فييرا: "السعودية مركز عالمي للرياضات القتالية"    الأهلي يبتعد عن الأحمد    دراسة متخصصة: ثقة الجمهور بالإعلام الرقمي "متوسطة" وتطوير مهارات الصحافيين مطلب    المرور : كن يقظًا أثناء القيادة    وزارة الصناعة والثروة المعدنية و ( ندلب) تطلقان المنافسة العالمية للابتكار في المعادن    السفير المناور يقدم أوراق اعتماده سفيرًا للمملكة لدى المكسيك    الذهب يرتفع إلى 3651.38 دولار للأوقية    رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه يحضر أول مواجهة"Face Off" بين كانيلو وكروفورد    إثيوبيا تدشن اليوم سدا ضخما لتوليد الطاقة الكهرومائية    "لا أساس من الصحة" لإعلان أسطول مساعدات تعرّض أحد قواربه لضربة من مسيّرة    نيبال تتراجع عن حجب مواقع التواصل الاجتماعي    أمير منطقة المدينة المنورة يرعى حفل افتتاح ملتقى "جسور التواصل"    الجيش اللبناني ينتشر في الجنوب لضبط الأمن    الإطاحة بملوثي البيئة «بمواد خرسانية»    نائب أمير تبوك يثمن جهود البريد السعودي بالمنطقة    نائب أمير المنطقة الشرقية يعزي أسرة الزامل    أطلقها وزير الموارد البشرية لتعزيز صحة العاملين.. لائحة لخفض معدل الأمراض والإصابات المهنية    الفرنسي «ماتيو باتويلت» يحمي عرين الهلال حتى 2027    في ختام معسكره الإعدادي.. الأخضر يرفض الخسارة أمام التشيك    تجاوزو فان بيرسي.. ديباي هدافاً ل «الطواحين»    القيادة الكويتية تستقبل تركي بن محمد    بدء استقبال طلبات تراخيص«الحراسة الأمنية»    «السفارة بجورجيا» تدعو المواطنين لتحديث جوازاتهم    9 إجراءات إسبانية ضد إسرائيل لوقف الإبادة الجماعية    قاتل المبتعث «القاسم» يدعي «الدفاع عن النفس»    محامي الفنانة حياة الفهد ينفي دخولها في غيبوبة    أنغام تشدو من جديد في لندن ودبي    تفاهم بين «آسان» و«الدارة» لصون التراث السعودي    دواء جديد يعيد الأمل لمرضى سرطان الرئة    140 ألف دولار مكافأة «للموظفين الرشيقين»    "الصحة" تستكمل التحقق من فحوص اللياقة والتطعيمات للطلبة المستجدين    50.2 مليون بطاقة صراف آلي تصدرها البنوك    إصبع القمر.. وضياع البصر في حضرة العدم    عندما يكون الاعتدال تهمة    33.8% زيادة عالمية بأسعار القهوة    يوم الوطن للمواطن والمقيم    حين يحترق المعلم يذبل المستقبل    مرصد سدير يوثق مراحل الخسوف ويقيم محاضرات وندوات    جامعة حائل تحقق إنجازًا علميًا جديدًا في «Nature Index 2025»    علاج جديد لارتفاع ضغط الدم بمؤتمر طبي بالخبر    إسرائيل تواصل تدمير غزة وتقبل اقتراح ترمب    إحباط تهريب (65,650) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي بمنطقة جازان    انطلاق أولى ورش عمل مبادرة "سيف" بمشاركة أكثر من 40 جمعية من مختلف مناطق المملكة    منسوبو أسمنت الجنوبية يتفاعلون مع حملة ولي العهد للتبرع بالدم    فضيلة المستشار الشرعي بجازان: "التماسك بين الشعب والقيادة يثمر في استقرار وطن آمن"    مجلس إدارة جمعية «كبدك» يعقد اجتماعه ال27    وزراء خارجية اللجنة العربية الإسلامية بشأن غزة يعربون عن رفضهم لتصريحات إسرائيل بشأن تهجير الشعب الفلسطيني    أبرز التوقعات المناخية على السعودية خلال خريف 2025    إطلاق المرحلة الثالثة من مشروع "مجتمع الذوق" بالخبر    الأميرة أضواء بنت فهد تتسلم جائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز «امتنان» للعمل الاجتماعي    السعودية تحمي النسور ب«عزل خطوط الكهرباء»    صحن الطواف والهندسة الذكية    كيف تميز بين النصيحة المنقذة والمدمرة؟    