اذا كنت تخطط لبدء نشاط اقتصادي في اي مكان في العالم، فان النصيحة الأساسية التي ستسمعها من مستشاريك، سواء كانوا اصدقاء ام زملاء ام محامين، هي ان الموقع الذي ستباشر منه هذا النشاط هو احد اهم عوامل ازدهاره ونجاحه. وعلى رغم التطور المذهل الذي شهدته وتشهده وسائل الاتصال، والثورة التي احدثتها انترنت، وسيادة الفكرة القائلة ان في امكانك ممارسة نشاطك الاقتصادي بمساعدة حقيبة صغيرة، لا تزال اللقاءات الشخصية والحوارات المباشرة في الأهمية نفسها التي كانت عليها سابقاً، وهذا يشكل واحداً من اسباب جاذبية المملكة المتحدة. لبريطانيا، وخصوصاً عاصمتها لندن، حظ كبير، اذ تربطها بالشرق الأوسط علاقات تاريخية مع اعترافي بأن تاريخ المملكة المتحدة لم يكن دوما مجيدا، ما يجعل عددا كبيرا من البريطانيين من محبذي العلاقات الطيبة، اضافة الى ان البنية الاجتماعية الليبرالية نسبياً، تعطي اهل الشرق الأوسط شعوراً بالراحة وبأنهم مرحّب بهم. ويتساءل كثير من المراقبين عن الأسباب التي تدعو عدداً كبيراً من الشرق اوسطيين الى اختيار المملكة المتحدة للاقامة او لممارسة نشاط اقتصادي، مع المحافظة في الوقت نفسه على علاقة وثيقة مع اوطانهم الاصلية. للاجابة عن هذا التساؤل، في ما يأتي عدد من العوامل والاسباب: اللغة: يزداد، عالمياً، اعتبار الانكليزية لغة التجارة العالمية والأعمال مما يجعل لندن تتحول الى مقصد بديهي ومنطقي. الموقع: يسافر اهل الشرق الأوسط بكثرة ويمضون في الهواء اطول مما يمضون على اليابسة! وغالباً ما يقصد هؤلاء الولاياتالمتحدة. لكن الرحلة من الشرق الأوسط الى الولاياتالمتحدة طويلة جداً، ولهذا يتوقف عدد كبير منهم في لندن، حيث يكتشفون منافعها ومميزاتها. الطقس: يصعب القول ان الطقس البريطاني يجتذب او يمكن ان يجتذب اي انسان الى المملكة المتحدة. ولكن بالنسبة الى اهل الخليج الذي يشهد صيفاً حاراً جداً، يعتبر صيف لندن نعيماً وموضع ترحيب وارتياح. الاستقرار السياسي: على رغم الوسائل الديكتاتورية التي تستخدمها الحكومة البريطانية الجديدة، تنعم المملكة المتحدة باحدى اعرق الديموقراطيات البرلمانية في العالم والتي لا تزال فعّالة عملياً. المناخ التجاري الاقتصادي: من السهل نسبياً بدء نشاط اقتصادي في بريطانيا او افتتاح فرع فيها لشركة قائمة في الشرق الأوسط او في اي مكان في العالم. كذلك يمكن لراغب في الاقامة لادارة اعماله الحصول بسهولة على حق الاقامة، خصوصاً اذا تمكن من تأمين المشورة القانونية المناسبة. هذا الموقف المنفتح حيال الراغبين في ممارسة نشاطهم الاقتصادي، او في اقتناء عقار في المملكة، يعني ان عددا كبيراً من القيود المفروضة على الاستثمار في دول اخرى ليس مطبّقاً في بريطانيا. النظام الضريبي: تعتبر مسألة الضرائب ذات أهمية بالنسبة الى أي نشاط اقتصادي او غير اقتصادي. وينعم عدد كبير من الدول العربية بعدم وجود نظام ضريبي فيه، ولذلك يُصدم عدد كبير من العرب الذين يقررون الاقامة في المملكة المتحدة او بدء نشاط اقتصادي فيها، عندما يكتشفون ان ما يضطرون الى دفعه من ضرائب، كبيرة او صغيرة، يتحكم الى حد كبير بطريقة تنظيمهم لشؤونهم. وتسعى المملكة المتحدة دائماً الى اجتذاب الاستثمارات، سواء كانت عبر شراء الاجانب منازل لهم فيها، او بدء انشطة اقتصادية في ربوعها، ام توليد الوظائف لقواها العاملة. ولذلك تسمح الحكومة البريطانية للاجانب بالاستفادة من ترتيبات ضريبية تعود عليهم بالنفع الكبير. ويمكن اي شخص ان يتجنب دفع اية ضرائب على الدخل اذا اعتبر بلداً آخر، غير بريطانيا، وطنه الذي يرغب في العودة اليه في مرحلة لاحقة من حياته، حتى ولو كان يقيم