عبر صدور رواية "هشام أو الدوران في المكان" يكون الروائي السوري خيري الذهبي قد أكمل ثلاثيته التي حملت عنوان "التحولات"، والتي باتت تتألف من "حسيبة" الجدة المهيبة و"فياض" الأب الذي حارب الفرنسيين واليهود وخلّف مذكراته على أوراق جرائد و"هشام" ابنه. وتعني "التحولات" هنا من حيث أنها عنوان الثلاثية في وجه أساسي من وجوهها المعنى "الميتامورفوزي" الذي تضرب جذوره في التقاليد الإسرارية الأفلوطينية المحدثة بمضامينها التناسخية والتقمصية الراسخة. فما ان يعود هشام الشيزري في مستهل الشريط السردي من مغتربه في المانيا الى بيت الجوقدار المهجور في حي القنوات في دمشق القديمة ليبحث عن الكنز الذي قيل انه قد أخفي تحت بلاطة في بيت المونة الشامي، ويشد حلقة البلاطة الصلبة وينزعها، حتى يندلق تاريخ العائلة وشخصياتها وحاراتها وأمكنتها وطبائعها ونماذجها ورموزها ومن خلال ذلك كله تاريخ المدينة التي كانت الفروع السبعة لبردى حتى وقتٍ قريب تشكل حيويتها واخضرارها. الزمن الدائري ليس هذا التاريخ المندلق والمستعاد سوى "تحولات" هشام الميتامورفوزية في المكان الأليف بلغة باشلار، والتي تأخذ شكل دوران روحي في المكان المهجور والمدمر، الذي ما ان يعيد هشام ترميميه ويقطن فيه حتى يستعيد عالماً جذورياً كاملاً اعتقد اعتقاداً راسخاً أنه قد انقطع عنه الى الأبد، فلا تكون الشخصيات المستعادة هنا سوى قمصانه البشرية المركبة التي يتألف منها، وهو يدور في المكان. انها "الكنز" الذي يبحث عنه هشام في مستهل الشريط السردي، وليس هذا الكنز "مادياً" على طريقة المخبوءات المخصصة لمواجهة الأيام السود بل هو كنز "ميتامورفوزي" يعادل الجزة الذهبية الروحية لقراء اللغات الكونية البعيدة. وتبدو البنية الروائية في مضمونها الميتامورفوزي دائرية، تنتهي بما تبدأ به وبالعكس. انها تبدأ بنزع البلاطة التي يندلق من تحتها التاريخ التحولي وتنتهي بإعادتها الى مكانها. تبدو وظيفة البلاطة هنا وكأنها تنتمي الى وظيفة فنجان الشاي في رواية مارسيل بروست "البحث عن الزمن الضائع"، أي وظيفة تحسيس الرؤيا، والذكرى المرئية، وبعث الإحساس بزمن ميتامورفوزي روحي خاص، وهي الوظيفة التي باتت من "تقاليد" ما يمكن تسميته بحداثة عليا في سرد الحداثة، يستعاد بعض منها اليوم تحت اسم مرتبك هو ما بعد الحداثة. فلسنا في "هشام" إزاء اشكالية الزمن الاعتيادي بل ازاء اشكالية الزمن الميتامورفوزي الروحي أو النفسي التي تتخطى فيه الأشياء والكائنات بعدها "الإقليدي". يعني ذلك على مستوى الزمن - من حيث أن الرواية فن زمني - تحطيم المنطق الاعتيادي للتوالي الزمني ماضي - حاضر - مستقبل أو خلطه بشكلٍ لا يمكن فيه التمييز ما بين حلقاته. بكلام آخر ليس الزمن في رواية الذهبي خطياً بل حلزونياً ودائرياً في آنٍ واحد ينتج معرفياً عن مقولته "الميتامورفوزية" الأفلوطينية المحدثة. ان تلك الحلقات تبعاً لذلك شديدة التداخل والتركيب. أطلق الروائي وهو نوع من ذات ثانية للكتاب آلياتها الدائرية