ربما لا يحتاج المرء الى جهد كبير ليدرك ان ملامح الشيخوخة وعلامات الإرهاق تطبع السينما العالمية، وربما لا يحتاج المرء كذلك الى رؤية استثنائية نافذة لكي يقف على عمليات التفريغ التي صار يئن منها النص السينمائي العالمي، واما تراجع القيم الحداثية في مواجهة ما قبلها فلا تحتاج الى أكثر من استطلاع عدد من الاعلانات والاحتفالات التي تنعقد لها في كل العواصم. وبدلاً من أن يكون طول الخبرة والمراس في السينما الاميركية - انتجت 150 ألف فيلم القرن الماضي - دافعاً لإجادة النص ورفعة المضمون كانت النتيجة مخالفة لذلك بل ومتجهة بدأب واضح نحو تنحية النص وتطويق المضمون. وفي غير ذلك من الحالات التي تم فيها اعتماد النص وبلورة رسائل بطريق السينما كانت الاسطورة أساساً للنص وكانت القيم ما قبل الحداثية هي مكونات الرسالة او هي غايتها على نحو مباشر. والامر لا يختلف كثيراً في سيرة مفهوم النظام العالمي الجديد الذي تمخضت عنه حالة العلاقات الدولية في آخر عقود القرن العشرين، ومثلما اختفى النص السينمائي اختفى النص القانوني، وتوالت على إثر ذلك عمليات التفريغ إضافة الى الترقيع والتأويل لظلال قانونية ومؤسسية دولية، ولم يبق غير القوة الفجّة التي لم يكن ممكناً لها سوى استعادة القيم ما قبل الحداثية في العلاقات الدولية وتعظيم مفردات الضغط والقصف والحصار. * نظام عالمي من دون تنظيم: بدأت هوليود عملها في الثلاثينات، ومن يومها وهي تقود السينما العالمية من دون منازع. قدمت في الثلاثينات افلاماً برز منها: "ذهب مع الريح" لكلارك غيبل الأكثر دخلاً في التاريخ بعد فيلم "تايتانك" في التسعينات، كما قدمت "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، ورائعة ولت ديزني "سنووايت". وفي الاربعينات قدمت "المواطن تين" لأرسون ويلز، و"كازابلانكا" و"لمن تدق الاجراس". وفي الخمسينات قدمت هوليود "غناء تحت المطر" لجين كيلي استعراضي، "البعض يفضلونها شقراء" لمارلين مونرو، "في الميناء" لمارلون براندو، وحاز فيلم "جسر على نهر كواي" الذي يتحدث عن التاريخ اليهودي على 11 أوسكار وهي المرة الاولى التي يحصد فيها فيلم هذا العدد من جوائز الاوسكار. وقدمت في الستينات "لورنس العرب" و"الهروب الكبير" و"صوت الموسيقى" و"الطيب والشرس والقبيح". وقدمت في السبعينات "الفك المفترس" و"الاب الروحي" لكيولا و"سائق التاكسي" لروبرت كافيرو و"غرباء" بطولة سيغورني ويفر. وفي الثمانيات قدمت. "أي تي" وهو سبب شهرة ستيفين سبيلبرغ و"صائد الاشباح" و"رجل المطر" الذي حاز على أربع جوائز اوسكار عام 1988. هذه الرحلة الطويلة التي قطعتها هوليود حتى سن الستين تبدو كأنها أرهقتها، ولأنه ليس مقام مقالنا تحليل الخطاب السينمائي الهوليودي في عقودها الفائتة، فإن ما يعنينا بالاساس هو تراجع النص وربما اختفاؤه على نحو واضح في هوليود التسعينات أوهوليود العقد السابع. إنه العقد نفسه الذي انهار فيه نظام عالمي كان قائماً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو العقد نفسه الذي شهد قدراً هائلاً من الازمات والفوضى وتقادم قواعد الضبط. لقد تبدت الاثار العامة للتسعينات في سينما هوليود على نحو بارز فلم تعد هناك رسالة عقلانية كما لم يعد هناك مضمون يثير جدلاً. ان ابرز افلام هذه الحقبة يدور حول "العظمة الاميركية" بأسلوب بالغ الاتقان، وبالغ السذاجة في