يقترب العام 1998 من نهايته. وبالاضافة الى ما كتب خلال هذا العام عما جرى من أحداث، فقد كتب أيضاً الكثير بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على عدد من الأحداث المهمة التي جرت في العام 1968، خصوصاً أحداث كان لها انعكاسات مهمة وبعيدة المدى على التطورات الفكرية والسياسية عالمياً وعربياً، وربما حتى وقتنا الراهن. نبدأ بالحديث عن حركات الطلاب - والشباب عموماً - التي غمرت بلدان أوروبا الغربية والولاياتالمتحدة الأميركية. وان كانت تلك الحركات اكتسبت بعض الخصوصيات القومية التي اتصفت بها في كل دولة على حدة، وبالتأكد تباينت بين أوروبا الغربية من جهة والولاياتالمتحدة من جهة أخرى، إلا أنه تبقى حقيقة أن ما كان مشتركاً في تلك الحركات طغى على ما هو متباين، سواء من جهة منطوق خطابها السياسي والاجتماعي والايديولوجي، أو من جهة مدلولات تلك الحركات وتداعياتها على الدول والمجتمعات التي نشأت فيها. ولا شك في أن العام 1968 سطر في التاريخ السياسي والاجتماعي المعاصر للانسانية أهمية الدور الذي يضطلع به الشباب - وفي طليعتهم الطلاب - في التأثير على الحاضر وصياغة المستقبل. لقد كان تمرد الشباب العام 1968 بمثابة اعلان عن ثورة متعددة الأبعاد: كان تمرداً ضد السلطات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والأسرية والتعليمية. وكانت هذه التعددية المنسجمة في ما بينها هي السمة المميزة لحركة العام 1968، فلم تكن مجرد رفض لسلطة الجنرال ديغول في فرنسا مثلا، ولكنها كانت بالدرجة نفسها رفضاً للبنية الثقافية والمرجعيات الفكرية والعقائدية السائدة. كما كانت لهذه الحركة قوة دفعها الذاتية، وكانت أقرب الى العملية التاريخية التي ربما بدأت بقدر من العفوىة والتلقائية، ولكنها - وفي اطار حركتها على أرض الواقع - اكتسبت أرضية وشعبية واتساعاً مكنتها من ترجمة هذه الحركة الى صياغات ومطالب ذات عمق فكري وتجانس واتساق في ما بينها. وبجانب الدور المتزايد للفكر الوجودي في الغرب نتيجة أحداث 1968 الشبابية والطلابية، فإن أهمية هذه الأحداث فكرياً على المدى البعيد كانت في إعطاء زخم لما أطلق عليه حينذاك اسم "اليسار الجديد". وأتت أهمية هذا اليسار الجديد في غرب أوروبا - وبدرجة أقل في أميركا الشمالية - من كونه ادراكاً مبكراً من قبل قطاعات جماهيرية ذات وعي ونشاط سياسيين تقليدياً - أي الطلاب والشباب - بمأزق اليسار التقليدي وحدوده في الغرب حينذاك. وجاء هذا تالياً لادراك مماثل من قبل قطاعات من المثقفين في الغرب - بمن فيهم بالأساس مثقفون يساريون - نتج عنه أطروحات جديدة للاشتراكية، سواء في ما عرف بمدرسة فرانكفورت أو "الاشتراكية ذات الوجه الانساني". كما تزامن هذا الادراك من جانب الشباب والطلاب مع أحداث تشيكوسلوفاكيا في العام نفسه وهو الحدث الثاني الذي سنتناوله تالياً في هذا المقال. ولكننا نذكر أخيراً أن نتيجة مهمة لحركة الشباب العام 1968 في الولاياتالمتحدة الأميركية كانت الدفع بقوة تجاه تعبئة الرأي العام والقوى المؤثرة في صنع القرار هناك وصولاً الى انهاء الحرب في فييتنام والانسحاب الأميركي من هناك في السبعينات. وننتقل هنا الى الحدث الثاني البارز العام 1968 وهو التدخل العسكري السوفياتي - بالاشتراك مع قوات من دول اشتراكية أخرى من شرق أوروبا - في تشيكوسلوفاكيا لإعادتها بقوة الى حظيرة المعسكر الشرقي ولقمع أي نزعات استقلالية بها. وجاء تبرير هذا التدخل طبقاً لما عرف حينذاك "بمبدأ بريجنيف". ومع أن هذا التدخل لم يكن الأول من نوعه، إذ سبقه تدخل في المجر العام 1956 - فإن تبريره من منظور ايديولوجي أثار الكثير من الشكوك والتساؤلات إزاء مصداقية العديد من الشعارات التي رفعها وتبناها اليسار الماركسي - خصوصاً مؤيدو النموذج السوفياتي - على المستويات المحلية والاقليمية والدولية. وعلى رغم "الانتصار" الذي حققه هذا التدخل السوفياتي على المستوى