انطلاق النسخة ال9 من مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار غدا    الفتح يجري تدريبات استرجاعية ويبدأ التحضير لمواجهة الرياض في كأس الملك    العروبة والدرعية في أبرز مواجهات سادس جولات دوري يلو    إعلان الفائزين بجائزة مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية 2025    578 ألف ريال لصقرين في الليلة 13 من مزاد نادي الصقور السعودي 2025    الاستثمارات العامة مستثمر رئيسي في صندوق البلاد إم إس سي آي المتداول للأسهم السعودية    القيادة تهنئ الرئيس الاتحادي لجمهورية النمسا بذكرى اليوم الوطني لبلاده    أبرز 3 مسببات للحوادث المرورية في القصيم    أكثر من 85 ورشة عمل تمكّن رواد الأعمال في "بيبان 2025"    "زين السعودية" تعلن نتائجها لفترة التسعة أشهر الأولى من 2025 بنمو في الأرباح بنسبة 15.8%    الصادرات غير البترولية ترتفع 5.5% في أغسطس.. والصين الشريك التجاري الأول للمملكة    الضمان الصحي يصنف مستشفى د. سليمان فقيه بجدة رائدا بنتيجة 110٪    سماء غائمة وسحب رعدية على جازان وعسير.. والضباب يخيّم على الشرقية    اليسارية كاثرين كونولي تفوز برئاسة أيرلندا بأغلبية ساحقة    إسرائيل تعتبر تدمير أنفاق غزة هدفاً استراتيجياً لتحقيق "النصر الكامل"    غدًا.. قرعة بطولة العالم للإطفاء والإنقاذ في الرياض تمهيدًا لانطلاق المنافسات الدولية    الزهراني يترأس الاجتماع الدوري الثالث لبرنامج مدينة أضم الصحية    تجمع تبوك الصحي يواصل حملة "التبكيرة خيرة" للكشف المبكر عن سرطان الثدي    "طويق" تشارك في معرض وظائف 2025 بالظهران وتفتح آفاق وظيفية جديدة للموارد البشرية    نائبة رئيس جمهورية أوغندا تصل الرياض    صدارة آرسنال في اختبار بالاس.. وسيتي ضيفاً على أستون فيلا    تنافس قوي بين كبرى الإسطبلات في ثاني أسابيع موسم سباقات الرياض    اختتام فعاليات بطولة الإنتاج المحلي لجمال الخيل العربية الأصيلة 2025    سائح يعيد حجارة سرقها من موقع أثري    «إياتا» تضع قواعد جديدة لنقل بطاريات الليثيوم    «بدي منك طلب».. رسالة لاختراق الواتساب    بحضور أمراء ومسؤولين.. آل الرضوان يحتفلون بزواج عبدالله    مسؤولون ورجال أعمال يواسون أسرة بقشان    غرم الله إلى الثالثة عشرة    الديوان الملكي: وفاة صاحبة السمو الأميرة هيفاء بنت تركي بن محمد بن سعود الكبير آل سعود    انطلاق القمة العالمية للبروبتك    100 مشروع ريادي لنهائي الكأس    ولي العهد يُعزي رئيس مجلس الوزراء الكويتي    بيع 90 مليون تذكرة سينما ب 5 مليارات ريال    الذكاء الاصطناعي يعيد الحياة لذاكرة السينما بمنتدى الأفلام    أمير منطقة حائل يرعى حفل افتتاح ملتقى دراية في نسخته الثانية    116 دقيقة متوسط زمن العمرة في ربيع الآخر    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هيفاء بنت تركي    ولي العهد يُعزي هاتفياً رئيس الوزراء الكويتي    سرقة العصر أو البلاشفة الجدد في أوروبا    موجات مغناطيسية سر حرارة هالة الشمس    %90 من وكالات النكاح بلا ورق ولا حضور    شرطة الرياض: تم -في حينه- مباشرة واقعة اعتداء على قائد مركبة ومرافقه في أحد الأحياء    "الشؤون الإسلامية" تطلق برنامج "تحصين وأمان"    أسهم الذكاء الاصطناعي تواصل الصعود    خطيب المسجد الحرام: لا بد أن تُربّى الأجيال على هدايات القرآن الكريم    إمام المسجد النبوي: معرفة أسماء الله الحسنى تُنير القلوب    غياب البيانات يعيد بريق الذهب والفرنك السويسري    