تقع رواية "مجاز العشق" للكاتب نبيل سليمان في فضاء الرواية المضادة التي تكسر نوعية الجنس الروائي وتحاكيه بشكل ساخر. فلسنا في "مجاز العشق" إزاء أحداث متسلسلة بشكلٍ خطي أو عمودي يحكمها منطق الحبكة أو منطق التحفيز التأليفي بشكل يكون فيه لكل حافز وظيفة، وتفضي فيه الحلقة السردية الى حلقات سردية أخرى يترابط معها بقدر ما نحن إزاء مقاطع سردية تقوم على ما يمكن تسميته بشكل سردي دائري، يبدأ في نقطة زمنية معينة ليعود اليها في النهاية. بكلامٍ آخر تتحطم الحبكة هنا أي يتحطم منطقها في تتابع الأفعال وترابطها، فتضيع الحكاية أو تتبعثر، ولا يعود ممكناً تمييزها عن طريقة حكيها أو رويها أو الخطاب الذي تنهض فيه. فلا توجد هنا حكاية إلا جدلاً، وبشكل مشروخ، يلتبس فيه الخيال بالواقع، والأليف بالعجائبي، والمبتذل بالجليل، واليومي بالصوفي، واللغات الماورائية بلغات القاع المقموع والسفلي والمهمش. ف"مجاز العشق" وإن لم تكن تقطع مع تمثيل الواقع أو تشخيصه فإنها تمثل الواقع بشكل مضادٍ أو ساخر. وما يسمى بالشخصيات لا يعدو هنا سوى دوال لغوية طليقة تسبح بشكل عائم. يضيع المعنى في "مجاز العشق" انها نص ضد المعنى أو أنها تقوم على معنى مبعثر ما ان تمسك به حتى يتعثر ويفر. فهي تشتت المعنى أكثر مما تمركزه. ومن هنا فإن زمنها اهليليجي تختلط فيه بشكل فسيفسائي متواليات الماضي - الحاضر - المستقبل أو أنها تتحطم بشكل أدق. يمكن القول هنا ان هذه العلاقة بالزمن هي علاقة شيزوفرينية ليس بالمعنى السريري بل بالمعنى الجمالي الذي يحطم العلاقة ما بين الدال والمدلول، ويرجىء المعنى إطلاقاً. فتكتسب اللغة سمات لغة ما بعد الحداثة، وتتجلى هذه السمات فضلاً عن النوعية الشيزوفرينية للعلاقة ما بين اللغة والزمن في سمتين أساسيتين هما سمة "الإيروتيكية" التي تشكل النسيج المقموع والمدنس وغير الرسمي والشفوي في عالم الكائن، غير أن هذه "الإيروتيكية" دلالياً في النص تحيل الى قطب الحيوية في مقابل قطب الموت، فشخصيات النص بما هي علامات لغوية مفتوحة تظهر بكثافتها النفسية، منذ البداية وكأنها في القاع أو الهاوية. انها من دون ذروة ومن هنا يختلط الجنس بمعنى اللذة والألم والضياع والتجدد. فتكتسب كلمة الماء في "مجاز العشق" حقلاً دلالياً يتأجل فيه معنى الماء باستمرار، بحيث يثير باستمرار ما هو غيره. إن قوته الإرجاعية هي من نمط قوة الرمز الديناميكي أو الرؤيوي الذي لا يكون كلمة أو معنى أو ذكرى بل حركة مؤسسة للعالم، ويعني ذلك أن بنيته الرمزية مقابلة للرمز الأيقوني أو التمثيلي للواقع. فنبيل سليمان يرى بكل بساطة أن الحياة هي التي تقلد الفن وليس العكس، وتظهر الرواية هنا وكأنها سفر تكويني جديد لعالم تعيد إنشاءه من جديد. السمة النصية ويفتح ذلك الرواية على سمة ثانية أساسية هي سمة "النصية" التي تقوم أول ما تقوم على كسر نوعية الجنس الروائي والكتابة عبر النوعيات المختلفة. إنها تخترق تلك النوعيات وتستثمرها في كيان نصي جديد يوظف النص هنا مواد سردية تبدو وكأنها لا متناهية. ويحضر فيها نمط اللوحة الصورة كما في لوحة الفنان الفرنسي، التي تحيل في النص الى سردٍ ذاتي أو شاعري عن أرض كوش وجعفر الصادق والنهر والصراعات المائية السياسية الراهنة. في اللوحة - الصورة تكبر صباء وتنفتح على ذاتها البدائية الدفينة التي