التحولية فيما بينها. فلا يسرد الذهبي تاريخاً لكن التاريخ يندلق من خلال بنية روايته الميتامورفوزية، ونكون إزاء ميتافيزيقا الأمكنة والشخصيات والأحداث المرجعية التي توهم باحتماليتها وواقعيتها بقدر ما تقول لنا انها تخييلية، وكان الجنس الروائي لا يمكن أن يكون إلا مفتوحاً وفي طور التكون على الدوام. شعرية المكان يمكن القول ان شعرية رواية الذهبي ترتد برمتها الى شعرية البلاطة في بيت المونة في بيت الجوقدار الشامي المهجور. غير أن البلاطة هنا ليست إلا رمزاً كثيفاً للمكان. يستعير في ذلك الروائي الرموز الديناميكية التي تميز الشعر الرؤيوي "الميتامورفوزي" عادة. ان امكنته بقدر ما تؤكد مرجعيتها هي نوع من رموز ديناميكية تتخطى المعنى الإقليدي للمكان. إنها البؤر الصغيرة التي ينبعث منها عالم متناهٍ في الكبر بلغة غاستون باشلار فالبحرة والبلاطة والنار والردهات على سبيل المثال هي كلها في رواية الذهبي رموز ديناميكية بالمعنى الرمزي العالي للكلمة، أي أنها ملائكية ولا تحيل إلا إلى نفسها، ونرجسية بمعنى عبادتها لنفسها، وكهانية بمعنى أنه لا يمكن أن يفهمها إلا من استوعب مضمونها "الميتامورفوزي" أو التحويلي الداخلي الذي يلحقه بصنف النخبة الإكليركية المختارة، وهو الإسم القديم للمثقف. الذي تشكل رواية الذهبي ميدان تحولاته الكارثية والمفجعة. لا ينفي ذلك اهتمام الذهبي "الديكوري" بالمكان الشامي، واستحضاره النوستالجي له، حتى في أدق تفاصيل نباتاته وأمكنته ودخلاته، وهو ما يؤكده ولع الذهبي أحياناً بالوصف لنفسه. ففي داخل شخصياته المشروخة عن أمكنتها حب عبادي للمكان، وحنين "نوستالجي" ماضوي له، يرتفع الى درجة عبادته. ويبدو الذهبي في ذلك من حيث أنه راوٍ ضمني وكأنه يسرد فجيعة بالمكان، من حيث أن شخصيته المركزية تحاول الانقطاع التام عنه. وداخل هذا التوتر ينبعث المكان الشامي في مزيجٍ من النوستالجيا والتمرد. الشخصيات المنكوسة ان البنية الزمنية الروائية بوصفها بنية دائرية تحولية أفلوطينية محدثة يؤسسها الذهبي على المكان، تدمر المفهوم الاعتيادي لتوالي الزمن، والذي يشعر المرء عبره وحده بمعنى هويته المتسقة. انها هنا على وجه التحديد بنية شيزوفرينية لا ينكرها الراوي الضمني نفسه، بل يلح عليها بعبارات مباشرة، تؤذي أحياناً تدفق السرد الميتامورفوزي للمكان. لا نعني هنا الشيزوفرينيا بمعناها السريري بل بمعناها التخييلي أي الذي تنفصم فيه العلاقة ما بين الدال والمدلول، ويتحول الدال الى سهم طليق لدلالات لا متناهية تتحدى المعنى أو تثبيت المعنى. هذه الشيزوفرينيا التخييلية ذات التقاليد الحداثية العليا هي التي تتيح للنص الروائي أن يشير الينا بأن الأسماك ما هي إلا أرواح الأجداد، التي يتم تناسخها وتحولاتها خلال هنيهات. وعلى الرغم من أن الذهبي يعتني أحياناً بالصورة الفيزيقية لشخصياته. فإن هذا الاعتناء شديد الثانوية والعبور. ان اهتمامه المركزي "ميتامورفوزي" خلف كل ذلك الذي يوهم بالاحتمالية. بكلام آخر ان شخصياته