النوم مرآة للصحة النفسية    اكتشاف يغير فهمنا للأحلام    "تخصصي جازان" ينجح في استئصال ورم سرطاني من عنق رحم ثلاثينية    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان ينهي معاناة مراجعين مع ارتجاع المريء المزمن بعملية منظار متقدمة    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    «هيئة العناية بالحرمين» : 116 دقيقة مدة زمن العمرة خلال شهر ربيع الثاني    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هيفاء بنت تركي بن سعود الكبير آل سعود    دوائر لمكافحة «الهياط الفاسد»    نائب أمير نجران يُدشِّن الأسبوع العالمي لمكافحة العدوى    أمير منطقة تبوك يواسي أسرة القايم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجزائر والبحث عن الهوية الثقافية
نشر في الحياة يوم 17 - 07 - 1998

حزن الجزائريون لاغتيال المغني الجزائري معطوب الوناس مرتين. مرة لأن الوناس كان يطربهم بصوته الجميل وبأغانيه التي كانت تعبر عن توق الى الحرية، وحض على احترام الكرامة الانسانية وحقوق المواطنين والاقليات. ومرة ثانية لأن حادث الاغتيال تحول الى منطلق لأحداث عنف فاقمت من حدة الصراعات الداخلية في الجزائر. فالوناس كان احد اعلام الحركة التي تطالب باعطاء البربر حقوقهم الثقافية. وقد حمل المتعاطفون مع هذه الدعوة دعاة التعريب، سواء كانوا داخل الحكومة الجزائرية او خارجها، مسؤولية اغتيال المغني الشهير. واكتسب هذا الاتهام صدقية عندما اصدر احد زعماء "الجماعة الاسلامية المسلحة" - التي تؤيد التعريب - بياناً اعلن فيه مسؤوليته عن اغتيال الوناس. لأن الاغتيال وقع قبل ايام قليلة من موعد البدء بتنفيذ قانون التعريب الجديد في الجزائر، فقد بدا طبيعياً ان تتأجج مشاعر المناهضين لعملية التعريب وان يشتد معها الجدل والصراع بينهم وبين مؤيدي هذه العملية. هذا الجدل جدير بأن يكون موضع الترحيب لا الاكتئاب لولا انه ترافق احياناً مع مجابهات دامية وأعمال عنف خرجت به عن حدود الصراع الفكري والتنافس السياسي.
تتخطى تفاعلات هذه الاحداث الجزائر لأنها تتعلق بمسألة تتكرر في اكثر من بلد عربي هي قضية حقوق الجماعات الاثنية السلالية، او اذا اردنا التدقيق، حقوق الجماعات الاثنية التي تتمركز في مناطق معينة من الدول العربية وأهمها الاكراد في شمال العراق، والزنوج في جنوب السودان، هذا فضلا عن البربر في جبال الجزائر والمغرب. وهذه القضية تمس اوضاع المنطقة وتؤثر في دولها على اكثر من صعيد. انها تؤثر على الوحدة الترابية في بلدين عربيين هما في المقدمة من حيث الطاقات البشرية والمادية الكامنة. الأول منهما، اي العراق، يعتبر قوة اقليمية رئيسية، والثاني منهما، اي السودان، هو البلد العربي الاكبر من حيث المساحة. وهي تؤثر على الأمن والاستقرار في الجزائر وهي ايضاً قوة عربية رئيسية وبلد غني بالطاقات المادية والبشرية، ثم ان قضية حقوق الجماعات الاثنية تمس هذه البلدان كل على حدة فتعمق مشاكلها الداخلية وتعقد علاقتها الخارجية وتستنزف مواردها البشرية والمادية. وتمس هذه القضية امن المواطنين، سواء انتموا الى الكثرة او القلة، ورفاههم وكرامتهم الانسانية. وإذا كانت هذه القضية من الاسباب الرئيسية التي ادت الى انهيار كيانات دولية كبرى مثل الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا، فانه ليس من المبالغة القول بأنها من اهم المعضلات والتحديات التي تواجه المنطقة العربية اليوم، وانه من الواجب الاسراع في ايجاد الحلول السليمة.