وزير الحرس الوطني يناقش مستجدات توطين الصناعات العسكرية    تحت رعاية وزير الداخلية.. تخريج الدورة التأهيلية لأعمال قطاع الأمن العام    النسور.. حماة البيئة    الجوازات تواصل استقبال ضيوف الرحمن    رقائق البطاطس تنقذ امرأة من السرطان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسجد أحمد بن طولون في القاهرة حضارات كثيرة أدخلت عليه إضافات وألغازاً
نشر في الحياة يوم 07 - 09 - 1998

من الملاحظ أن بعض حقائق مسجد أحمد بن طولون في القاهرة، وأعني بالحقائق تلك التكوينات المعمارية والعناصر الفنية المحيط بها كثير من الالغاز التي ولج العقل في العصور الوسطى عالم الاسطورة ليجد لها حلولا تناسبه، بينما ظلت حقائق اخرى لا تثير عقل العصور الوسطى وقفزت اليوم لتمثل لنا ألغازا تبحث عن حل. ولنبدأ بالالغاز التي اجابت عنها الاساطير: واولها المهندس الذي قام بالبناء، ثم مواد البناء واستخدام الدعامات المبنية بالآجر، بدلا من الأعمدة لحمل العقود. ونلاحظ هنا أن احدى هذه الاساطير ربطت بين استخدام الدعامات بدلا من الاعمدة وبين شخصية المهندس برباط سببي، حيث ان ابن طولون تورّع عن استعمال اعمدة منزوعة من الكنائس او المساجد واستطاع مهندس "نصراني"- والتعبير للمقريزي- كان ابن طولون غضب عليه واودعه السجن، ان يلبي رغبة هذا الحاكم، واقترح استخدام الدعامات بدلا من الاعمدة مع استثناء عمودَيْ القبلة فوافق ابن طولون.
والواقع ان معرفة اسماء المهندسين الذين قاموا بتصميم او تنفيذ العمائر الاسلامية، من الامور الصعبة، وبالتالي فإن اي رأي يتم الادلاء به حول شخصية هؤلاء المهندسين سيكون مجرد اجتهاد يتم الوصول اليه بعمل دراسات مقارنة وتحليلية للتصميم المعماري للمبنى وكذلك الوحدات الزخرفية والكتابية، وهو الامر الذي يمكن تطبيقه مع المسجد الطولوني. وقد رجح المرحوم حسن عبدالوهاب ان يكون مهندس المسجد هو ابن الحاسب، مهندس مقياس النيل اعتمادا على اسلوب الكتابة نفسه المنفذ في المبنيين.
ونود ان نشير الى ان رفض رواية المقريزي لم يأت بسبب تعصب ديني على الاطلاق، فالمسيحيون في العصور الوسطى كان لهم دورهم الملموس في إثراء الحضارة الاسلامية والمشاركة في رفع صرحها. وقد شارك كثير منهم في مجال العمارة الاسلامية بأشخاصهم، وتأثرت العمارة الاسلامية بالكثير من عناصر العمارة والفنون في الحضارات المسيحية وغيرها خصوصا في عصور التكوين الاولى. ومن هنا فإننا لم ندخل رواية المقريزي في عداد الاساطير لمجرد انه ذكر ان مهندس المسجد "نصراني"، وإنما لأسباب اخرى منها:
1 - ناهيك عن الاطار الدرامي الذي يغلف الرواية، فإن المقريزي - وليس هذا اتهاماً له - هو كغيره من المؤرخين الذين كثرت في كتاباتهم امثلة كثيرة تدل على انتشار الاساطير فيها، وبالتالي فإن مجرد ذكر المقريزي او غيره من المؤرخين لهذه الرواية لا ينهض حجة على صحتها.
2 - ان العناصر المعمارية والزخرفية في المسجد تثبت عكس ما اورده المقريزي، اذ ان المسجد يعد متطابقاً- الى حد ما- مع المساجد التي كان يألفها ابن طولون في سامرا في العراق موطن ابن طولون الاصلي وأعني بذلك مسجدي ابي دلف، وجامع سامرا الكبير.
