جامعة حائل تحقق إنجازًا علميًا جديدًا في تصنيف "Nature Index 2025"    المطالبة باستخدام التقنيات الحديثة في التشخيص والعلاج والتعليم المستمر ومراقبة السكري    مجلس إدارة جمعية «كبدك» يعقد اجتماعه ال27    القيادة تهنئ رئيسة جمهورية مقدونيا الشمالية بذكرى استقلال بلادها    صندوق الاستثمارات يوقع مذكرة تفاهم مع ماكواري لتعزيز الاستثمار في قطاعات رئيسية بالسعودية    توقعات الأرصاد لخريف 2025م: أمطار غزيرة ودرجات حرارة أعلى من المعدل    وزراء خارجية اللجنة العربية الإسلامية بشأن غزة يعربون عن رفضهم لتصريحات إسرائيل بشأن تهجير الشعب الفلسطيني    إسبانيا تُعلن تسعة إجراءات تهدف لوقف "الإبادة في غزة"    أمانة الشرقية تفعل اليوم الدولي للعمل الخيري بمشاركة عدد من الجمعيات    محافظ عفيف يدشن مبادرة نأتي اليك    إطلاق المرحلة الثالثة من مشروع "مجتمع الذوق" بالخبر    نمو الأنشطة غير النفطية بنسبة 4.6% في الربع الثاني من 2025    جمعية حرف التعليمية تنفذ فعالية الرصد الفلكي للخسوف الكلي للقمر بجازان    المرور يحذر من سحب أو حمل أشياء عبر الدراجات    مراقبون توقّعوا أن تكون الزيارة أهم حدث دبلوماسي في 2025 ترمب يدعو ولي العهد إلى زيارة واشنطن.. نوفمبر القادم    الأميرة أضواء بنت فهد تتسلم جائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز «امتنان» للعمل الاجتماعي    حين يتحدث النص    بنجلادش تكافح موجة متصاعدة من حمى الضنك وحمى شيكونجونيا    ارتفاع أسعار النفط    «مؤتمر الاستثمار الثقافي».. الوصول للاستدامة    مشروعات وجسر بري إغاثي سعودي لسورية    الأخضر السعودي يختتم استعداده لمواجهة التشيك    في مهرجان ولي العهد.. تألق سعودي في سباق الهجانة للرجال والسيدات    بعد أول خسارة في التصفيات.. ناغلسمان يعد بتغييرات على تشكيلة ألمانيا    قبل خوض جولة جديدة من التصفيات.. ماذا تحتاج مصر وتونس والجزائر للتأهل إلى كأس العالم؟    التعاونيون لن ينسوا خماسية النصر    مدافعون لا يقودون أنفسهم    استعداداً لكأس العالم .. الأخضر تحت 20 عاماً يكمل جاهزيته لمواجهة تشيلي    إطلاق جائزة "مدن" للتميز.. تعزيز الابتكار والاستدامة في الصناعات السعودية    التجارة: «تطبيق بلاغ» يحمي المستهلكين    "موانئ" تحقق ارتفاعًا بنسبة 9.52% في مُناولة الحاويات خلال أغسطس 2025    وزير الحرس الوطني يناقش مستجدات توطين الصناعات العسكرية    الجوازات تواصل استقبال ضيوف الرحمن    مهربو القات المخدر في قبضة الأمن    يعتمد على تقنيات إنترنت الأشياء.. التعليم: بدء المرحلة الأخيرة للعمل بنظام «حضوري»    تحت رعاية وزير الداخلية.. تخريج الدورة التأهيلية لأعمال قطاع الأمن العام    النسور.. حماة البيئة    السعودية تحمي النسور ب«عزل خطوط الكهرباء»    أمريكي يصطاد ابنته بدلاً من «الطائر»    راغب علامة يلاحق «المسيئين» بمواقع التواصل    «صوت هند رجب» يفوز بالأسد الفضي في مهرجان البندقية    «الإعلام» : استدعاء 5 منشآت لدعوتها معلنين من الخارج    السمكة العملاقة    شرطة لندن تضبط «نصابة» المواصلات    صحن الطواف والهندسة الذكية    كيف تميز بين النصيحة المنقذة والمدمرة؟    إجراءات عراقية حاسمة ضد مهددي الأمن    932.8 مليار ريال قروضاً مصرفية    رقائق البطاطس تنقذ امرأة من السرطان    «الصحة» تستكمل فحص الطلاب المستجدين    إعادة السمع لطفلة بعمر خمس سنوات    وفدٌ من كلية القيادة والأركان للخدمات الدفاعية البنغلادشية يزور "التحالف الإسلامي"    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ أكثر من 28 ألف جولة رقابية على الجوامع والمساجد    خسوف طويل يلون القمر باللون الأحمر ويشاهده أكثر من 7 مليارات نسمة    عشرات الجهات والخبراء يناقشون مستقبل المزارع الوقفية بالمدينة    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير شرطة المنطقة ويطلع على التقرير الإحصائي السنوي    حين تتحول المواساة إلى مأساة    أربعون عاما في مسيرة ولي العهد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طريقهم الى الحياة
نشر في الحياة يوم 13 - 07 - 1999

رمى الظلام بثقل سكينته في إحدى الليالي، فأغرق فيها همسة الحياة والجماد. وما أيقظ الأرض من سباتها سوى صوت خافت تفاعلت الأرض والساقان لاصداره، فخرج بحياء وبطء قبل أن يدفن ما بين ذرات النسمات. وتابع هذا الصوت اصداره فخرج عن حيائه وتتالى بسرعة وامتزج بصوت دقات تسارع وتعالى. وازداد تلاطم النسمات فأصدرت صفيراً أشبه بصفير انذار ليحذر كل ما قد تراه عين الردى، وأسرعت الساقان في الحراك فدخلتا في سباق مع الدقات المتسارعة، قبل أن ينهي المشهد صدى لطلقات نارية أنهت الساقين عن الحراك، وأسكتت دقات قلب كانت تعلن الحياة.
