في السعودية، يقظة ثقافية مفاجئة وطاغية في الآن ذاته، انكشف كمونها واتضحت ملامحها في تدفق فوار متوال لنتاجات مكثفة أعلنت ثمار جذور تعود بدايات استنباتها الى أكثر من عقد من السنين. هذه الصحوة تتجسد انبثاقاتها المتعددة في ان التاريخ أول هواجسها ومدار حركتها الأساسي، وتتخذ من الوثيقة مادة لها إلا أن تأثيرها في الفعل الثقافي العام يمتد وينتشر ليستثير المجالات الاخرى ويجدد حيويتها ويدفع بها الى أتون الحركة والفعل والنمو الحقيقي. بدأت السعودية، منذ سنوات، حركة محمومة يغذيها حماس فائق للملمة جزئيات تاريخها الحديث منذ ولادته الأولى سنة 1902 متخذة نسقاً جديداً في أطره المنهجية وسياقاته المعرفية، اذ تتابع، بجرأة وانفتاح كلي لافت الدلالة، فتح الخزائن المغلقة لتنفض عنها غبار السنوات وتضخ مقتنياتها المهمة في مفاصل تاريخها المكتوب، واستحوذ عليها هاجس معرفي لإلتقاط كل الوثائق المتناثرة، داخلياً وخارجياً، لتولد منها وعبرها، نبضاً جديداً وصادقاً لاعادة تشكيل لوحة مكتملة يؤطرها الوضوح والشمول، ويرسم تفاصيلها الدقيقة خط متماسك من المعلومات الموثقة المتعددة المصادر والمنابع، يمسح انطباعاً مشوشاً كرسته اجتهادات ذاتية لم تخل من تحامل قصدي، أو دعائية فيها فجاجة استلبت حيوية هذا التاريخ، وألغت ديناميته وتوتراته، وهمشت حقيقة فعله لتغاضيها عن مافيه من شد وجذب، وفعل داخلي بمساراته المعلنة والسرية. كان التاريخ السعودي المكتوب لا ينفع باحثاً ولا يفيد دارساً ولا يشبع اهتمامات متابع معني بتاريخ المنطقة وتطوراته لصورته الأحادية المرتكزة على آلية ترويجية مغالية في انتشائها، لذلك تجاوزه الباحثون وسعوا الى إعتماد أي معلومة متاحة مهما كان ضعفها لأنها الخيار الوحيد، والاضاءة الممكنة للتحرك في فضاء معمي أغلقت منافذه وسدت مسالكه المعرفية فلا يبقى إلا مساحة مفتوحة للاجتهاد والظن والاحتمال والتأويل. هذان المساران الرسمي والخارجي في دراسة التاريخ كان لا بد من تصادمهما، لكن النتيجة النهائية كانت صورة واحدة فيها الكثير من التشويه والفقر المعلوماتي وان اختلفت في مدافعتها أو تحاملها. واذا كانت السعودية انتهجت هذا الطريق متأخراً الا أنها جسدت اهتمامها في إنقاذ هذه الوثائق قبل أن تنطمس معظم ملامحها، وحرصت على جمعها وتنقيحها وتصحيحها لتكون مادة متكاملة متاحة للباحثين عند الكتابة مرة اخرى. وكانت البداية انشاء مؤسسات جديدة أو تفعيل نشاط القائمة منها لتتولى مهمة جمع المخطوطات والوثائق وتتبع أماكن وجودها الداخلية والخارجية. وتضافرت جهود هذه المؤسسات وتسابقت خطواتها فكانت مكتبة "الملك فهد الوطنية" تحقيقاً لمهمتها الاساسية الأكثر عناية في متابعة هذا المشوار، والبحث عن كل ما يخص السعودية وجمعه بكل الوسائل شراءً واستعادة واهداءً ونسخاً وتصويراً، ولحقتها دارة الملك عبدالعزيز بعد ان تجاوزت سكونها لتلتفت الى مقتنياتها وتعاود العناية بها والمحافظة عليها وتغذيتها، خصوصاً في ما يتعلق بالملك عبدالعزيز ويدور في فترة وجوده، وهو الدور الذي قامت به مكتبة الملك عبدالعزيز العامة والتي كان من اهدافها، ايضاً، البحث عن كل المواد المتصلة بالملك عبدالعزيز أيا كانت قيمتها أو صعوبة الحصول عليها، وأصدرت مؤلفات عدة