وكان المنطقي، تبعا لرواية المقريزي، ان يحتوي المسجد على عناصر إنشائية او زخرفية تدلل ولو بنسبة صغيرة- على ان مهندسها "نصراني" وعلى انه قدم ابتكاراً من اي نوع لم يكن معروفا من قلب، الشيء الذي يضطر ابن طولون الى العفو عنه واخراجه من سجنه واطلاق يده في التفقه. اما ان تكون عناصر المسجد المعمارية والزخرفية ذات طابع عراقي، فهذا شيء "يناقض رواية المقريزي الدرامية عن المهندس "النصراني".
3 - اعتماد المقريزي على استخدام الدعامات في المسجد بدلا من الأعمدة للبرهنة على أن مهندس المسجد "نصراني" ليس مقنعا، فكما قلنا فإن مسجدي ابي دلف وسامرا الكبير، استخدمت فيهما الدعامات بدلا من الاعمدة.
وابن طولون، كما اسلفنا، قدم الى مصر من سامرا، وكان منطقيا ان تأتي في ركابه التأثيرات العراقية على العمارة المصرية في ذلك الوقت.
والحاكم في تلك العصور لم يكن ينتقل بمفرده من عاصمة الخلافة الى الولايات، وانما كان يتبعه الكثير من الشعراء والفنانين والحرفيين الطامعين في الرزق في عواصم الولايات، خصوصا في قطائع ابن طولون التي كانت في حاجة الى هؤلاء الفنانين والحرفيين لإعمارها.
وطبقا للدكتور احمد فكري، فإن الدعامات لم تكن معروفة في سامرا وحسب، وإنما استعملت في العمارة الاسلامية في وقت مبكر: في قبة الصخرة 72 ه وفي الاخيضر 161 ه وفي خزانات المياه في الرملة في فلسطين 172 ه وفي رباط سوسة 206 ه وفي مسجد سوسة الجامع 236 ه.
4 - روى المقريزي اسطورة اخرى ناقض بها اسطورته عن المهندس "النصراني"، حيث ذيلها بتلك العبارة "... وبناه على بناء جامع سامرا وكذلك المنارة".
وتناولت اسطورة اخرى لغزا يتعلق بالمحراب. ومحراب ابن طولون لا يتناسب اطلاقاً - في حجمه - مع ضخامة عناصر المسجد المعمارية. وعلى رغم قيام السلطان لاجين بترميمه، الا انه لم يحاول تعديله، فهل كان لأسطورة النمل يعرف المحراب الطولوني باسم محراب النمل اسقاطا على الاسطورة تأثير على أعمال السلطان لاجين في المحراب، كما كان لأسطورة محراب مسجد عقبة بن نافع في القيروان تأثير كبير على كل أعمال التوسعة التي تمت في عصور لاحقة، ذلك التأثير الذي اضطر الاغالبة أثناء أعمال التوسعة والاضافات الكبيرة التي قاموا بها الى وضع المحراب القديم بين حائطي القبلة كما رجح بعض الاثريين حفاظاً على قيمته الروحية لدى الناس؟.
واستطيع ان اقول هنا ان اسطورة المحراب الطولوني لم يكن لها التأثير نفسه على أعمال السلطان لاجين، وحتى ان افترضنا انه كان للاسطورة بعض التأثير، فهو تأثير لا يقارن على الاطلاق بتأثير أسطورة محراب عقبة على اعمال الترميم اللاحقة لعصر البناء الاول وذلك لسببين: الاول: انه على رغم تشابه الاسطورتين فإن اسطورة محراب عقبة استمدت قوة تأثيرها من شخصية عقبة بن نافع نفسه، الامر الذي لم يتوفر لأسطورة المحراب الطولوني. ولا مجال للمقارنة بين عقبة كشخصية لها سلطتها الزمنية وقداستها الدينية وبين احمد بن طولون كشخصية زمنية فقط.
السبب الثاني: اسلوب السلطان لاجين في ترميم اجزاء المسجد: فالمحراب ليس العنصر الوحيد الذي قام لاجين بترميمه تمت أعمال السلطان لاجين في المسجد الطولوني العام 696 ه/ 1296 م، وانما هناك اجزاء كثيرة قام لاجين بعملها في المسجد بأسلوب يقارب اسلوب عصرنا الحديث في الترميم.
ذلك انه قام باتباع النظم الطولونية، او التي سبقته في العصر الفاطمي، اثناء اعماله مستبعدا النظم السائدة في العصر المملوكي، اما ما عدا الاجزاء التي لم يقف مهندسوه على اصلها، فاضطروا الى تنفيذها طبقا للنظم المملوكية.
