أقام الجنرال ديجول احتفالاً خاصاً بعيد رأس السنة الجديدة 1999، دعا إليه زعماء أوروبا ومفكريها، وألقى فيهم خطاباً عاطفياً ملتهباً، معلناً أن أوروبا العظمى. قد خطت أولى خطواتها الثابتة - الراسخة - نحو الوحدة الكبرى، وأن أحلام الخمسينات، التي شكك فيها الكثيرون، قد أوشكت أن تتحقق، وأن أبناء أوروبا سيعيشون ويتبادلون السلع والخدمات والمزايا من دون حدود نقدية، أو جمركية، أو إجرائية ترفع تكاليف هذا التبادل، وتحول دون تحقيق أوروبا لإمكاناتها الاقتصادية، وتحد من قدرتها على منافسة الولاياتالمتحدة الأميركية ككتلة واحدة. وبالطبع، كان هذا ممكناً لو أن الجنرال كان حياً. ومع ذلك فإن العملة الأوروبية الموحدة، التي بدأت فعالياتها السوقية، يوم أمس الاثنين، تكاد تعيد ديجول إلى الحياة وتحضر معه آراءه القديمة - الجديدة، في النظام النقدي العالمي وفي الموقع المتميز للولايات المتحدة الأميركية، ودولارها، في هذا النظام، وضرورة تحرير هذا النظام أو إدخال نوع من التوازن عليه. وهذا التوازن، في نظر ديجول، كان لا بد أن يكون بإعطاء دور أكبر ل أوروبا فيه، أو على أية حال دور أقل للولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وهي الإبنة الأميركية، بالتبني، في نظر ديجول... ومن هنا كان استعماله حق النقض الفرنسي ضد دخول بريطانيا الى السوق الأوروبية المشتركة، في منتصف الستينات. حاول ديجول جاهداً وبالخصوص خلال الأزمات النقدية الكبرى، أن يعيد تأسيس نظام نقدي دولي قائم على قاعدة الذهب، بدلاً من الدولار - المرتبط بالذهب - وفقاً لمعيار ثابت للتداول بينهما. وفشل ديجول في ذلك، لأن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية كان نظاماً أميركياً - دولارياً - في المقام الأول، يحتل معيار الذهب فيه، مركزاً رمزياً فحسب، أما الحاكم الفعلي فكان الدولار الأخضر الجبار، يسنده اقتصاد ضخم فعال، وقوة عسكرية وسياسية هائلة، وعالم خالٍ من البدائل الأخرى الفعّالة اقتصادياً، أو سياسياً، أو عسكرياً. كان الجنرال يقول إن مكانة الدولار في النظام النقدي تعطي للولايات المتحدة الأميركية، امتيازاً ضخماً وثميناً للغاية، وكان يشير بالطبع إلى قدرة الولاياتالمتحدة على تمويل عجزها الخارجي، وانفاقها الدولي، إلى ما لا نهاية تقريباً، بسبب المكانة المركزية للدولار في النظام النقدي العالمي وفي نظام المدفوعات الدولية. إن أية دولة أخرى لن تستطيع أن تواجه عجزاً خارجياً مستمراً دون أن تلجأ إلى السحب من احتياطاتها النقدية، أو الاقتراض ب "العملة الصعبة" لأن عملتها الوطنية غير مقبولة لتسوية التزاماتها الخارجية. واستعداد الآخرين لقبول هذه العملة محدود، أو غير موجود أصلاً. أما الولاياتالمتحدة الأميركية فهي تستطيع أن تقابل تلك الالتزامات بعملتها المحلية، الدولار، وهي أيضاً، العملة العالمية المسيطرة والمقبولة، والتي كان يبدو، ولا يزال، أن "شهية" العالم الآخر مفتوحة بلا حدود لاستقباله ومضغه وهضمه، والاستفادة من "فيتاميناته" و "معادنه" وطعمه اللذيذ. فقد تمكنت الولاياتالمتحدة الأميركية، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، من تمويل حرب فييتنام، ومجهوداتها العسكرية الأخرى، ومساعداتها الخارجية، ومجهودات الإعمار الأوروبي، والعجز المتنامي في ميزانها التجاري، وكان الوضع الدولي المتميز ل الدولار هو عمادُها ووسيلتها في ذلك. والآن، وبعد، أربعين عاماً من المجهودات الأوروبية، يواجه الدولار أول تحدٍ حقيقي أمام ال يورو، العملة الأوروبية الموحدة، التي تمثل منطقة اقتصادية قوية طبقاً للمعايير الاقتصادية المعتمدة. فالدخل القومي الإجمالي للمنطقة يقارب السبعة ترليون دولار سبعة آلاف ألف ألف دولار، وهو مماثل للدخل الإجمالي القومي للولايات المتحدة الأميركية. والقوة الشرائية لهذه الكتلة الأوروبية، ممثلة في عدد السكان، تزيد عن الولاياتالمتحدة. والعجز التجاري لهذه المنطقة أقل بكثير من عجز الولاياتالمتحدة الأميركية، ونسبة الدين العام إلى الناتج القومي الإجمالي أقل. ومع ذلك فإن احتفال الجنرال ديجول بهذه المناسبة الأوروبية لا يعني أن الدولار خصم سهل المنال. فلا تزال ثُلثا الاحتياطات النقدية الرسمية مودعة بالدولار، ولا يزال أكثر من نصف حجم التجارة الدولية يتم بالدولار. ولا يزال وول ستريت يعادل حجم أسواق الأسهم والسندات الأوروبية مجتمعة. وإذا كان الجنرال سعيداً بعدم انضمام بريطانيا، التي كان يعتبرها حصان طروادة الأميركي إلى اليورو، فإن هذه العملة الجديدة ستواجه بدايات صعبة ناتجة عن وجود دول أوروبية ذات سيادة تختلف ظروفها المحلية، سياسياً، واقتصادياً، وتواجه نسبة بطالة عالية، وبرامج رخاء اجتماعي مكلفة ونقابات عمال قوية ومهيمنة. إن اليورو يمثل نجاحاً كبيراً للمصالح على التاريخ، ولحلاوة التوقعات على مرارة الماضي الأوروبي الدموي. إن القارة التي أهدت إلى العالم حربين عالميتين دمويتين، وعدداً كبيراً من النزاعات العسكرية والسياسية تعطي العالم وشعوبه الناظرة إليها تجربة جديدة، في قدرة العقول المستنيرة، الهادئة، على صنع مبادرات جادة، تسهم في رخاء الشعوب، ورفاهيتها، وتأمين مستقبل زاهر لأبنائها. إننا ننظر إلى أوروبا بغبطة تقترب من الحسد، وننظر إلى واقعنا العربي، بإمكاناته الهائلة، وفرصه المهدرة، بكل الحزن والأسى. هذا المثل الأوروبي يمثل القُدوة التي لا خلاف عليها. فتهانينا إلى الجنرال ديغول، وليعزف الأوروبيون الجُدُدْ المارسيليز - أو هُوَ المارسييز - على قبره.