استيقظ علي من كابوسه هذا مذعوراً. لقد اعتاد أبداً على هذه الأحلام. فقد دفعه حبه واشتياقه لأبيه الى تخطي الحد الفاصل ما بين الحياة والموت حتى صار يراه في عالمه الآخر عبر المنام. قيل له إن أباه استشهد وهو يقوم بواجبه في سبيل تحرير الأرض. لقد سمع هذا الكلام من أمه وسائر أهل المخيم. غير أن ثمانية أعوام من الفراق لم تجهض ما حبلت به ذاكرته من سنين عايش خلالها أباه فذاقها حلوة في كل لحظة رآه فيها. كان يراه حاملاً الحجر و"الكلاشينكوف"، فيسأله: "شو نفع الحجر يا بابا؟" فينظر اليه أبوه نظرة أبية عكست سمرته عليها زبدة من الجهاد ويقول: "لح نبقى نرمي عليهم حجارة تنعمل فيها طريق توصلنا عا فلسطين". فيكتفي علي بهذا الجواب من دون أن يفهم، مدركاً أن ثمانية أعوام من العيش لم تثقفه بهذا المقدار. استشهد الوالد حين كان علي في الثامنة من عمره. لم يكن يدرك آنذاك معنى الاستشهاد. أما اليوم فصار يرى في شهادته عطش جبين الى عرق النضال وجوع تراب الى احتضان الأبطال، ريثما يسمع صوت هدير لدماء زكية تنبت التحرير...
استيقظ علي من غفوة أفكاره على صوت شقيقته الصغيرة نور تنادي أمها، فقام من فراشه يمسح غبار النعاس من عينيه ولاقى أمه في المطبخ ففاتحها الحديث قائلاً: "صباح الخير يا أمي... كيفا "نور" اليوم؟" سكتت أم علي هنيهة ثم ردت عليه بعد أن أزعجها هدير الصمت فقالت: "اليوم أسوأ من مبارح... يا عليي أنا... ليك كيف صار لونها".فرمى علي بنظراته نحو شقيقته نور وأغرق تلك النظرات في ملامح وجهها متحسراً على ما بصقته الأيام في هذا الوجه من صفرة شاحبة. فقد غطت ظلال المرض نور عينين عكستا زرقة البحار، وجمال وجه غزته الحياة بمحاسنها فتبخرت شرارات الحسن من وجهها، تاركة وراءها سيلاً من جفاف الخريف...
عاد علي من صمته وقال: "لح أرجع روح اليوم على الأونروا... إذا ما عطونا وصل لندخلها المستشفى، بدي مشكلها معهم...".
فقطبت أم علي حاجبيها وردت بصوت قلص اليأس من نبراته وقالت: "ما إلنا تلات أيام عم نحاول... بعدهم بيماطلوا فينا...".
خرج علي من المطبخ ودخل غرفة النوم ليبدل ملابسه ويخرج. فوقع نظره على قطعة قماش حمراء تلف حجراً بحجم كفه، وغاص من جديد في بحر من الذكريات، ترفده أمواج الأيام نحو شاطئ الماضي البعيد...
تذكر أيام كان يرى أباه يقبل كل حجر عانق يوماً جداراً من جدران القدس العربية. فقد كان أبوه يلتمس من الحجر أريجاً من أمل العودة الى أرض فلسطين، قبل أن يضيق صدر الحياة به ويقذفه جمرة سطرت الموت طريقاً للحياة. إلا أن أباه أورثه لابنه كما ورثه عن أبيه فرأى فيه وردة عنفوان في مواجهة حقل من أشواك السلاح.
وبينما كان يتأرجح بين أفكاره، انفجر في أذنه صوت نور كالشلال الذي عكَّرت عذوبته جرثومة المرض، فأسرع بارتداء ثيابه وتوجه بسرعة الى مركز الأونروا...
مشى الزمن لحظاته ببطء، وطال انتظار أم علي لابنها الذي لم يعد بعد. كانت جالسة قرب ابنتها نور تترقب مرور الدقائق، فتراها تدوس ابنتها لتزيد ضعفها ضعفاً...
