ارتفاع ملموس في درجات الحرارة ب3 مناطق مع استمرار فرصة تكون السحب الممطرة على الجنوب ومرتفعات مكة    المسبار الصيني «تشانغي-6» يهبط على سطح القمر بعد شهر على إطلاقه    عدا مدارس مكة والمدينة.. اختبارات نهاية الفصل الثالث اليوم    جامعة بيشة تحتفل بتخريج الدفعة العاشرة من طلابها    أمير تبوك يهنئ نادي الهلال بمناسبة تحقيق كأس خادم الحرمين الشريفين    توجيه الدمام ينفذ ورشة تدريبية في الإسعافات الأولية    غرامات وسجن وترحيل.. بدء تطبيق عقوبة «الحج بلا تصريح»    «الشؤون الإسلامية» بالمدينة تفعّل خدمة «فعيل» للاتصال المرئي للإفتاء بجامع الميقات    فيصل بن فرحان يؤكد لبلينكن دعم المملكة وقف إطلاق النار في غزة    الهلال.. ثلاثية تاريخية في موسم استثنائي    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات 2025    لهو الحيتان يهدد السفن في المحيط الأطلسي أرجعت دراسة ل "اللجنة الدولية لصيد الحيتان"، سبب    «الصهيونية المسيحية» و«الصهيونية اليهودية».. !    سفاح النساء «المتسلسل» في التجمع !    «تراث معماري»    تكريم «السعودي الأول» بجائزة «الممارسات البيئية والحوكمة»    تعاون صناعي وتعديني مع هولندا    تعزيز العلاقات الاقتصادية مع ايطاليا    ريال مدريد يتوج بلقب دوري أبطال أوروبا للمرة 15 في تاريخه    آرسنال يقطع الطريق على أندية روشن    الإسباني" هييرو" مديراً رياضياً للنصر    الاتحاد يتوّج بكأس المملكة لكرة الطائرة الشاطئية    حجاج الأردن وفلسطين يشيدون بالخدمات المقدمة بمنفذ حالة عمار    روبوتات تلعب كرة القدم!    فرنسا تستعد لاحتفالات إنزال النورماندي    الدفاع المدني يواصل الإشراف الوقائي في المسجد النبوي    إحباط تهريب 6,5 ملايين حبة كبتاغون في إرسالية "إطارات كبيرة"    «المدينة المنورة» صديقة للتوحد    التصميم وتجربة المستخدم    بعضها أغلق أبوابه.. وأخرى تقاوم.. تكاليف التشغيل تشل حركة الصوالين الفنية    اطلاق النسخة الثالثة من برنامج "أيام الفيلم الوثائقي"    البرامج    قصة القرن 21 بلغات العالم    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    قيصرية الكتاب: قلب الرياض ينبض بالثقافة    مقاطع ريلز التجريبية أحدث ميزات «إنستغرام»    "أسبلة المؤسس" شهود عصر على إطفاء ظمأ قوافل الحجيج منذ 83 عاماً    توزيع 31 ألف كتيب لإرشاد الحجاج بمنفذ البطحاء    فرز وترميز أمتعة الحجاج في مطارات بلدانهم.. الإنسانية السعودية في الحج.. ضيوف الرحمن في طمأنينة ويسر    تركيا: تكاثر ضحايا هجمات الكلاب الشاردة    إصدار 99 مليون وصفة طبية إلكترونية    ورشة عن سلامة المختبرات الطبية في الحج    الليزر لحماية المجوهرات من التزييف    توصيات شوريَّة للإعلان عن مجالات بحوث تعزيز الصحة النفسية    شرطة الرياض تقبض على مقيمَين لترويجهما «الشبو»    بلد آمن ورب كريم    ثروتنا الحيوانية والنباتية    النفط يستقر قبيل الاجتماع ويسجل خسارةً أسبوعيةً    ترحيل 13 ألف مخالف و37 ألفاً تحت "الإجراءات"    شراكة بين المملكة و"علي بابا" لتسويق التمور    متنزه جدر بالباحة.. قبلة عشاق الطبيعة والسياحة    بَدْء المرحلة الثانية لتوثيق عقود التشغيل والصيانة إلكترونياً    مشروع الطاقة الشمسية في المركز الميداني التوعوي بالأبواء    جامعة الطائف ترتقي 300 مرتبة بتصنيف RUR    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مكة المكرمة على ضوء بينات الحق والتاريخ والعلم . الحجر الذي لا مثيل له ولا شبيه به ... ولا قطعة غيره 2 من 2
نشر في الحياة يوم 04 - 04 - 1999

بعد أن وقفنا في الحلقة الأولى على بدايات وحقائق أهم معالم حرم الله الآمن مكة المكرمة نكمل بقية المعالم في هذه الحلقة الثانية ونبدأها بالحجر الأسود.