متميزة وقيمة ارتكزت على استحضار المؤلفات المختلفة عن السعودية في مرحلتها التأسيسية ونشرها مجدداً كان نشاط هذه المؤسسات المتسارع يراكم المقتنيات ويجمع شتاتها، ويستدرك الفجوة الزمنية في تعميق البحث وتكثيف حركته حتى لايضيع أياً من المظان المحتملة. وتمكنت من تحقيق نجاحات مهمة عوضت التراخي السابق وأيقظت جذوة الاهتمام حتى لدى الأفراد الذين كانوا من المصادر المهمة والبالغة القيمة لما لدى بعضهم من وثائق قيمة بحكم مشاركتهم في الأحداث شخصياً أو لما ورثوه من ذويهم الفاعلين في تلك المرحلة. ثم جاءت الخطوة الثانية في ترجمة المؤلفات الأجنبية وإعادة إصدارها، وتكليف متخصصين بكتابة جديدة للتاريخ متسلحة بالوثائق والمخطوطات والمستندات المكتشفة أو المتحررة من الخزائن المغلقة. مشروع "الملك عبدالعزيز سيرته وفترة حكمة في الوثائق الاجنبية" اذا كانت هذه اليقظة تبلورت في مظاهر عدة فإن من أبرز مظاهرها مشروع "الملك عبدالعزيز آل سعود: سيرته وفترة حكمه في الوثائق الاجنبية" في استناده الى رؤية الآخر في ملابساتها الزمنية، واعتماده على وثائقه المعبرة عن موقفه وتصوراته وتعاملاته فلا مجال لتعديلها أو تغيير محتوياتها. هذا العمل المتميز قامت به "الدائرة للنشر والتوثيق" وتكفل الأمير سلطان بن عبدالعزيز بجميع نفقاته نظراً لما يتطلبه من جهود مكثفة وكلفة عالية في سبيل جمع الوثائق الاجنبية التي تتحدث عن الملك عبدالعزيز ووصفها له، ومحادثات مصادرها معه، وانطباعاتها عنه فرداً وحاكماً ومفاوضاً وآلية العلاقات معه عبر تفاصيل دقيقة بحمولاتها السياسية وظروفها المؤثرة، والتي لا يمكن، من دونها، اختراق الحاجز الزمني، ومعاودة رسم الصورة في مناخها الحقيقي بعوامله المتشابكة. سبع سنوات لأكمال هذه المهمة لتجيء حصيلتها 20 مجلداً من الوثائق البريطانية والفرنسية والاميركية كان مجالها الزمني حياة الملك عبدالعزيز ونشاطه السياسي من 1902 حتى وفاته 1953 وهي أهم الفترات في التاريخ السعودي لأنها مرحلة فعل الوحدة لبناء البلد في صورتها السياسية القائمة وحدودها الجغرافية الحالية، وملامح تشكل الدولة بمؤسساتها المدنية، وحالتها الاجتماعية، وبدايات نهوضها الاقتصادي. وعندما تحققت اليقظة السعودية أصبح واضحاً ان الجهد المطلوب يفوق بمراحل ما كان متوقعاً إذ ثبت ما تعرضت له هذه الوثائق من اهتراء زمني وتفككك أوصال أكثرها بحيث أن قابلية استخدامها يستدعي أولاً ترميمها واستجلاء ما بهت من نصوصها وإعادة احيائها مجدداً في عملية شديدة الصعوبة إلى حد الاستحالة في بعض الأحيان لبعدها الزمني ووفاة المشاركين في أحداثها والكاتبين لها الذين لا غنى عن دورهم في قراءتها الصحيحة وسد فجوات الاهتراء فيها، وإضاءة ما اتصل بها من ظروف وأحداث. ويزيد من صعوبة الترميم ومحاولات الاستقراء ضخامة عددها وضرورة تجهيزها بلا استثناء قبل أي خطوة لترتيبها وتنظيم سياقها الدلالي والزمني، ووضع خطة عمل لرصيدها وتنقية شوائبها وحذف المتكرر والثانوي ومن ثم تقرير آلية كتابتها تبعاً لقيمتها المرجعية وصلتها الدقيقة بالحدث. هذه الإشكالات الشكلية نتيجة تأخر الإهتمام استلزمت جهوداً تقنية ضخمة في عمليات الترميم الأساسية في خطوة مبدئية يستتبعها مراجعة متخصصة من خبراء