تستعيد ذاتاً حضارية قديمة ومخبوءة. ونكون هنا إزاء الراوي داخل الحكي، والرواية داخل الرواية. يذكِّر سليمان هنا الى حد بعيد بتقنية اللوحة - الصورة في "تقاليد" الرواية الجديدة، عند كلود سيمون مثلاً في "معركة فارصال" حيث يوظِّف لوحة بوسان. ودور اللوحة هنا ليس في استثمار التباس الخيال بالواقع وحسب، وتحويلها الى مرآة داخلية كريستالية تشع بالألوان بقدر ما هو دور سردي أي ينهض السرد به، فتتداعى الصور التوالدية طرداً مع تبعثر المعنى وتشظيه. إن عالم الشخصيات إذا صحت تسميتها بذلك، فهي ليست أكثر شخصية من رمز الماء، مثلاً، هو في بنيته الظاهرة العالم المديني الحديث للأنتلجنسيا ورجال الأعمال، عالم السناك والبوتيك وإشارات المرور وأطباق البيتزا والبيبسي والكونياك والفضائيات والكومبيوتر والتجارة وصراعات المقاومة والهجرات السياسية إلا أنه في بنيته العميقة عالم الذات الراهنة المشروخة والمقموعة وقد دلقت كل ما ترسب فيها من لحظات تعود الى أول العالم والخليقة. ويختلط الراوي بشخصياته ورموزه. فهو يصاحبها ويتبادل معها المعرفة بمسار الوقائع المشروخة. وإذا كانت الرواية هنا ليس ما تحكيه بل كيف تحكيه، فإن نبيل سليمان يوظف أسلوبية سردية أخذت تميز الخطاب الروائي في التسعينات وهي أسلوبية ما يسمى في نظرية السرديات بالتعلق النصي. ويقصد به هنا العلاقة ما بين "مجاز العشق" وبين نصوص سابقة. ان هذه العلاقة هي من أبرز سمات العلاقات النصية. وتأخذ شكل تفاعلات لا محدودة، يمثل التفاعل مع النص المقدس بمراجعه التوراتية والإسلامية والمسيحية والوثنية والصوفية والباطنية والهرمسية نمطه الأساسي. محاكاة ساخرة يمكن القول ان هذا التفاعل يأخذ شكل محاكاة ساخرة لتلك النصوص السابقة. ان مفهوم المحاكاة الساخرة أساسي في فهم عالم "مجاز العشق"، غير أنه لا بد هنا من فهمها المرن، فهي كمفهوم أساساً بحسب البويطيقا الأرسطية تقوم على فهم معياري للسامي والمنحط، ويترتب على هذا الفهم تصنيف معياري وليس وصفياً للأنواع أو الأجناس الأدبية. محاكاة سليمان الساخرة تتخطى هذه المعيارية بشكل مركَّب. إنها بتحويل النص السامي الى موضوع منحط، وتفرغ البطولي من جلاله بقدر ما توحي بتحويل الوضيع والمنحط الى نصٍ سام. بكلامٍ آخر الاهتمام هنا بتلك النصوص السابقة هو اهتمام بلاغي لما تقدمه من امكانيات تمثيلية داخلية أو شاعرية أو حتى شيزوفرينية تحطم العلاقة المنطقية مع الزمن، ويدخل في إطارها الأقوال والآيات والأمثال المأثورة. ويحول سليمان تلك النصوص التي يتعلق بها ويمتصها ويكتب عبرها وليس فيما بينها دلالياً وأسلوبياً لتكتسب "مجاز العشق" شكل نصٍ عبر النوعية، إذا ما حفرنا فيه لوجدناه كثير الأشكال. إنه بكلمة أوضح نص مفتوح لا تشكل فيه السردية التقليدية سوى عنصر لكنه مشروخ من عناصر السردية الجديدة التي يختبرها سليمان بروحه التجريبية. وطموح الذات الثانية فيه لأن يبتكر نوعاً من سفر تكوين جديد لعالمٍ يبقى أبداً في طور التكوين، وكأنه يستوحي قولة أوسكار وايلد عن أن الحياة هي التي تقلد الفن. وفي ذلك كله يبدو سليمان وكأنه يقول ان الرواية ليس ما تقوله بل كيف تقوله وتنبني به، وأن الحكاية بمعناها المتعارف عليه هي آخر ما يعتني به الروائي سارد عوالم الأعماق. * صدرت الرواية عن دار الحوار، اللاذقية 1998.