مضى إبراهيم واسماعيل في بناء الكعبة كما امرهما الله عزّ وجلّ حتى انتهيا الى موضع الركن. فقال ابراهيم لإسماعيل: يا بني ابغ لي حجراً اجعله علماً للناس - اي اول حدود هذا البيت المكرم الذي يبتدئ منه الطائفون - فجاءه بحجر فلم يرضه. وقال: "ابغني غير هذا". فذهب اسماعيل ليلتمس له حجراً اخر فلما رجع وجد أباه الخليل قد وضع الحجر الأسود في موضعه من الركن فقال: يا أبت من جاءك بهذا الحجر؟ قال أتاني به من لم يكلني إليك يا بني، أتاني به جبرائيل عليه السلام.
التاريخ يعيد نفسه
وتتشابه الصورة مرة اخرى بين ابراهيم ومحمد عليهما افضل الصلاة وأتم السلام. ففي عام 605 ميلادية وقبل مبعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم ببضع سنين، استقر رأي قريش على تجديد بناء الكعبة بعد ان اصابها السيل، إذ قرّ رأيهم ألا يدخل في بنائها من الكسب إلا الطيب، فلا يدخل فيها مهر بغى ولا بيع بربا ولا مظلمة أحد من الناس. بعد ان تحققت من طهارة مصادر تجديد البناء وبعدها عن اي شبهة او حرام، بدأ البناء بأفراد انتخبوا من الصفوة المختارة ممن عرفوا بالأخلاق الطيبة والقلوب الرحيمة. وما ان بلغ البنيان موضع الركن حتى اختصمت القبائل واختلف الأفراد: أيهم يضع الحجر الأسود بيده؟ فإنه شرف له ولقبيلته اي شرف .. وكيف يختار أطهر الرجال وأحسن الأفراد ليحمله؟
اشتد الخلاف حتى بدت في الجو نذر الحرب الأهلية الى درجة تحالف بعض القبائل فيما بينها في الحلف المشهور "لعقة الدم"، حيث قدّم كل فرد منهم بعض دمه من جرح افتعله في جسمه، حتى امتلأت جفنة بالدم وضعوا أيديهم فيها، توكيداً لعهدهم وشهادة على صدق وعدهم على ألاّ يكون هذا الشرف إلاّ من نصيبها، ويختار لذلك افضل رجالهم وأصدقهم. ودام اجتماع القبائل خمس ليال ولم يتوصلوا فيها الى حل لخلافهم هذا، فأصبح ولا مفرّ من الحرب، الى ان اقترح ابو اميّة بن المغيرة، وكان اكبر اهل قريش سناً، اقتراحه المعروف إذ قال: "يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه اول من يدخل من هذا الباب يقضي بينكم فيه"، فوافق البعض وصمت البعض الآخر.
