالب بترك مئات الزهور تتفتح، ولم ير في الامبريالية اكثر من نمر من ورق، صاباً جام غضبه ذات يوم على الشقيق اللدود: الاتحاد السوفياتي فكان الانشقاق العظيم الذي عجّل على اي حال من نهاية الشقيقين. ثم مات هادئ البال وهو يعتقد ان ما زرعه سيواصل نموه الى الأبد، وان "الثورة" ستعمّ العالم دون ريب. يوم مات ماوتسي تونغ، كان اضحى عجوزاً في الثانية والثمانين من عمره، لكنه كان في الوقت نفسه اضحى اسطورة ضخمة من اساطير القرن العشرين. ولأن الأساطير تولد وتعيش وتموت وحيدة، كان من الطبيعي ان يموت ماو دون ان يخلف وريثاً له. من هنا ذلك الصراع على السلطة الذي استمر طويلاً، علناً وفي الكواليس، طوال السنوات التالية لموت ماو، وأسفر في النهاية عن وصول اناس عاديين الى السلطة في بلد غير عادي، وفي ظل ظروف غير عادية. انهم رجال عاديون اوقفوا تلك المسيرة الطويلة التي قادت ماو طوال القرن العشرين، وجعلت ذلك المناضل يتدرّج في النضال وفي الحياة وفي السياسة عبر طريق قادت حتى اعداءه الفكريين الى الثناء على شجاعته، ومنهم على سبيل المثال الفرنسي اليميني جان دورسون الذي كتب، يوم وفاة ماو يقول: "ان قلة من الفلاسفة، وقلة من الفاتحين، وقلة من الأمراء، عرفت كيف تلعب في تاريخ العالم دوراً يضاهي الدور الذي لعبه ماوتسي تونغ. لقد اراد هذا الرجل ان يغير الانسان. ذلك ما كان طموحه في الحقيقة. فهل نجح بروميثيوس الجديد هذا في مسعاه؟ من يدري؟ انه على اي حال تمكن من ان يقلب حياة ربع البشرية رأساً على عقب، وعرف كيف يعطي الصين مكانة اولى في العالم". والحقيقة ان ماو يختلف عن امثاله من الزعماء الكبار في القرن العشرين، بكونه عرف على الدوام كيف يقيم في ذاته تماثلاً بين المفكر والسياسي والفنان والقائد العسكري. وهذا التماثل هو الذي جعل شخصيته ذات سحر اضاء على مواطنيه، بل وأرخى ستاراً من الوهم على الانجازات الاقتصادية وعلى التقدم الاقتصادي، الذي كانت وتيرة تحققه اقل من الهالة الاسطورية التي احاطت بصاحبه. ومن هنا ما حدث حين رحل ماوتسي تونغ: انكشف وهن الانجازات، وتبين ان عظمة القائد كانت القناع الذي غلف كل شيء. فهل نستنتج من هذا ان ماو كان كذبة كبرى؟ لن يكون هذا الاستنتاج منصفاً بالتأكيد. الأكثر انصافاً ان نقول ان الرجل ربما كان وجد في غير مكانه او في غير زمانه، او ان اصراره على استعداء الجميع من حوله، جعل هزيمته في نهاية الأمر حتمية. والحال ان مشهد الصين في زمننا الحاضر يمكن اعتباره، بمعنى من المعاني، هزيمة لماو.