وباحثين مؤهلين للتحقق من صحة فعل الترميم في مقارنات لا تنتهي مع الوثائق الأخرى ودراسات موسعة لتاريخ كل وثيقة وظروفها السياسية والاجتماعية عبر استقراء شمولي حصري للفترة وأحداثها وحركة الوثائق المتزامنة معها في المناخين: الذاتي للسعودية والدول المجاورة لها والمتفاعلة بالضرورة مع أحداثها، والخارجي لسياسة حكومة مصدر الوثيقة وطبيعة فعلها وسلوك وإطار العلاقات معها والنوايا تجاهها. في ظل هذه الصعوبات كان الطريق الأسهل والمريح الاعتماد على الوثائق السليمة واختيار الإيجابي منها لتدعيم الصورة العامة خصوصاً وأن عددها الهائل يسمح بذلك ويحقق الغاية الاولية لأنه يحافظ على أصل شكل الوثيقة وأهميتها التاريخية ويلغي أي شك في حقيقة الجهد المبذول حتى وإن أسقط مراحل أخرى أو تجاهلها لأن أي باحث خارجي لن يستطيع الكشف عن الوثائق المتصلة بها لعدم القدرة على ملاحقة منابعها المختلفة والكلفة العالية لتنظيفها وتوظيفها لاحقاً. لكن استبعاد هذا الخيار يعمق الجدية ويبين النزعة المعرفية البحتة وموضوعيتها البحثية وصدق هدفها في توفير الأساس المعلوماتي المكتمل لخدمة الباحث أيا كان منطلقه او غايته. تجربة "الدائرة للنشر والتوثيق" في إعدادها للوثائق الاجنبية عن الملك عبدالعزيز في مشروعها، من أكثر التجارب ثراء وغنى في خدمة تاريخ السعودية، ومن أعمقها وأكثرها صرامة ودقة في المنهجية العلمية لطابعها المؤسساتي وتنوع الخبرات التاريخية المشاركة فيها ولمساهمتها الفاعلة في كسر برودة الوثيقة وجفافها عن طريق تغذيتها بالشروحات الدقيقة لإشاراتها الغامضة، وإحالاتها المتكررة لوقائع اخرى، واسناداتها إلى مخاطبات أو مراسلات سابقة او تحديد اجوائها الكلية، وإيضاح مواقعها الجغرافية، وأوضاع الاسماء الواردة فيها ودورها في الأحداث وحدود مشاركتها. إضافة إلى انتظامها في نسق دلالي يرسم حركتها وانعكاسات أثرها، ويمنحها تماسكاً وتكاملاً في مضمونها، ويحيي جذوتها التاريخية وفعلها الحي حتى لا تكون مجرد مادة صامتة مغلقة لا يستفيد منها سوى باحث متخصص تهمه معلومة محددة توثق مادته وتدعم نتيجة استخلاصاته. هذه الخاصية وسعت مدارها التوثيقي لتكون شكلاً من الكتابة التاريخية النابضة يستمتع بها القارئ غير المتخصص ويتعرف من خلالها على الحركة الحية للواقع المتشابك ومساراته، ويعايش الحدث ويتماس معه ويتفاعل مع مسار حركته من دون انفصال عنه أو شعور بالاغتراب يتعمق مع نقص المعطيات والجهل بالملابسات الآنية والظروف المحيطة والاحداث الجارية والاشخاص الفاعلين فيها والمسببات الظاهرة والكامنة في كل منها. لذلك فإن هذا المشروع يحفر مداراً جديداً لحركة المجتمع السعودي ويعيد اليه صورة تاريخه الحقيقي ليكون شعلة انطلاقه الى آفاق جديدة لها مرتكزات واضحة وثابتة. ويتيح للباحث الخارجي كل ما يحتاجه من مادة موثقة محققة لا زيف فيها ولا مغالطة تساعده في استيعاب الحدث التاريخي وفهم مختلف علائقه لتدعم وعيها الداخلي بوعي خارجي متساوق هدفه الاساسي جلاء الغموض وفتح المغلق فلا يبقى سوى المنطلق والرؤية الخاصة التي تتحدد قيمتها، سلباً أو ايجاباً، بمدى منهجيتها ووثوقية معلوماتها إذ لم يعد الظن والاجتهاد منطلقاً مبرراً ومقبولا بسبب نقص المعلومة والتكتم عليها.