عملياً في المملكة المتحدة. ومن البديهي ان هذا كله يتطلب ترتيبات متأنية الا انها غير معقدة. ومن المطمئن ان الحكومة تعلم بهذه الترتيبات التي يستخدمها الناس ولا يبدو انها تعارضها. ففي كل مرة تعلن الحكومة موازنة جديدة يقلق المحاسبون والمحامون في المملكة المتحدة من احتمال الاقدام على سد الابواب او "المهارب القانونية" البديهية التي يستخدمها البعض لتجنب دفع الضرائب. وعلى رغم دعوة الصحف واخرين الى اغلاق هذه المهارب، امتنعت حتى الحكومة العمالية عن الاقدام على هذا الاغلاق. ويعزى ذلك الى ادراك الحكومة ان اغلاق هذه "المهارب" يدفع عدداً كبيراً من الراغبين في الاستثمار في البلاد الى صرف النظر عن ذلك. اوروبا على رغم الفتور الذي يبديه السياسيون البريطانيون بمن فيهم ساسة حزب العمال حيال اسلوب عمل الاتحاد الاوروبي، تشكل المملكة المتحدة جزءاً من هذا الاتحاد. وعلى رغم ان بريطانيا لن تشارك في تداول العملة الاوروبية الموحدة اليورو عند طرحها في كانون الثاني يناير المقبل، الا انه يبدو ان مشاركتها حتمية في السنوات القليلة المقبلة على رغم اعتراض حزب المحافظين المعارض على ذلك. ومن الطبيعي ان هذه الكتلة المالية الاوروبية الجديدة، التي ستقف في مواجهة الدولار القوي والين الذي يشكو ضعفاً حالياً، ستشكل قوة لا يستهان بها في الاقتصاد الدولي. ومما لا شك فيه ان هذه القوة ستيسر للشركات او للانشطة الاقتصادية المنطلقة من لندن الاستفادة من الاسواق الضخمة الموجودة في الاتحاد الاوروبي. ويجدر الذكر ان النفق الذي يربط بين بريطانيا وبقية اوروبا عبر المانش اثر في الوضع النفسي للبريطانيين وفي مواقفهم. وتظهر القدرة على استقلال القطار من محطة ووترلو اللندنية الى قلب باريس او بروكسيل في غضون ثلاث ساعات، مدى قرب السوق البريطانية من الاسواق الاوروبية. ويبدو ان الحكومة البريطانية تحاول امساك المجد من طرفيه عبر الانتماء الى اوروبا والبقاء خارجها ضريبياً. وكانت النمسا، رئيسة الاتحاد الاوروبي حالياً، اشارت اخيراً الى انها ستحاول الترويج لتوحيد الانظمة الضريبية الاوروبية، ومما لا شك فيه ان هذا التوحيد سيتم يوماً ما. لكن من المحتمل ان تبذل حكومتا المملكة المتحدة وايرلندا جهدهما لحماية الاستثمار في بلديهما عبر خفض الضرائب المفروضة على الاجانب الوافدين اليهما الى الحد الادنى. القوى العاملة تتمتع المملكة المتحدة بقوى عاملة ماهرة باتت متحررة من العدد الكبير من القيود التي كانت تكبلها في الماضي. ومن المفارقات ان سوق العمل الحرة جداً في بريطانيا تهددها الى حد ما حالياً الانظمة والقوانين التي تفرضها عاصمة الاتحاد الاوروبي بروكسيل. ومع ذلك لا يزال التوظيف في المملكة المتحدة عملية سهلة نسبياً وغير باهظة مقارنة مع ما هي عليه الحال في دول اوروبية اخرى. الترحيب احد اهم المؤثرات في قرار بدء نشاط اقتصادي في بلد ما هو الترحيب الذي تلقاه في هذا البلد. وهذا يعيدنا مرة اخرى الى التاريخ والى ان بريطانيا تمتعت دائماً بعلاقات جيدة مع عدد كبير من الدول في القرن الپ19، والى ان عدداً كبيراً من البريطانيين يسافرون الى الخارج ما جعلهم يألفون اقامة عدد كبير من الاجانب من الثقافات والمجتمعات الاخرى بينهم. ويبدي البريطانيون تسامحاً مع الاجانب وتقبلاً لهم اكثر مما يبديه كثيرون من مواطني الدول الاخرى. لذلك، في رأيي، المملكة المتحدة هي افضل من دول اخرى لأن الوصول اليها سهل ولأن لغتها دولية واسعة الانتشار ولأن طقسها جيد، ولأن في وسع من يزورها ان ينشط اقتصادياً، وان يكتسب جنسيتها، وان يتجنب دفع الضرائب، وان يبقى مع ذلك قادراً على العودة الى وطنه الاصلي.