وتشاء حكمة الله سبحانه وتعالى وبعد ان كانت مكة تعج بالناس، ان لا يدخل من هذا الباب الذي وافقوا عليه في حينها إلا حبيبنا رسول الله عليه الصلاة والسلام فصاحوا جميعهم مستبشرين، الموافق منهم والصامت: "هذا الصادق الأمين، رضينا بحكمه". وما أن أخبروه بالأمر حتى طلب ثوباً ووضع بيديه الشريفتين الحجر عليه، وطلب من كبار القبائل ان يأخذوا بأطراف الثوب، وبذلك اشتركت القبائل كلها في رفع الحجر الأسود الى ان وصل الى مكان البناء، فأخذه ووضعه في الركن وبنى عليه .. أليسَ الله سبحانه وتعالى هو الذي اختار نبيّه ليدخل من ذلك الباب الذي أشاروا واتفقوا عليه في حينها ليضع الحجر الأسود مكانه في الركن من البيت؟ بعد ان اختلفوا فيمن يرفع الحجر الأسود إذ أرادوا ان يكون ذلك افضلهم وأصدقهم، فهل كان هناك أطهر وأصدق من محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي اشتهر بين أقوام العرب بالصادق الأمين ليقوم بالبناء، التي هي صورة لجدّه ابراهيم وقد وقف في المكان نفسه للغرض نفسه من آلاف السنين، وصدق رسول الله حين ذكروا المسلمين ابراهيم امامه قال عليه الصلاة والسلام: "أما ابراهيم فانظروا الى صاحبكم"، اي يقصد نفسه. وعزّ القائل سبحانه: ]ما كان ابراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، إن اولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي".
من بشريات الأنبياء
وما يؤكد هذا الموقف العظيم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم نبوءة لنبي الله داود عليه السلام في مزمور من مزاميره: "إفتحوا ابواب الصدّيقين، فأدخل أحمد الربّ. هي ابواب الى الرب، وفيها يدخل الصدّيقون. الحجر الذي رفضه البنّاؤون صار رأس الزاوية. من عند الرب كان ذلك، وهو عجيب في عيوننا. هذا يوم صنعه الرب، فابتهجوا وافرحوا به. تبارك الآتي باسم الرب. نبارككم من بيت الرب -أي الكعبة-. الرب هو الله الذي أنارنا - أي هدانا-" مزمور 118/ 19 - 27.
وقوله داود عليه السلام: "افتحوا ابواب الصدّيقين فأدخل أحمد الرب"، لا نخالها تكون بعيد عن اسم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقوله: "هي ابواب الى الرب، وفيها يدخل الصدّيقون"، اي الباب الذي دخل منه الرسول بحكمة الله في حينها، وقوله: "الحجر الذي رفضه البنّاؤون صار رأس الزاوية" اي الحجر الأسود، وقوله: "فابتهجوا وافرحوا به" اي الذين تخاصموا وفرحوا عند دخول الرسول من الباب الذي حددوه في حينها ليحكم بينهم، وأيضاً لابتهاج كل البشرية لرسالته، وقوله: "تبارك الآتي باسم الرب" اي الرسالة التي اتى الرسول بها الى الناس أجمعين، وقوله: "نبارككم من بيت الرب" اي الكعبة التي جعلت نور هداية للعالمين، مصداقاً لقوله تعالى: ]إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين[، وذلك اذا علمنا بأن النبي داود لم يبنِ بيت او هيكل في زمانه في فلسطين حتى يسمّيه بيت الرب، بل الذي بنى الهيكل من بعده بسنين كما هو معروف ابنه سليمان عليه السلام، وأيضاً لم يكن نبي الله داود بعيد عن ديار العرب ومكة، وهذه الحقيقة تؤكدها التوراة حيث جعل النبي داود احد قواد جيشه عربي وهو أبيل العرباتي، والقيّم على جماله وأملاكه أوبيل الإسماعيلي وغيرهم كثير انظر التوراة اخبار الأيام الأول 11/32 و27/30.
