لا شك أن التجارب الشعرية العربية الجديدة تستحق القراءة النقدية، مثلها مثل غيرها من التجارب الشعرية السابقة لها، وهي قراءة توفر مناخاً للتعرف على تبلور الوعي الشعري الجديد للعالم. لكنني لا أظن، كما يشيع في الأوساط الشعرية الشابة على الأخص، أن هناك تقصيراً نقدياً فعلياً بحق هذه التجارب، بل هناك شبه خمول نقدي ينوء بكلكله على العقل العربي. ويمكن أن نقرأ واقع الخمول النقدي في ميادين الحياة العربية جميعها لا في النقد الأدبي وحده. إن شعراء السبعينات، ومن جاؤوا بعدهم، يضخمون الأمر في ما يتعلق بتجاربهم لأن شعراء كباراً مثل سعدي يوسف ومحمود درويش لا يلقون الإهتمام النقدي الكافي، وما كتب حول شعر هذين الشاعرين لا يتجاوز القراءة الإحتفالية في معظم الأحيان. لكن صدور عدد من الدراسات الأكاديمية حول الأسماء الشعرية العربية الكبيرة يجعل الشعراء الجدد يظنون أن هناك اهتماماً غير متوازن بالأجيال الشعرية المختلفة، وهو في الحقيقة أمر عائد إلى طبيعة المؤسسة الأكاديمية التي تخاف الجديد وتوجه طلبة الدراسات العليا لاختيار ما ترسخ، وحاز على الشرعية الاجتماعية والفنية كذلك، موضوعاً لدراساتهم الأكاديمية، مما يوهم بغلبة الجدل النقدي حول شعر أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف. هناك في الحقيقة اهتمام بالشعر الجديد وجدل نقدي يحتدم حوله، ومن يتابع ما يصدر في الصحف والمجلات والكتب، بغض النظر عن مستويات ما يكتب، يجد ان شكوى شعراء قصيدة النثر، بخاصة، لا تمتلك ارضية فعلية تسندها. ثمة هجوم على قصيدة النثر من طرف جهات عدة بعضها يمثل قلاع التقليد وبعضها الآخر يمثل تجارب شعرية كبيرة ترى ان السهولة التي تحكم الكتابة الشعرية في قصيدة النثر تهدد بإفساد الذائقة الشعرية العربية. لكن هذا الهجوم يدل على ان قصيدة النثر العربية تكتسب شرعيتها من الجدل الصاخب الذي يدور حولها وعنها، مما يؤكد ان هذه القصيدة غير مهملة نقدياً كما يظن شعراؤها، بل هي مدار بحث وحوار يشارك فيه شعراء ينتسبون الى تيارات ورؤى شعرية مختلفة. ان التجارب الشعرية العربية الجديدة هي في اطوار التكون والتبلور، والنقد بطبيعته يتأنى لمعرفة المدارات التي ترتحل فيها التجارب الجديدة، لا جبناً من النقاد بل احتياطاً ورغبة في معرفة ما ستسفر عنه هذه التجارب من رؤى وتحولات ومقدرة على تغيير الذائقة العامة، او على الاقل التأثير في هذه الذائقة. وإذا كان من حق الشعراء الجدد التطلع الى معرفة كيف تفكر المؤسسة النقدية حيال تجاربهم الجديدة، فإن من حق النقاد الكتابة عما يرون انه مؤثر في المناخات الأدبية لزمانهم. وفي ظني ان هناك عدداً من النقاد، ينتمون الى اقطار عربية مختلفة، ممن يشتغلون على هذه التجارب الجديدة ويكتبون في الصحافة والمجلات الأدبية المتخصصة، والكتب النقدية التي تقرأ التجربة الشعرية العامة والتجارب الجديدة المفردة، دراسات تستكشف التحولات النوعية التي تحدثها هذه التجارب في كتاب الشعر العربي المعاصر. وبعض هؤلاء النقاد يواكبون التجارب الشعرية الجديدة تنظيراً وتطبيقاً للخروج بقواعد وقوانين لأشكال الكتابة الشعرية العربية في نهاية هذا القرن. للأسباب السابقة لست متشائماً من طبيعة علاقة النقد العربي، في الوقت الحاضر، بالكتابة الشعرية العربية الراهنة بالمقدار الذي أجدني متشائماً من واقع تراجع الثقافة بعامة في الحياة العربية وسيادة الاستهلاك وغياب القيم الإنسانية العليا. إنها أزمة صاخبة ومعقدة شديدة التركيب، والنقد والشعر، وكذلك العلاقة بينهما، تفاصيل صغيرة في رقعة هذه الأزمة الوجودية التي تحكم طوقها حول العرب في المرحلة الراهنة.