وعلى سبيل المثال فإن المحراب الجعبي المسطح الموجود على احدى دعامات البائكة الثانية مما يلي الصحن والمنتسب الى السلطان لاجين، يعتبر تقليدا للمحراب المجاور له في البائكة نفسها المنتسب الى الخليفة المستنصر بالله الفاطمي واستخدم لاجين اسلوب الكتابة الكوفية المورقة نفسه المنفذ على المحراب الفاطمي، على خلاف ما كان سائدا في العصر المملوكي، وكذلك الحال بالنسبة الى مئذنة المسجد، اذ حاول لاجين قدر الاستطاعة اعادة بنائها كما كانت، بيد ان قمتها كانت مفقودة ولم يستطع هي اعادتها الى أصلها، فشيدها على طراز قمم مآذن عصره المنجرة. ومن ثم فإنني ارجع احتفاظ لاجين بهيئة المحراب الطولوني الاصلية الى اسلوب عمل مهندسيه في المسجد، وليس الى تأثير اسطورة النمل. ويبقى السوال قائما حول صغر حجم المحراب الطولوني، وأعتقد أن التوصل الى اجابة مرضية يتطلب دراسة متعمقة لهيئة المحاريب المبكرة في العمارة الاسلامية،! اذ يعتبر المحراب الطولوني أقدم محراب مجوف باقٍ في مصر، وهو أمر لم يتيسر لي حتى الآن.
تتحدث اسطورة اخرى عن منارة المسجد ذات الشكل غير المألوف للمصريين، ذلك الشكل الذي لم يحاول المهندسون المصريون تكراره في مساجد اخرى وهو امر يدعو الى التساؤل، وترجع الاسطورة سر هذا الشكل الى ان احمد بن طولون عبث بقطعة من الكاغد، وامر المهندسين ان يصنعوا المنارة على الشكل نفسه الذي تشكل به درج الكاغد في يد ابن طولون؟ وهو امر لا يعقل لاستحالة تشكل قطعة من الكاغد على شكل مئذنة المسجد الحالية، وبافتراض ان مئذنة ابن طولون الاصلية كانت حلزونية الشكل من قاعدتها الى قمتها، الامر الذي ييسر تمثيلها بقطعة الكاغد، فإن ابن طولون لم يكن مبتكرا لهذا النوع من المآذن، اذ انها كانت معروفة من قبل في مساجد سامراء.
ومن ثم فإنه يمكننا التسليم بصحة الرواية واخراجها من عداد الاساطير شريطة ان نفهمها بطريقة مختلفة: اذ من المحتمل ان ابن طولون اراد ان يرشح لمهندسيه شكل المئذنة الملوية التي الفها في سامرا فلم يستوعبوا ما شرحه لهم، فاضطر الى الاستعانة بدرج الكاغد لشرح فكرته عن مآذن سامرا. ولم يكن الأمر على الاطلاق ناتجا من نواتج عبث ابن طولون بدرج الكاغد، مع ملاحظة ما تضمنته الاسطورة التي تشير بوضوح الى تقارب مواصفات المسجد وكذلك المئذنة مع مواصفات جامع سامرا ومئذنته، اذ جاء في ذيلها: "وبناه على بناء جامع سامرا، وكذلك المنارة".
وباستبعاد لغز الاسطورة السابق، تثير المئذنة تساؤلين اولهما الى اي العصور تنتمي المئذنة الحالية للمسجد؟ وثانيهما لماذا لم يتكرر هذا النوع من المآذن في مساجد مصر؟.