الوقت نفسه، وتدور الافلام الاخرى في معظمها حول الجنس والموت، إن احد ابرز دلالات انعدام النص ذلك الاستثمار السطحي المبهر لقضايا العلم الحديث ومشكلات الكون المحتملة ولم يكن ممكناً لمجموعة افلام مخاطر الكون والارض ان تلقى نجاحاً لولا التقنيات الرفيعة والاستخدام الناجح لفنون الغرافيك، على نحو مثير وبراق وحل الغرافيك محل النص وتربع الكومبيوتر على مقعد والمؤلف وليس فيلما "حديقة الديناصورات" و"غودزيلا" الا نماذج لهذا الابهار، والأمر نفسه في فيلمي "يوم الاستقلال" و"أرمغدون". ناهيك عن افلام الرسوم المتحركة مثل "مولان" و"أمير مصر" و"نمل" الذي انتجته والت ديزني واستديو جيفري و"ديرم" و"وركس" على التوالي، وبدورها فإن افلام "غريزة اساسية" و"فورست غامب" و"وحدي في المنزل" لا تحمل رسالة مهمة ولا تحتوي على نصوص بيّنة إذ صاغت مزيجاً من الجنس والمغامرة والعبث. إن الامر لا يقف عند اندثار النص واحلال الغرافيك محله. بل يتجاوز ذلك الى مشكلة مهمة تتمثل في ابتذال القضية واجهاض الحلول. يناقش فيلما "حديقة الديناصوات" و"غودزيلا" مخاطر البحث العلمي وعبث الانسان بنظام الطبيعة، وما يخلق ذلك من متاعب لا قبل لنا بها، وفي حين ان القضية خطيرة إذ يمكن بالفعل أن تنشأ مخلوقات جديدة وخطيرة بفعل الفوضى الجينية التي يسببها العبث العلمي والخطر النووي في الارض والمحيطات على نحو ما ذهب اليه فيلم "غودزيلا"، الا ان هذه المشكلة التي قد تنشأ فعلاً وتربك نظام الحياة على وجه الارض تم ابتذالها، في "استهلاك" فكرتها، والاعتماد الكامل على إبهار المطاردات وإظهار القوة الاميركية والاخلاق الفرنسية، ثم تكون مشاهد محدودة في نهاية الفيلم لا تثير الانتباه كثيرا تؤكد على ان المشكلة لم تجد حلاً بعد. على رغم الفوضى في فيلمي "آرمغدون" و"يوم الاستقلال" فإن القول بوجود مخاطر على كوكب الارض من نيازك او شهب او مخلفات فضائية ليس جديداً ولا خيالياً، على ان ابتذال الخطر وانتهازه فرصة للمزيد من الإبهار وتنحية الحلول الممكنة لمصلحة حلول عبثية يقودها أميركي يهودي في يوم الاستقلال، ويتصدى لها "بروس ويليس" ومعه قنبلة نووية في "آرمغدون" امر بالغ الخطورة. وهكذا في غياب النص توارى الحل لمصلحة المؤلف الجديد، الغرافيك، وتوازى حلول الغرافيك محل النص مع ابتذال القضايا الحقيقية في المطاردات الصوتية وتوارى ميراث القيم الحداثية، من العقلانية والواقعية والاستنارة والمساواة لمصلحة قيم ما قبل حداثية عمادها العنصرية والعنف والاساطير. * أمير مصر .. السينما غير المقدسة استغرقت شركة "دريم ووركس" ثلاث سنوات في اعداد فيلم "THE PRINCE OF EGYPT" والشركة يملكها المخرج اليهودي الشهير ستيفين سبيلبرغ وجيفري كاتزنبيرغ، والفيلم مأخوذ من التوارة وهو اعادة لفيلم "الوصايا العشر"، واعتمد المخرج كانز نبيرغ على 146 ألف شخصية كارتونية قام بصنعها نحو 350 فنانا ورساما ومصمما، وشارك فيه من نجوم السينما العالمية، جيف جولد بلوم فرعون وفال كيلمر موسى وكلف الفيلم 70 مليون دولار، وتمت دبلجته الى 25 لغة. والفيلم واحد من منظومة سينمائية كاملة تسعى الى هدف واحد: تدمير صورة الشرق العربي وتعظيم صورة الشخصية اليهودية. وفي ذلك تدخل افلام TRUE LIES وEXECUTIVE وVOYAGE OF TERRORIST، و TERRORIST AN TRIB و"THE SIEGE، اضافة الى افلام "رائحة شندلر" و"يوم