قول أحد المؤرخين
يقول المؤرخ وِل ديورانت في كتابه قصة الحضارة: "وفي ركن الكعبة الجنوبي الشرقي، وعلى بعد خمسة اقدام من سطح الأرض، الحجر الأسود، وهو حجر قاتم اللون بيضي الشكل قطره سبع بوصات. ويعتقد الكثيرون ان هذا الحجر قد نزل من السماء، ويقول معظمهم انه وجد بالكعبة من ايام ابراهيم، ويرى علماء المسلمين انه رمز لذلك الفرع من ابناء ابراهيم فرع إسماعيل وأبنائه الذي نبذه بنو إسرائيل فكان منه آباء قبيلة قريش. ويؤيد قولهم هذا بما جاء في المزمور الثامن عشر بعد المائة في الآيتين 22 و23 "الحجر الذي رفضه البنّاؤون قد صار رأس الزاوية"، وفي الآيتين 42 و43 من الإصحاح الحادي والعشرين من انجيل متى، وهو قول عيسى بعد ان نطق بهذه العبارة العجيبة: "لذلك اقول لكم ان ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره".
وصف الحجر الأسود
الحجر الأسود حجر صقيل بيضي الشكل غير منتظم ولونه أسود يميل الى الاحمرار وفيه نقط حمراء وتعاريج صفراء، يقع في الركن الشرقي من الكعبة على يسار الباب، على ارتفاع متر ونصف من ارض المطاف، قطره نحو 30 سنتميتراً يحيطه اطاراً من الفضة عرضه 10 سنتيمترات، والمسافة التي بين ركن الحجر وباب الكعبة تسمى الملتزم وهو ما يلتزمه الطائف في دعائه واستغاثته الى الله حين شروعه بالطواف.
من معجزات الحجر الأسود
قمت بعثات دراسية تجوب كل الجبال الموجودة في البلاد العربية لعلها تعثر على حجر مثله فلم تجد على وجه الإطلاق .. لا مثيله ولا شبيه به .. ولا قطعة غيره.
ومن معجزات اسراره ايضاً، ان ملايين الملايين من البشر منذ أن قامت الكعبة وحتى الآن، يتدافع المسلمون للمسه وتقبيله لدرجة تجعل الشفاه وكأنها تلامس بعضها البعض لسرعة المقبّلين وازدحامهم .. وقد كان ذلك موضع بحث علمي إذ قامت بعض البعثات العلمية من غير المسلمين بعملية فحص معملي بكتريولوجي للطبقة الظاهرة التي يتلامسها ويقبّلها الناس فما وجودوا اطلاقاً اي آثار ولو طفيفة لأي ميكروب .. وهو ما يخالف طبيعة الأشياء التي تكون دائماً موضع الزحام ناهيك باللمس والتقبيل من قبل ملايين ملايين البشر عليه .. لذلك ليس من العجيب ان ينقل إلينا بالتواتر ومنذ القدم وكما أكده حديث لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إن هذا الحجر من أحجار الجنّة وقد أتى به جبريل لإبراهيم عليهما السلام، ليكون علماً للمسلمين".
ومن حكمة الله في هذا الحجر الذي اتخذه ابراهيم علماً للمسلمين ليكون نقطة البداية التي يبتدأ بها الناس طوافهم واتخاذه حجر المقام ليكون علماً لنهاية الطواف .. انه كان من عادة اهل الجاهلية عبادة الأحجار ولكنهم لم يعبدوا هذين الحجرين على رغم احترامهم لهما عبر اجيالهم أشد الاحترام .. وإن دلّ على شيء فإنه من عصمة الله تعالى وحفظه لهذين الحجرين من أيام ابراهيم وإلى يوم القيامة .. فلو أن اهل الجاهلية عبدوا الحجر الأسود والمقام من دون الله في الجاهلية وجاء الإسلام بتعظيمهما لكونهما علما بداية ونهاية الطواف وكما وضعهما الخليل للناس من غير شرك او رجس لقالوا ان الإسلام أقرّ بتعظيم الأصنام وأقرّ بالشرك.