ان البحث عن حلول لمسألة حقوق الجماعات الاثنية يقتضي فهمها فهماً صحيحاً، اي الكف عن اعتبارها مشكلة مختلقة من صنع القوى الطامعة في الهيمنة على المنطقة، والتعامل معها على اساس انها قضية جماعة من المواطنين تشعر، خطأ او صواباً، بأنها حرمت من حقوق اساسية لها تكفلها الشرائع الانسانية. القوى الاجنبية استغلت هذه القضية احياناً لغير صالح ابنائها، ولغير صالح الدول التي ينتمون اليها. كان شاه ايران، على سبيل المثال، يقدم الدعم القوي الى اكراد العراق، بينما كان يقمع اي تحرك يقوم به اكراد ايران من اجل المطالبة بحقوقهم المشروعة. وعندما تمكن شاه ايران من اجبار الحكومة العراقية على تقديم التنازلات في شط العرب، اوقف دعمه للأكراد. وتستغل الادارة الاميركية راهناً قضية الاكراد في شمال العراق على اوسع نطاق، وتضع مع الحكومة البريطانية كل ثقلها لعرقلة المصالحة بين القيادات الكردية وبغداد بعد حرب الخليج الثانية. الحكومة البريطانية كانت تعرقل الصلات بين شمال السودان وجنوبه ليس من قبيل الحرص على خصوصية الجنوب في علاقته مع الشمال، وإنما لاعتبارات استراتيجية منها ما كان يتعلق بالدفاع عن منطقة الشرق الأوسط ضد الاتحاد السوفياتي، اي بأهمية جنوب السودان كقاعدة لتجميع القوات الحليفة في حال تعرض المنطقة الى اجتياح روسي. وكان الفرنسيون يعطون الجماعات الموالية لهم من البربر في المغرب والجزائر امتيازات بالمقارنة مع الجزائريين الآخرين، من اجل اشغال الجزائريين بالانقسامات والهائهم عن المطالبة بالحقوق الوطنية.
كل ما تقدم بات من الحقائق الشائعة، غير انه لا يعني ان القوى الاجنبية هي التي اوجدت مسألة الجماعات الاثنية في البلاد العربية. وان هذه القضية تنتهي عندما يتوقف الدعم الخارجي لها. الخبرة التاريخية تدلنا على ان هذه القضية لا تنتهي بهذا الاسلوب، والى انه اذا لم تحل هذه القضية حلاً سليماً، فانها قد تخمد زمناً في ظل ظروف دولية واقليمية ومحلية غير ملائمة، ثم تتأجج مجدداً عندما تتغير هذه الظروف. وفي كثير من الحالات فان الضغط الداخلي لا التشجيع الخارجي يكون هو العامل الأهم في حمل هذه الجماعات الاثنية على شق عصا الطاعة على السلطات المركزية. فضلاً عن ذلك فانه من الخطأ الاعتقاد بأن هذه الجماعات الاثنية تلعب دور "الاداة" في يد القوى الخارجية التي تستخدم من اجل ممارسة الضغط على حكومات الدول العربية. في كثير من الحالات لعبت هذه الجماعات دوراً نشيطاً في حث القوى الاجنبية على ممارسة مثل هذا الضغط على الحكومات المعنية بأمل ان يؤدي هذا الى حصولها على حقوقها. بل انه قد يكون من المفيد التذكير هنا ان "الاقلية" العربية في الامبراطورية العثمانية مارست، هي نفسها، مثل هذا الدور عندما كانت تطالب بمثل هذه الحقوق.
اذا كانت الحكمة والانصاف يقضيان بأن يعيد اصحاب القرار في الدول العربية النظر في قضية الجماعات الاثنية، فان هذه الجماعات مطالبة، هي الاخرى، بمراجعة موازية. ذلك انه اذا كان من حق هذه الجماعات ان تطالب بحريتها في تنمية ثقافتها ولغتها، وإذا كان من حقها ان تطالب بالحكم الذاتي في المناطق التي تشكل فيها اكثرية، وإذا كانت تستحق الدعم عندما تطالب بالنظام الديموقراطي للجميع، فانها تضع نفسها في موضع خاطئ عندما تطالب بأهداف تتناقض مع حقوق الآخرين المشروعة. وإذا عدنا الى المثال الجزائري، فان مطالبة النخبة الحاكمة في اعادة النظر في موقفها من الامازيغية يعتبر مطلباً مشروعاً وسليماً. وربما كان من مصلحة الجميع اعتبار الامازيغية لغة رسمية، الى جانب العربية، الا ان بعض المطالبين بحقوق البربر الثقافية يرتكبون خطأ لا مبرر له عندما يقرنونه بالحملة ضد مشاريع التعريب.
