في آخر نشرات التعريب الصادرة عن "المعهد الغربي للدراسات والأبحاث في التعريب" الذي يرأسه الدكتور "عبدالقادر الفاسي الفهري"، تحليل لوضع اللغة العربية وتطورها عبر الأزمنة وسبل تعايشها مع اللغات الحية الأخرى. يبدأ المؤلف من بديهية أن اللغة لا تختلف عن الكائنات الحية الأخرى، وانها تتأرجح بدورها بين الحياة والموت وتخوض صراعاً يومياً من أجل البقاء، وتعيش مختلف الحالات التي يعيشها أي كائن حي من قوة وضعف وتهديد. ويشير الكتاب أن أكثر النماذج انتشاراً لموت اللغات هو نموذج الموت التدريجي البطيء الذي يتسبب في تدهور وضع اللغة وانطفائها، وينتج عن عوامل خارجة عن المجال اللغوي منها ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي واثني، ومنها ما هو مرتبط بالسلوك اللغوي، والسوسيولساني. ويحاول الكاتب تحليل طبيعة انهيار اللغات من منظور ان اللغة لا تنهار بفعل فقرها أو ضعفها الداخلي "لأن الفقر غالباً ما يكون نتيجة لتغير في مواقف متحدثيها يؤول بها أولاً الى أن تصبح لغة "ثانية" بعد أن تكون أولى". ويبدو سبب هذا الانهيار كامناً في الصراع المستمر بين اللغات من أجل الوصول الى الهيمنة. وفي محاولة لملامسة طبيعة هذا الانهيار، يلجأ الكاتب الى الربط بين تدهور اللغة وتدهور البيئة المحيطة بها، وهو ما يطلق عليه أكولوجيا اللغات التي "أصبحت تتبوأ شرعية ضمن الأكولوجيا العامة للكائنات النباتية والحيوانية والبشرية التي تهدف الى المحافظة على الثروة الحيوانية والنباتية على الخصوص". ويشير الكاتب ان البيئة الملائمة للتدهور "بيئة متعددة اللغات multilingual تصبح ملوثة حين تطغى عليها لغة أجنبية دخيلة على اللغة المحلية"، في حين أن بيئة الأزواج diglossia أو بيئة التعدد اللسني multiglossia تتأرجح بين لغة معيار رسمية ولهجات من نفس النسق اللغوي العام أو من نفس المنظومة الثقافية، و"هي عادة ما تكون أقل خطراً على الألسن المتعايشة"، ويمثل الكتاب هذا التنوع اللغوي في الازدواج القائم بين اللغة العربية الفصيحة واللهجات العربية العامية التي تمثل مداً لها في الأدوار والرصيد المفرداتي والآليات الصرفية والنحوية والدلالية. ويركز الكتاب على الأمازيغية بالنظر الى أنها تعتبر أخت العربية وتنتسب الى نفس الأسرة اللغوية الحامية/السامية، وتمثل الى جانب العربية "أحد الألسن القليلة التي احتفظت بسمات النظام السامي/الحامي، وصمدت أمام التغلغل الأجنبي ومحاولات التهجين أو القضاء عليها". ويؤكد الكاتب أن "في الإزدواجية اللسنية العربية/العربية أو التعددية اللسنية العربية/البربرية نتاج تاريخ وحاضر غير مسبقين للتناغم والانسجام والاستقرار اللغوي". ويعود الكتاب عقوداً الى عهد قريش في محاولة لتحليل تطور اللغة العربية، "فاللغة العربية الفصيحة منذ أن ارتقت من وضعها كلهجة ل"نجد" أو "قريش" أو في مشوارها للوفيق بين اللهجات المحلية في البلاد العربية أثبتت دورها الفاعل كلغة معيار موحدة، أدبية وإدارية وعلمية في حين ظلت اللغات/اللهجات الأخرى داعمة ومغذية لها عبر الأدوار الحياتية اليومية والوجدانية والتنوعات الأثنية أو المجتمعية القبلية، من دون أن تختل العلاقة، أو يتحول الاختلاف الجزئي الى صراع حياة أو موت، على غرار ما حدث في المنطقة الاتينية، التي قامت فيها اللهجات الرومانية لتحتل تدريجياً أدوار اللغة اللاتينية الأم، ولتنفصل عنها وتقر موتها التدريجي. ويعتبر الكتاب أن محاولات متعددة تعمدت المس بدور اللغة العربية ومحاولة التنقيص منها "بين لاجىء الى تبرير ثورة المعلومات التي تحرم على اللغة العربية أن تكون أداة الإيصال والاتصال ولو دعمت بلغات أجنبية، وبين مشكك في قدرتها الدخلية على المواكبة بدعوى النقص في مفردتها أو مراجعها التقنية، وبين مشكك في قدرتها على أن تكون لغة التعليم، نظراً لتعقد نظامها الداخلي وخطها، وغياب الكل فيها، وبين لاجىء الى اذكاء صراع الإزدواجية للفائدة العامة". وهو وضع يذكر الكاتب بخطاب العشرينات والثلاثينات في لبنان أو مصر وغيرهما من البلاد العربية، "حين قامت دعوات لتغيير "الخط العربي شكلاً أو بناء، وقامت دعوات الى التلهيج لكنها باءت كلها بالفشل الذريع"، ويقول الكاتب ان "الصعوبات" أو الاكراهات التي "تعاني" منها العربية هي عينها التي تعاني منها الفرنسية أو العبرية أو الصينية أو الهندية، أو غيرها من اللغات الحية.