لا يثير العدّاءُ حماسة متواصلة لدى مشاهديه. يتحمسون له باقتصاد وهو يركض، وحين يصل تزيد حماستهم قليلاً. أما الحماسة فمهذّبة جداً في كرة المضرب التنس، تلك اللعبة الاريسترقراطية التي بدأت في العقدين الأخيرين تنتسب الى الطبقة الوسطى وتنتسب الأخيرة اليها. ألعاب الأفراد لا تعبّىء كثيراً، فهي فردية بالتعريف والكثير منها يخلو من المواجهة او يقتصر على حدّها الأدنى. وربما كان الملاكم وحده مَن يثير حماسة جماهيرية متواصلة. فالعنف، في الحالة هذه، يكثّر الفرد ويكثّفه، مُضفياً على أفعاله الشحنةَ والطاقةَ اللتين تبلغان الذروة في "رياضة" فردية أخرى هي مصارعة الثيران التي تنتهي بالقتل: شابٌ جميل أقرب الى الراقص، يقف في مواجهة ثور. إنه أفضل ما فينا ومَن عندنا، نحن البشر، في مقابل الآخر المطلق الآخرية، أي الوحش! هنا تقع الجماهير على ضالّتها المثلى. الجماعية تفصل كرة القدم عن كرة المضرب، فيما الجماعية والعنف بوصفه هدفاً صريحاً، يفصلانها عن الملاكمة أو مصارعة الثيران. مع هذا تتميز كرة القدم عن ألعاب جمعية أخرى: فالاختلاط والتداخل كاملان فيها على عكسهما في كرة السلة. صحيحٌ أن فريقين يتواجهان في اللعبة الأخيرة أيضاً، غير أن نقطة التركيز تتجه الى لاعب بعينه في لحظة بعينها: حين ينجح في الانفراد بنفسه واسقاط الكرة. أما الكرة الطائرة ففريقاها، بدورهما، مُرسّما الحدود تماماً كما لو أنها معركةٌ ممنوعٌ فيها التقدم والتوغّل في "أرض العدو". انها حربٌ تمزج الحماسة بكثير من الصبر. كرة القدم، ذات الفريقين، حرب كلاسيكية، لكنها، في لحظات تداخل الفريقين، وهي دائمة تقريباً، حرب أهلية أيضاً، مرشحةٌ في كل لحظة أن تصير اشتباكاً بالسلاح الأبيض. واختلاط أنواع الحروب فيها، وامتداده على رقعة الملعب، يخاطبان وتائر العنف وموجاته الكثيرة في نفوسنا، فكيف وأن الفريق "المقاتل" يحمل علم بلد"نا" وينتسب أعضاؤه - كلهم قبلاً، وجلّهم بعد شراء الرياضيين - الى شعب"نا"، فيما يلبسون يونيفورماً واحداً كأنهم امتداد شبه مدني لجيش"نا"، فإذا ما نزلوا الى الميدان حملوا اسم وطن "نا" ومثّلوه حيال أوطان الآخرين؟ هذا هو المونديال الذي تنشد اليه أنظار البشرية، لكنه أيضاً تحويلٌ لهذا العنفي الأصلي وتحوير: أمم اتفقت جميعاً على أن ترصد لحظة اختلافها، وجاء التلفزيون يُريها كلها في قاراتها الخمس، وفي لحظة واحدة، مشهداً واحداً لشخص واحد في وضعية واحدة. فأيهما الأقوى: التعارض أم التلاقي؟ واقع الحال ان مجرد الاتفاق على متابعة هذه "الحرب" بالتلفزيون يعني أن كرة القدم أقرب الى تنفيس العنف منها الى العنف، وأشبه كثيراً بمسرحة غريزة القتل منها باطلاقها. غير أنه يعني أيضاً غياب الامتثال للتلفزيون كما نعهده في نشرات الأخبار أو البرامج الثقافية، اذ تتواكب المشاهدة مع التعليق كلاماً وصراخاً وصفيراً وحالاتٍ متواصلة من الوقوف والجلوس وتغيير الوضعية الجسمانية للمشاهد. انها متابعة بصرية تحرر صاحبها فيما تلطّفها المشهدية الطاغية التي تهيمن على "الحرب" هذه: سلع وبيع وشراء وتسلية، حتى أن علامات الحشود القومية من أعلام وبيارق وأغانٍ وأناشيد، غدت تندرج في سلع السلوى وفي مشهدية المشهد. وقد يقال، بحق، إن تزوير الواقع يبقى، في هذا كله، كبيراً جداً بطبيعة الحال، كأن تبدو الأمة موحدةً وراء علمها ونشيدها، فيما تستتر خلافاتها وتغيب تناقضاتها خصوصاً أن الجميع، على تمايزهم، يتساوون في مشاهدة اللقطة التلفزيونية نفسها. أو، في المقابل، كأن تبدو أمةٌ فقيرة أو ضعيفة في سوية أمة غنية وقوية، لا بل أن يصبح أهم عضوين في "مجلس الأمن" الرياضي، لا أميركا وروسيا، بل البرازيل والأرجنتين. بيد ان الحاجة الى ذينك التزوير والتنفيس ماسّة وضرورية، ناهيك عن كونها غير مؤذية أصلاً. فالمونديال، في كونيته الجماعية، ربما كان المعادل الايجابي الأبرز للكوارث الشاملة والأحزان الهستيرية التي تجرف الجموع. الا أنه، وكما رأى ألبرخت سانتاغ، على عكس الكوارث، متوقَعٌ ومخطط له. ولهذا فحيث يسود الاستسلام القدري حيال أفعال الطبيعة العمياء، يسود في مهرجان كرة القدم ضربٌ واعٍ وقادر من التدخل الانساني، أو على الأقل، من توهّمه وافتراضه. والشيء نفسه يصحّ في الأمة التي يتاح لها أن تنافس بالكرة، بدل أن تنافس بالذرّة، أو في الفقير الذي يضرب الغني بالأرقام بدل أن يضربه بالقنابل. ثم ان الحاجة الى التزوير والتنفيس يضاعفها زمننا: ففي "العالم الثالث" ينقل المونديال المتفرّج من بصّاص يسترق النظر والسمع الى ما يجري خارجه، عاداتٍ وبذخاً وأنماط حياة، وهذه هي الحال مع البرامج التلفزيونية والأفلام السينمائية، الى مشارك في هذا الذي يجري. والمشاركة متكافئة تماماً، ليس فقط لأن فريقه موجود هناك أيضاً، أو لأن بلده مُعرّض لاستضافة مونديال آخر بعد أربع سنوات أو ثمان، بل كذلك لأنه يشاهد على التلفزيون، وفي اللحظة نفسها، ما يشاهده الجميع، على عكس البرامج "المستوردة" التي يسود الانطباع، عن حق أو خطأ، انها تُعرض في "العالم الثالث" بعدما استُنفدت في بلدان المنشأ. أما في البلدان المتقدمة فيلعب زمن الانترنت والتذرر الفردي البالغ دوره. فأنت اليوم تقرأ على الانترنت الصحف التي لا يشاركك كثيرون قراءتها، ويمكنك ان تقضي عدداً متعاظماً من الحاجات التي لا تُضطرك الى التعاون عليها مع أي شخص آخر. وعلى هذا النحو يجد تطلّب الجماعية ما يُشبعه ويلبّيه في كرة القدم، وفي نقلها التلفزيوني الذي يعيد الاعتبار الى البيت كوحدة اجتماعية تميل عادةً الى التفرّق بفعل ظروف العمل وتبايُن الانشغالات. وهذه البيتية، معطوفةً على تعاظم الطبقات الوسطى واحتضانها كرةَ القدم، وعلى ارتفاع وتائر الاستهلاك التي تجعل