وقد اختلف الاثريون الذين درسوا المسجد حول العصر الذي تنتمي اليه مئذنة المسجد الحالية، فيرى البعض انها لابن طولون فيما عدا قمتها فتنتمي الى السلطان لاجين 696 ه، ويرى آخرون ان المئذنة من القاعدة وحتى القمة هي من عمل السلطان لاجين، ويري فريق ثالث ان السلطان لاجين غلف المئذنة القديمة بالحجارة، واضاف اليها قمة مثمّنة على شكل قمم المآذن في عصره. ومن جانبي اؤيد الفريق الذي يرى ان المئذنة كاملة هي من اعمال السلطان لاجين وذلك اعتمادا على عدد من الاسباب منها:
1 - اختلاف طراز العقود الموجود في المئذنة خصوصا في الجزء الاسفل منها، عن طراز عقود المسجد. فعقود بائكات المسجد ،وكذلك عقود النوافذ، وايضا عقود الطاقات الموجودة في اكتاف عقود البائكات، جميعها من النوع المعروف ب"العقود المدببة" بينما عقود مدخل المئذنة هي من النوع المعروف باسم "حدوة الفرس" وكذلك العقدان الخاملان للقنطرة الواصلة بين المئذنة وسطح المسجد. كما توجد اربعة ازواج من العقود المسدودة بالوجوه الاربعة من المربع الاسفل للمئذنة من نوع "حدوة الفرس" ايضاً. وهذا النوع من العقود، فضلا عن مخالفته لعقود المسجد المدببة، فإنه لم يكن معروفاً زمن ابن طولون، بل ظهر للمرة الاولى في مصر في مدرسة وتربة قلاوون عصر مملوكي كما يرى البروفيسور كريزويل.
2 - يلاحظ على القنطرة الواصلة بين الطابق الأول من المئذنة وبين سطح المسجد أنها تقطع نافذتين من النوافذ الجصية للظلة الشمالية الغربية من المسجد، مما يحمل على الاعتقاد بأنها بنيت في عصر لاحق للعصر الطولوني، اذ لو كانت مبنية في تاريخ بناء المسجد نفسه لتجنب المهندس ذلك القطع.
3 - تنفي نتائج أعمال الجسَّات التي قام بها المهندس الفرنسي باتروكولو في الجزء الأسفل من المئذنة، الفكرة القائلة بأن لاجين غلف المئذنة الطولونية بالحجارة، اذ انها اثبتت ان اللحامات وكذلك مواد البناء تنتمي الى عصر واحد وليس الى عصور مختلفة.
4 - كون شكل وطراز المئذنة الحالي لا ينتمي الى العصر المملوكي باستثناء قمتها لا ينهض دليلا كافياً وقاطعاً على نسبة المئذنة الى ابن طولون، اذ ان اسلوب السلطان لاجين في ترميم المسجد اعتمد على إعادة المسجد كما كان في العصور السابقة باستثناء الاجزاء التي لم يقف على اصلها. ولعل في قصة اختفاء لاجين بالمئذنة وهي "متخربة" دليلاً على أنه ادرك بقايا المئذنة القديمة، ولعل قمتها كانت ايضا مفقودة ما دفعه الى انشاء قمة معروفة في عصره مع الحفاظ على الشكل القديم للمئذنة. ويرى الدكتور فريد شافعي ان هذه المئذنة شيدت ثلاث مرات اولها ايام ابن طولون وكانت مشيدة بالآجر ولم تعمر طويلا، فأعيد بناؤها في العصر الفاطمي بالحجارة، وظلت متكاملة الى عصر الكامل الايوبي ثم تطرق الضعف اليها فأعيد بناؤها زمن السلطان لاجين.
التساؤل الثاني خاص بعدم تكرار نظام الملوية ذات السلالم الخارجية في المآذن المصرية على رغم كونها من أقدم النظم التي تشكلت بها مآذن مصر. من الراجح أن ذلك راجع الى ما يعرف في الفقه المعماري ب"ضرر الكشف"، اذ ان سلمها الخارجي يسمح للمؤذن ان يتطلع بسهولة الى نوافذ المنازل وغرفها المجاورة، ما سيؤدي الى اطلاعه على عورات الناس، وهو ما حرص المعماريون على تلافيه بجعل سلالم المآذن داخلية، ولم يجعلوا للمآذن شبابيك على هذه السلالم واكتفوا بفتحات طولية ضيقة من النوع المعروف بالمزاغل تؤدي اغراض التهوية والاضاءة اليسيرة بينما لا يستطيع من في "داخل المئذنة النظر من خلالها الى المنازل المجاورة.