دق الباب فجأة، فسارعت أم علي الى فتحه، وفوجئت بمجيء ابن عمها جميل لاهثاً وهو يقول: "بسرعة... إلبسي عليك... وإمش انت وبنتك عالمستشفى...".
ضاعت أم علي في فضاء حيرتها وذابت في لهيب من القلق. هل ان ذهابها الى المستشفى يعني ان مسؤولي الأونروا وافقوا على ادخال نور اليها، أم انه يعني وقوع علي في مطب ما؟
إلا أن جميل اجابها عن تساؤلاتها قائلاً: "قبلوا يدخلوها المستشفى، بس بعد ما عمل ابنك مشكلة معهم... ضربه واحد من قوى الأمن على راسه فبلش يترف... أخذوا على مستشفى بيروت".
حملت أم علي ابنتها وركضت مسرعة تجرها رياح القدر وتصحبها على درب من الآلام. هذه الدرب التي فرضتها الحياة مصيراً لشعب لاجئ عايش المعاناة وسط عالم من الصم والبكم والعميان. فباتت النجوم ترى والكواكب تسمع والحجر يشعر والنار تدمع، بينما تابع الانسان رقصه على وقع احتضار الانسانية...
لم يمض وقت طويل قبل أن يصل الثلاثة الى مستشفى بيروت، فتوجهوا الى الاستعلامات حيث أمطرهم الموظف هناك بوابل من الأسئلة. بعد ذلك افترقوا، فذهبت أم علي الى غرفة ابنها المصاب، بينما صحب جميل طفلة السبعة أعوام نور الى غرفتها.
وصلت أم علي الى الغرفة المطلوبة، فوافاها الطبيب قائلاً: حضرتك والدته ل"علي"؟
فأجابته: "نعم... وين قاعد علي؟؟.. كيف صار؟؟.. وقف النزيف؟؟..".
فرد عليها قائلاً: "راح ب coma وما منعرف إيمتن بيفيق... حالته سيئة...".
وقبل أن تنطق أم علي بالمزيد من حيرتها وتساؤلها، قاطعتها الممرضة مخاطبة الطبيب وطالبة منه أن ينزل الى الاستعلامات. فتوجه الطبيب الى أم علي وخاطبها قائلاً: "إذا جد شي، قوليلهم بدك الدكتور توفيق".
بعد ذلك، ادخلها الى غرفة ابنها، فوجدت نفسها قريبة منه، وحيدة معه، وقريبة الى وحدة الحياة...
أمضت أم علي ليلتها واقفة، تحدق برمال المستقبل الغابرة، باحثة عن واحةٍ تغتسل فيها من جراح ثلاثة. الأول ضمدته السنون وسجنته الذاكرة، والاثنان الآخران ينزفان منها اليوم أمل العيش والهناء. وتابعت مشيها عبر صحارى الحياة، تائهة، تمر عليها الساعات صواعق وتسمعها رعود الأخبار. وظلت الحال هكذا الى أن أرهقها تفاؤلها فأرغمت نفسها على الجلوس متحدية الوهم ومحولة واحة الأمل الى سراب، حتى أغمضت جفنيها حين استيقظ الصباح.
تراكضت ساعات ثلاث قبل أن يصحو ضجيج المستشفى وتصحو معه أم علي. فقامت من مكانها وأسرعت تجر نفسها نحو غرفة ابنتها نور. هناك لاقت الدكتور توفيق فسألته عن حالة ابنتها وأجابها: "تحسنت كتير... بدها تداوم على أدويتها حوالى الاسبوعين، بس فيك تاخديها اليوم عالبيت".
وما أن أنهى الطبيب كلامه حتى دخلت عليهما الممرضة قائلة: "علي بالغرفة 43 فاق...".
فركضت أم علي عائدة الى غرفة ابنها وخطت نحوه تنقض عليه بنظراتها الدامعة وسط ضجيج العالم الخارجي. حاولت مكالمته فصرخ متألماً... لامست جفنيه فبكى متحسراً... فسألته عن السبب فقال: "لح نرجع عابيتنا شي؟؟..".
فأجابته: "إي... ان شاء الله يا ماما...".
ثم عاد وذرف المزيد من الدمع قبل أن تصطك أسنانه وتأذن لبعض الكلمات بالخروج: "بيي عملّنا جسر ما هيك؟؟..". فأجابته: "إي... إي ماما... إي...".
ثم سألها: "لح يوصلنا شي؟؟.. لح نرجع؟؟..". فأجابته: "ان شاء الله يا ماما... ان شاء الله...".
ثم رأته يفلت من أنامل الدنيا كما رأت أرضها تفلت من أيادي شعبها، وسمعته يقول "ماما" كما سمعت الوطن ينادي والتراب يصرخ. ثم رأت دموعه تذرف الحياة شتاتاً كما ذرفت الحياة قومها يوماً، وراقبته وهو يرسو في حراب ذاكرة التاريخ نفساً مهدورة ويسمو الى الأبدية الكونية عنقوداً أحمر من بستان فلسطين.
بيروت -


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.