الحشود كرنفالاتٍ مُسلّية، تخفف الاحتمال العنفي بقدر ما تعمل على تدوير تعابيره القومية. صحيحٌ أن الفاشيين لا يزالون يقعون على ضالتهم في مثل هذه المناسبات الجمعية، فيتخوف الكثيرون من شرورهم واعتداءاتهم المحتملة ويحسبون الحسابات لها، الا أن أعدادهم في المناسبات هذه لا تني تتناقص. أما الأحداث الشهيرة التي ارتبطت بكرة القدم، كمونديال 1934 في روما الذي جعله موسوليني مناسبة "البعث الفاشي لايطاليا"، أو حرب 1969 بين السلفادور وهندوراس انطلاقاً من مباراة بين فريقيهما، فأغلب الظن أن احتمالات تكرارها غدت أضعف بما لا يقاس. وقد أضحى بعضَ الماضي الميت اهتمامُ النظام النازي بالرياضة وسيلةً لتنمية "الروح العسكرية" وشحذ "الرجولة الآرية". أما القرار الذي تبناه الحزب الشيوعي السوفياتي في 1949 وينص على أن "من واجب الرياضيين السوفيات أن يحصلوا على التفوق العالمي في المجالات الرياضية الكبرى"، فلا يثير الآن غير السخرية، علماً أنه شكّل لأربعة عقود عماد السياسة الرياضية لبلدان الكتلة. وتخاطب كرة القدم تحديداً ما يمكننا تسميته بالقيم الشبابية الجديدة المنتشرة على نطاق كوني. فلاعب هذه الرياضة غدا، الى جانب مغني البوب، النجم والمثال بعد أفول السياسي والمناضل والمثقف. انه المعبود الشعبي الجديد الذي تتنافس عليه التلفزيونات والصحف ومصممو الملصقات، كما تهرع اليه دور النشر كي يكتب مذكراته، من دون ان يكون هناك بالضرورة ما يستحق التذكّر. لكن هذا النجم الذي تذيع حركاته وسكناته في العالم بأسره، هو أيضاً مشروع ثروة مالية هائلة وحياة بذخ لا يمكن الا أن تُغريا فقراء الشبيبة في أحياء المدن المهمّشة أو غير المحظوظة. فإذا كان زمن ما بعد الصناعة زمناً انتقائياً جداً، يرسب في امتحانه الكثيرون ممن هم أقل كفاءاتٍ وتأهيلاً، فالتأهيل لكرة القدم لا يلزمه الا الجسد وقطعة أرض في الفلاة. فعلى عكس كرات المضرب والطاولة والسلة حيث ثمة أدوات أساسية لا بد من شرائها، تتميز كرة القدم والكرة الطائرة بتطلب الحد الأدنى، بحيث يستعاض عن المرمى الخشبي بمرمى افتراضي مثلاً. ولهذا مجتمعاً بات عدد مشاهدي كرة القدم على التلفزيون، ومن دون أن يكون هناك مونديال، أكبر بما لا يقاس من مجموع مشاهدي الألعاب الأخرى. فالهنود يعتبرون الكريكيت وكرة القدم لعبتيهم الوطنيتين، واليابانيون يعطون الأولوية للغولف وكرة القدم، وأهل هونغ كونغ للركض وكرة القدم... وحين تصبح لعبةٌ ما لعبةً قومية في البلدان جميعاً، تكف عن كونها قومية تغلق ذاتها على ذاتها، لا سيما وأن تحت سطحها تتحرك عمليات شراء اللاعبين الأجانب، فيناط برياضي أفريقي الدفاع عن "كرامة" بريطانيا، أو بلاعب نيوزيلندي المحاماة عن شرف "نيجيريا". وهذا السحر الجديد لكرة القدم ما حمل مثقفين فرنسيين كثيرين، بمناسبة المونديال، على أن يجلدوا "ثقافتهم العتيقة" التي تراءى لها أن الثقافة لا علاقة لها ب"الفوت"، كما حمل أحزاب اليسار على مناشدة العمال عدم القيام باضراباتهم ابان المونديال، بعدما كانت الأحزاب اياها لا ترى في المناسبات تلك غير السياسة فتدعو، مثلاً، الى مقاطعتها حين تنعقد في بلدٍ نظامُه "رجعي" أو عنصري. وسيولة اللعبة وتحول معانيها لها سوابق كثيرة في تاريخها، بل في تاريخ الرياضة عموماً كما وضعه نوبرت الياس وإريك داننغ في كتابهما "الرياضة والحضارة: العنف وقد تمت السيطرة عليه" 1994. فكرة القدم بعدما ابتدأت بداية همجية في القرون الوسطى، تم تطويرها في القرن الثامن عشر داخل مناخ يتأثّر بالسياسة ويؤثّر فيها. والقناعة السياسية، بل الحضارية الأولى يومذاك، وبعد انقضاء قرن على ثورة كرومويل وجمهوريته، كانت البحث عن تسكين النزاعات بتحويلها الى ألعاب لا يفنى فيها أيٌ من طرفيها. وفي هذا المعنى استوردت السياسة تعبير اللعبة السياسية، ولاحقاً البرلمانية من الرياضة التي بدورها كفّت عن أن تكون منازعة وحشية بين قاتل ومقتول. وما استخدام كلمة "سبور" Sport بهذه الدلالة، هي التي تعني في الأصل "الترفيه عن الجسد"، غير اعلان مبكر عن تغليب المتعة على العنف، والاقتصار على ما هو رمزيٌ في الأخير. وعلى هذه المعادلة التي تستدعيها حضارةٌ متحررة، غير قامعة لأبنائها، شرعت تستقر الرياضة: حدٌ من العنف يفصح عن طاقة العنف في البشر، الا أنه مضبوط بقوانين "اللعبة" وضابط للانفعالات القصوى. أي أن الرياضة، بكلمة، تغدو بديلاً عن العنف أكثر منها عنفاً، فتبدو كالسم القليل الذي كان يعطيه بعض قبائل الهند لأبنائهم كي يزوّدوهم مناعةً ضد السم. والمونديال الأخير شهادةٌ لا تخطىء، ليس فقط على أولوية التجارة، بل أيضاً على سطوع المتعة التي تتحدث بلسان عالمي واحد. فالافتتاح، ورغم كل التشدق الفرنسي بالقومية الثقافية، كان استعراضاً أميركياً بحتاً بأضوائه وأشكاله، من دون ان تكون الولاياتالمتحدة بلداً يُعتد به في كرة القدم. أما الولع بالبرازيل فلا يعود فحسب الى كونها بلد بيليه وكبار اللاعبين، بل يغازل مخاطبة البرازيليين المزاجَ الكوني الناشىء الذي يسحره رقصهم وغناؤهم واستخدامهم الجسد وتطويعه. انها، اذن، لحظة الأممية الممكنة، المنطوية على التعبير المقيد عن الغرائز، والمرفقة بقدر كبير من التجارة، والباعثة على قدر اكبر من السلوى، بما في ذلك الفساد ك"شيمة" انسانية فيها الكثير من سيولة الحياة نفسها. اننا، اذن، حيال خلاف واتفاق على تنظيم الخلاف في وقت واحد، حتى ليبدو الظهور لساعات قليلة بمظهر الأمم "الواحدة"، نوعاً من التواطوء المنظّم لكي يكون... لعبٌ. فانتزاع كرة القدم من الخام القومي والعنفي يجعل نزاعاتها تمعن في الكرنفالية، حتى لتتخذ طابعاً تنكرياً، فتصير اللعبة، في العمق، أقل مجالات التنازع تنازعاً.