تمثل الزيادات لغزاً آخر حاول الاثريون ايجاد حلول منطقية له، فقال البعض ان الغرض منها حجب الضوضاء عن المسجد لتوفير جو خاشع للمصلين، اذ من المعروف أن سوقاً مزدهراً كان يحيط بالمسجد. ويقول آخرون ان هذه الزيادات استخدمت للصلاة كورقة اضافية بعد ان ضاق المسجد بالمصلين. فريق ثالث يرى أن المقصود منها الوصول الى مستوى مسطح واحد يقام عليه المسجد بصحنه وظلاته، فالمنطقة التي اختارها ابن طولون لاقامة المسجد منطقة صخرية متدرجة المنسوب ما استلزم تدرجاً في بناء المسجد، فكانت الاسوار بأبوابها ثم الزيادات التي ترتفع قليلا عن منسوب قاعدة الأسوار، ثم المسجد بعد ذلك يرتفع بدوره عن منسوب ارضية الزيادات. والآراء السابقة - وان كان بعضها يبدو منطقياً ومقنعاً الى حد ما - تشوبها نقاط ضعف كثيرة ويمكن تفنيدها جميعاً. وفي اعتقادي ان هذه الزيادات نقل ابن طولون فكرتها الى مصر متأثرا بجامع سامرا، وهي لم توجد فقط في جامع سامرا وجامع ابن طولون وانما لها مثال ثالث في جامع سوسة 236 ه والاولى البحث عن الدافع لبنائها في كل من جامع سامرا وجامع سوسة لتكتمل لنا الصورة حول الهدف الرئيسي لانشاء مثل هذه الزيادات التي اعرض عنها المصريون ولم يكرروها في اي من مساجدهم.
اختلف الاثريون ايضاً حول المحاريب الجصية المسطحة الخمسة والكائنة في ظلة القبلة. الاختلاف ليس قائماً فقط حول تعليل ظاهرة تعدد المحاريب المسطحة في المسجد وانما ايضاً حول تواريخ انشاء هذه المحاريب، خصوصاً المحرابين المجاورين لدكة المبلغ، اذ يرى البعض انهما فاطميان، ويرى اخرون ان احدهما فاطمي وهو الواقع الى اليسار من دكة المبلغ، والثاني طولوني وهو الواقع الى اليمين من دكة المبلغ، والخلاف ناتج عن عدم وجود نصوص تسجيلية على هذين المحرابين بخلاف محراب المستنصر بالله ومحراب لاجين المجاور له".
ومن هنا فإن نسبة هذين المحرابين الى الفاطميين او استثناء احدهما ونسبته الى العصر الطولوني، تعتمد على تحليل زخارفهما واسلوب الكتابة الذي نفذت به عبارة "لا اله الا الله محمد رسول الله" على كل منهما. اما لماذا تعددت المحاريب بظلة قبلة المسجد الطولوني؟ فقد اجاب البعض على ذلك بأن الدافع لها هو تعدد المذاهب، اخرون يعتقدون ان هذه المحاريب كانت بديلاً عن النصوص التسجيلية الى المسجد لاثبات أعمال توسعة أو ترميم يقوم بها السلاطين والخلفاء في العصور المتعاقبة. ومن جانبي لا أستطيع أن أقدم تفسيرا مقنعاً لظاهرة المحاريب المسطحة، كما لا أستطيع تأييد أحد الرأيين السابقين لضعف حجتهما. فالرأي الاول الذي ارجع تعدد المحاريب الى تعدد المذاهب، لم يدخل في حساباته انها لا ترجع الى عصر واحد وانما الى عصور متعددة بدءا من الطولوني وحتى المملوكي فضلا عن ان كلمة "تعدد المذاهب" غير واضحة المعنى، فهل المقصود منها ان هذه المحاريب استخدمت ليجلس اليها شيوخ المذاهب للتدريس؟ ام استخدمت ليصلي اليها اصحاب كل مذهب؟ وسواء استخدمت للصلاة او للتدريس، فإن موقع هذه المحاريب بالنسبة لبعضها البعض وبالنسبة للمسجد عموماً ينفي امكان استخدامها للغرضين السابقين، اذ لا يبتعد احدهما عن الآخر اكثر من خمسة امتار. كما انها جميعاً - باستثناء محراب السيدة نفيسه - تقع في مساحة مستطيلة لا يزيد طول ضلعها على عشرين مترا قارن بين هذه المساحة وبين مساحة المسجد- ستة افدنة ونصف الفدان. اما الرأي الثاني الذي يعتقد ان المحاريب المسطحة كانت بديلا عن النصوص التسجيلية فيمكن قبوله لولا أن الذين نسبت اليهم بعض هذه المحاريب، قاموا بحمل نصوص تسجيلية، فالفاطميون لهم نص تأسيسي يعلو مدخل المسجد المستخدم الآن، وكذلك السلطان لاجين له نص تأسيسي في قبة فوارة الصحن.
* باحث في معهد البحوث والدراسات الافريقية - جامعة القاهرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.