الاستقلال" و"الحياة الجميلة"، واخيرا كان فيلم الافتتاح في مهرجان برلين السينمائي "إيمي والفهد" الذي يحكي قصة يهودية استطاعت النجاح في الهروب من محارق النازيين والاضطهاد النازي لليهود. وفي حفلة رابطة الصحافة الاجنبية قال سبيلبرغ الذي فاز بجائزة احسن مخرج عن فيلمه "انقاذ العريف ريان": أشكر قدامى المحاربين في الجيش الاميركي لأنهم انقذوا العالم ووضعوا نهاية للهولكست". وفي كتابه "سينما اليهود .. ودموع وخناجر" 1997 يتحدث المؤلف رؤوف توفيق عن 29 فيلما تدور حول اضطهاد اليهود وضرورة تكفير العالم، وكذلك عن بطولاتهم وامجادهم، انتجت هذه الافلام 8 دول غير اسرائيل هي الولاياتالمتحدة وروسيا وانكلترا وفرنسا والمانيا وبولندا والمجر وبلجيكا، وشارك فيها مخرجون أمثال: بيتر ليلنثال وفولكر شولندروف ولوردان توفيلك واندريه ديلفو ومارتا ميساروش وكلود ليلوش وجورج غراسر وهيو هيدسون واندريه فايدا ومارتن ريت وبافيل لونجين وسيدني لوميت ودافيد ماميت وصمويل فوللر. وحسبنا في هذا المقام ان نقف قليلاً امام فيلم "أمير مصر" الذي وصل في استرجاع الاساطير الى ذرى غير مسبوقة، راح الفيلم يؤكد على أمرين أساسيين: الاول اضطهاد اليهود الابرياء على أيدي المصريين القدماء والمعاناة التي لاقوها. والثاني الارض الموعودة وحق اليهود في ارض فلسطين. نشأ موسى في بيت فرعون، وكان لمصر أثر كبير في علمه وفقهه، وجاء في الانجيل أعمال الرسل: "فتهذب موسى بكل حكمة المصريين، وكان مقتدراً في الاقوال والافعال"، وعندما خرج الاسرائيليون من مصر على اثر استياء مصري بالغ من تعاونهم مع الاحتلال الهكسوسي لمصر، لم يكد يمضي شهر ونصف الشهر على خروجهم حتى تذمروا وتذكروا خيرات مصر، وفي سفر الخروج: "ليتنا متنا في أرض مصر بجانب قدور اللحم نأكل طعاماً للشبع"، وفي سفر العدد: "فعاد بنو اسرائيل وبكوا أيضاً، وقالوا من يطعمنا لحما، قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجاناً والقثاء والبطيخ والآن قد يبست أنفسنا"، وفي سفر التثنية: "لا تكره مصرياً لأنك كنت نزيلاً في أرضه". ويذكر جمال حمدان في كتابه القيم "اليهود انثروبولوجيا" ان خروج اليهود من مصر هرباً من اضطهاد الفرعون رمسيس الثاني الذي استعبدهم كان يرجع الى تعاونهم في خيانة واضحة مع الهكسوس غزاة مصر. وعلى جانب آخر فإن ما فعله الاسرائيليون في كنعان كان فادحاً ومخالفاً لكل القيم. كانت الإبادة عادة شاملة، من الكبير الى الصغير والمرأة والرجل والماشية... وما يثيره الفيلم حول حق اليهود في فلسطين ليس إلا اسطورة اخرى لا تنهض على منطق، وفي رأي غارودي ان جميع شعوب الشرق الاوسط عرفت مثل تلك الوعود: الارض والذرية، فلماذا لا يستند السوريون الى الوعود التي اعطيت لأسلافهم الحيثيين ويعتبرونها حقاً تاريخياً، علماً ان امبراطورية الحيثيين استمرت ألف عام، من القرن الثامن عشر الى القرن الثامن قبل الميلاد، وذلك عكس مملكة داوود وسليمان التي لم تستمر إلا عشرات السنين. وفي رأي جمال حمدان لا معنى لأن يتحدث اليهود المعاصرون عن مثل هذا الحق الاسطوري، لأن هذه الاسطورة تخص يهود التوراة وهم غير اليهود المعاصرين الذي تغيروا وتبدلوا تماماً مع مئات السنين من التصفية والاختلاط البيولوجي في كل العالم. وهكذا غاب النص وغطت الاسطورة وبدا فيلم "أمير مصر" على وجه العموم نوعاً من السينما الميثولوجية.