تحريم مكة المكرمة
قال تعالى على لسان نبيّه: ]إنما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الذي حرّمها وله كل شيء وأُمرت أن أكون من المسلمين[. أي ان مكة صارت حراماً شرعاً وقدراً بتحريم الله لها، وقد حرّم الله مكة يوم خلق السموات والأرض وإلى يوم الدين، وهو ما يؤكده حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة، لا يعضّد شوكه، ولا يُنفّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها"، وقد أكد الله سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام على تحريمه لمكة المكرمة حين انتهاء ابراهيم من بناء البيت: ]وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر[، ]ربنا إني أسكنت من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون[.
حكمة الله في التحريم
بعد ان اختار سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها .. ليكون موضع بيت الله العتيق .. بيت الخالق العظيم الجبار القهّار .. مالك الملك .. ذو الجلال والإكرام .. حرّمها ليكون المكان الذي يأمن فيه الإنسان .. وفيه يأمن الطير والحيوان .. بل وفيه يأمن النبات حيث حرّم رسول الله قطع شجرها وقلع نباتها .. وفيه تصان الأمانات وتصان الحرمات .. من ظلمات الظلم التي تعتري الأرض .. والله يخلق ما يشاء ويختار .. وجعل تعظيم حرمتها وشعائرها من تقوى القلوب .. لأن تعظيم ما حرّم الله .. تعظيم للحق وعزّته .. التي تعلم وتهذب النفوس على ضوء ذلك القسط والعدل .. والأمن والأمان .. والطمأنينة والسلام .. والإحترام والتقدير .. وإطفاء ثائرة الشرور والسيئات .. لتعود النفوس الى فطرتها السوية.
حرمها الله لظهور الحق منها .. لأنها قيام الناس بالقسط .. ولأنها قبلة للعباد .. ومطاف للحجاج .. ولأداء مناسكهم آمنين مطمئنين .. وتكون مداراً لبقاء الدين الإلهي ما بقيت .. ولحرمة الحق الذي لا يزهق .. ولحياة الدين الذي لا يموت .. ولدوام الوحي الذي لا يُنسى .. اتخذ الله عهداً لحرمتها ما ان يقصدها احد بسوء او كان في أمنيته محو الحق فيها إلا قصم ظهره .. فمن يرد فيها بإلحاد بظلم يذقه الله بعذاب أليم لا يبقى ولا يذر. ليكون ملاذاً وأمناً وطمأنينة .. يهرع إليه الإنسان .. فيسكب بين الله العبرات مستنجداً ومستغيثاً .. ومهذباً ومعلماً نفسه عند بيته الحرام ليعود الى فطرته السوية كإنسان محب متعاون آمن يأمنه الناس .. حينما يرى كل الناس وعلى اختلاف ألوانهم وألسنتهم آتين إليها من القرب ومن البعد .. ومن كل فج عميق .. داخلين اليها متواضعين متخشعين متذللين كاشفي رؤوسهم متجردين عن لباس الدنيا والتفاخر والتبرّج والتمايز فيما بينهم .. سوى من لباس أبيض واحد يجمعهم .. وإعلانهم وإقرارهم وشهادتهم فيها أمام الله الواحد ومن مكان بيته الحرام أنهم جميعاً سواسية .. وعلى اختلاف ألوانهم وألسنتهم على الفطرة الواحدة التي خلقهم منها .. ويشهدوا بها بربوبيّته الواحدة عليهم.
موقع مكة وحدود الحرم
تقع مكة المكرمة في الجانب الغربي من الجزيرة العربية وتمتد من الغرب الى الشرق نحو ثلاثة كيلومترات طولاً، وما يقرب من نصف ذلك عرضاً، في واد مائل من الشمال الى الجنوب منحصر بين سلسلتي جبال تكادان تصلان بعضهما من جهة الجنوب.