لقد كان التعريب هدفاً رئيسياً من اهداف النضال الوطني الجزائري، كما نجد في بيانات ووثائق ثورة الاستقلال الجزائري. وإذا كانت النخبة التي قادت البلاد بعد استقلالها، اخطأت في امور كثيرة، فانها لم تخطئ عندما نفذت هدفاً نشده الجزاريون منذ منتصف القرن التاسع عشر. ولربما طبقت مشاريع التعريب خلال المرحلة السابقة بأسلوب متشدد يخالف روح العلم والمعرفة والثقافة. اذا كان هذا ما يشكو منه المطالبون بحقوق البربر وباقرار الامازيغية كلغة رسمية، فانه من الضروري توضيح ذلك ووضع اليد على مواضع الخلل في ذلك الاسلوب. ومن الضروري المطالبة بوضع حد له اذا كان لا يزال متبعاً في المؤسسات التعليمية الجزائرية. ولربما ادت مشاريع التعريب الى إلحاق ضرر فادح بعدد من الجزائريين البربر ممن اتقن الفرنسية ولم يتمكن من اتقان العربية. اذا كان هذا هو الواقع فانه من الضروري التنبه له والعمل على تلافيه. ان هؤلاء المواطنين هم، بعد كل حساب، نتاج فصل من فصول التاريخ لم تكن لهم يد مباشرة في صنعه. انهم من ابناء الجزائر وأبناء المنطقة العربية الذين ينبغي ان تصان حقوقهم وكراماتهم وهويتهم الثقافية. وفي مطلق الحالات فان اتقان اللغات الاجنبية، الى جانب اللغة الام، هو مكسب كبير ينبغي تشجيعه. بيد ان كل ذلك لا يبرر دق النفير ضد التعريب في حد ذاته كما تفعل بعض الجماعات الجزائرية.
ان التعريب هو، في نظر الكثيرين، مشروع يحظى بتأييد اكثرية الجزائريين، ومن هنا فانه ليس من حق المطالبين باعطاء جماعة اثنية جزائرية حقوقها المشروعة، ان تطالب بحرمان الاكثرية من هذه الحقوق. وقد يكون هؤلاء على حق اذا كان التعريب لا يستند الى تأييد الاكثرية من الجزائريين كما كان الامر طيلة عقود طويلة من الزمن. اذا كانت اكثرية الجزائريين تقف موقفاً مخالفاً من هذه المسألة، وإذا بدلت رأيها وشعورها تجاه التعريب، وإذا استقر رأي الاكثرية على انه لم يعد من داع للمضي في هذه الحملة، فانه لا مناص من النزول عند ارادة شعب الجزائر. ومن اجل الوقوف على ارادة الجزائريين من هذه المسألة فانه من الممكن اجراء استفتاء عام على هذه المسألة، او من الممكن الانتظار حتى الانتخابات القادمة بحيث يضع معارضو التعريب هذا الهدف وهذا المطلب في مقدمة برنامجهم الانتخابي. فضلاً عن ذلك يستطيع هؤلاء ان يقوموا بحملة ضغط تتوسل السبل الشرعية لاقناع المؤسسات السياسية الجزائرية القائمة بالعودة عن مشروع التعريب. ان هذه الوسائل قد لا تؤدي الى نتائج سريعة، وقد لا تكون ذات فعالية عالية اذا ما اخذت بعين الاعتبار الثغرات القائمة في النظام السياسي الجزائري. ولكن رغم كل هذا القصور، فان هذه الوسائل تبقى هي الافضل الا اذا كان معارضو التعريب يريدون فرض رأيهم بالقوة على اكثرية الجزائريين، بينما هم يدعون الى احترام حقوق الاقلية منهم.
* كاتب وباحث لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.