إشارية أو علامية ترجىء معناها باستمرار. رغم اعتناء الذهبي بالتصوير "التشكيلي" أو "البلاستيكي" للمكان ومجرياته. من هنا يظهر هشام الشيزري وهو شخصية أساسية أو محورية في الرواية التي حملت اسمه في منظور الشخصيات الأخرى وكأنه مجنون المكان الضائع والمستعاد، والأكثر شيزوفرينية، الذي ينقل عدواه الى الآخرين. تكتسب شخصية هشام بل كل شخصيات الرواية - على المستوى التيبولوجي للشخصية - خصائص الشخصية الكثيفة نفسياً، المتعددة الدلالات والأبعاد والمستويات. وفي ضوء المنظور الميتامورفوذي للشخصية في شخصيات تتحول باطنياً، ليست كل الشخصيات مهما حاول السرد الروائي أحياناً ايهامنا باستقلالها إلا طبقات داخلية لها، في نوعٍ من افصاح الذات عن طبقات الذوات المركبة فيها. من عذب شخصيات الذهبي؟ هل عذبها بإرادته السردية عبر احتلاله لمنصة الراوي أم كانت معذبة بطبيعتها؟ قد يدعي أنه ليس إلا قلماً بأيدي شخصياته. لكن كل شخصياته سواء كانت رئيسية أم خيطية ثانوية معذبة ومنكوسة. انها إما مغتربة بشكل قاتل، أو مقتولة أو منتحرة أو زاوية أو خائبة أو مخصية أو عنينة أو مهزومة بشكل فاجع بالمعنى النفسي والفيزيولوجي في آن واحد، وعلى نحو يرعب المتلقي. صحيح أنه يخلط شخصياته الشيزوفرينية بسمو الفن، فنجد اختلاط لينا بمدام بوفاري، وهشام بالمكان الضائع. والصبية بعشتار، والشيخان بدونكيشوت وسانشوبانسا، إلا أن سرده يبرز باستمرار استراتيجية القمع والاضطهاد. فالعالم الذي ظن هشام أنه محررر له، وأصبح فيه علماً أدبياً، واختار لأعماله رمز ابنته نادية كجسر للحوار الحضاري ما بين الشرق والغرب، مع إرادته بالقطيعة الكاملة مع "بره"، هو نفسه العالم الذي يدمره ويدفع به للعودة الى مكانه الأصلي بشكل شيزوفيرني. وكان البرنامج السردي ليس سوى برنامج الدمار المستمر للشخصيات وعودتها الطفلية الى أعشاشها الأولى. التجنيس الحضاري مثّل التجنيس الحضاري بعداً مركزياً من أبعاد الرواية العربية الحديثة. ونجد هذا المستوى في رواية الذهبي منذ الفصول الأولى، حين يستملك الذكر الحضاري أولغا الأنثى المقموعة والمهمشة هشام. ان أولغا الغرب هي هنا الكائن الذكوري الصائت بقدر ما هو هشام الكائن الأنثوي المخصي الصامت، الذي حولته التجربة السياسية المرة والأحلام المنكوسة وعذابات المعتقل الى رجل دون رجولة يحس بالعنانة الفيزيولوجية والروحية. لكن الرواية تسير بإدعاءات التجنيس الحضاري ما بين الشرق والغرب الى الكارثة، حيث يفقد هشام توازنه ويقتل ابنته ناديا التي أراد لها أن تكون جسر ذلك الحوار والتواصل، وتنتحر زوجته أولغا، ويعود الى مكانه الطفلي الشامي الأول الذي ظن أنه قد انسلخ عنه نهائياً، وكأن الرواية تريد أن تقول لنا ان العصفور يغني في الأيام الأربعة الأولى في عشه الطفلي كل أغانيه التي لن يغني سواها. وليست رواية هشام في مآلاتها إلا رواية هذا العش الضائع والمستعاد. * "هشام أو الدوران في المكان"، دار مشرق - مغرب ودار الكنوز الأدبية، بيروت 1998.