والسلسلة الشمالية فيها تتكون من جبل الفلح الفلق غرباً، ثم جبل قيقعان ثم جبل الهندي، ثم جبل لعلع ثم جبل كداء وهو في أعلى مكة، ومن جهته دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البلد الحرام حين فتح مكة. اما السلسلة الجنوبية فإنها تتكون من جبل أبي قبيس شرقاً، ثم جبل خندمة، ثم جبل كدي، ثم جبل أبي حديدة غرباً.
وترتفع مكة عن سطح البحر بنحو 360 متراً، وعلى دائرة العرض 25/21 درجة شمالاً، وخط طول 49/39 درجة شرقاً. وقد بيّن سبحانه وتعالى لعبده ابراهيم عليه السلام، حدود حرم الله الآمن عن طريق جبريل عليه السلام، وقد نصبت عليها أعلام في جهات خمس، ثم لم تحرك حتى كان قصي فجددها، ثم لم تحرك حتى كان النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث عام الفتح تميم بن أسيد الخزاعي فجددها. وما زال الناس يعرفون حدود الحرم بالتواتر، جيل بعد جيل حتى الآن.
فحدّه من جهة الشمال "التنعيم" وبينه وبين مكة 6 كيلومترات، وحدّه من جهة الجنوب "أضاه" بينها وبين مكة 12 كيلومتراً، وحدّه من جهة الشرق "الجعرانة" وبينها وبين مكة 16 كيلومتراً، وحدّه من جهة الشمال الشرقي "وادي نخلة" بينه وبين مكة 14 كيلومتراً، وحدّه من جهة الغرب "الشميسي" كانت تسمى الحديبية وهي التي وقعت عندها بيعة الرضوان بينها وبين مكة 22 كيلومتراً.
الحج الى الكعبة الحرام
قال تعالى مخاطباً وآمراً ابراهيم عليه السلام بعد فراغه من بناء الكعبة: ]وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍ عميق[. أي ناد في الناس بالحج داعياً لهم لحجّ هذا البيت الحرام الذي أمرناك ببنائه، وقوله تعالى: ]يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر[ أي يأتوك سعياً مترجلين على اقدامهم اي مشياً ويأتوك على كل ضامر أي راكبين ومن كل فجٍ عميق أي من كل طريق ومن اقاصي الأرض قاصدين الحج بعد ندائك لهم بالحج.
وعن ابن عباس ان ابراهيم قال: "يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟"، فقال عزّ وجلّ: "أذّن وعليّ البلاغ"، فقام ابراهيم على مقامه، وقال: "يا ايها الناس كتب عليكم الحج الى البيت العتيق"، فسمعه ما بين السماء والأرض.
وما يزال وعد الله يتحقق منذ ابراهيم عليه السلام الى اليوم والغد وإلى يوم الدين، ولا تزال أفئدة الملايين الملايين من الناس تهوى الى البيت الحرام، وترف الى رؤيته والطواف به، ويتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذّن بها ابراهيم عليه السلام منذ آلاف السنين.
يقول وِل ديورانت في كتابه قصة الحضارة عن الحج في الإسلام "ولهذه الفريضة العظيمة أغراض وفوائد كثيرة. فهي تقوي إيمان المسلمين، واستمساكهم بدينهم، وتمكن الصلة بهذا العمل العاطفي الجماعي بين المسلم ودينه وبينه وبين اخوانه المؤمنين .. فالحج وما ينطوي عليه من مناسك التقى والورع، يجمع بين بدو الصحراء والفقراء وتجار المدن الأثرياء، وبين البربر وزنوج أفريقيا والشوام والفرس والأتراك والتتار والهنود المسلمين والصينيين والمصريين وغيرهم من الشعوب، يرتدون كلهم ثياباً بسيطة واحدة ويتلون كلهم ادعية واحدة بلغة واحدة وهي اللغة العربية، ولعل هذا هو السبب في ضعف حدة الفوارق العنصرية في الإسلام".
* باحث وكاتب في الفكر الإسلامي والدراسات التاريخية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.