السياسي - وربما الفكري - من المنظور قصير الأجل، فاننا نرى أنه وجه ضربة للنموذج السوفياتي للاشتراكية وشكل انذاراً مبكراً ببعض أوجه الخلل التي ساهمت لاحقاً في سقوط هذا النموذج وتفكك المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا. مثل التدخل السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا انتكاسة لأي أمل في حدوث تقدم نوعي في النموذج الاشتراكي السوفياتي باتجاه التعايش بين الحرية والعدالة، والتكامل في ما بينهما في اطار نسق واحد. كما بدد هذا التدخل فرصاً وامكانات لإقرار التعددية داخل المعسكر الاشتراكي، وجاء ذلك بعد القطيعة السوفياتية - اليوغوسلافية ثم السوفياتية - الصينية ثم السوفياتية - الألبانية، وكانت لكل منها أسباب ايديولوجية وأيضاً سياسية. كما جاء بعد أحداث المجر العام 1956، وتلاه تدخلات أخذت أشكالاً أخرى في بولندا العام 1970 ثم بدءا من العام 1980. وأخيراً في هذا السياق، فإن كل ما تبناه الاتحاد السوفياتي وكتلته من شعارات في العلاقات الدولية بشأن الدعوة للسلام العالمي ونزع السلاح والتعايش السلمي بين دول ذات أنظمة اقتصادية واجتماعية مختلفة، ثارت عليه علامات استفهام عدة من جراء التدخل السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا. وننتقل الآن الى حدث ثالث، اقليمي وعربي هذه المرة، ألا وهو أحداث الشارع المصري في العام 1968 كرد فعل على هزيمة حرب الأيام الستة وتداعياتها، خصوصاً ما سمي حينذاك بأحكام الطيران، أي التي صدرت بحق قادة الطيران المصري كعقاب على تقصيرهم الذي تسبب بالهزيمة. ولكن التطورات المتلاحقة أثبتت ان الاحتجاج على أحكام الطيران لم يكن إلا مدخلاً لطرح لائحة شاملة من المطالب العريضة التي غطت مسائل سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية وخارجية. ونظراً الى الأجواء السائدة خلال تلك المرحلة في مصر، والتي اختفت فيها الفواصل بين حدود "الوطن" المصري و"الوطن" العربي الى حد كبير، فقد انصبت هذه المطالب التي بلورتها حركة 1968 في مصر على مجمل الساحة العربية، كما ركزت على مسألة المواجهة مع اسرائيل. ومع ان البعض وصف حركة الشباب والطلاب العام 1968 - التي انضمت اليها فئات شعبية أخرى في بعض مراحلها - ب "اليسارية"، ووصفها البعض الآخر بأنها انتقاد للتجربة الناصرية من داخل معسكر الثورة، واعتبرها البعض الثالث نتيجة لتأثير حركة الشباب العام 1968 في الغرب، فإن الثابت أن مكون الدعوة الى الحريات والديموقراطية كان أساسياً في حركة الشباب المصري العام 1968. وإذا كان تأثير ذلك على المدى القصير كان دفع القيادة المصرية الى تبني وطرح بيان 30 مارس آذار 1968 الذي وعد بتوسيع هامش الحريات والممارسات الديموقراطية المتاحة، فإن تجدد المظاهرات من جديد بعد ذلك كشف عدم اشباع ما احتواه بيان 30 مارس من وعود باطلاق الحريات والممارسات الديموقراطية. ونعتقد بأن المطالبة بالحرية والديموقراطية من جانب قطاعات من الشعب المصري العام 1968 مهدت لبدء عملية انفراج ديموقراطي - بطيئة ولكن متواصلة - منذ ذلك التاريخ، ليس في مصر فقط ولكن على محمل الساحة العربية. كما أن هذه الدعوة جسدت للمرة الأولى منذ الخمسينات وعياً من جانب قطاعات شعبية عربية بأن الثورية والاشتراكية من جهة أو الايديولوجيات التقليدية من جهة أخرى لا تكفي لا لانجاز مشروع بناء الدولة الحديثة داخلياً، ولا لبناء وحدة عربية قابلة للاستمرار والصمود، ولا لتحقيق انتصار على أعداء الأمة العربية، من دون استكمال البعد السياسي التحديثي عبر ادماج الحريات السياسية في مشروع النهضة. تعرضنا في هذا المقال الموجز لثلاثة أمثلة تظهر أهمية العام 1968 على المستويين العالمي والعربي، باعتبار هذه الأحداث شكلت نقاط تحول في حركة التاريخ المعاصر وكانت لها دلالات عميقة نراها حتى وقتنا الراهن، دونما انكار لأهمية أحداث أخرى في العام نفسه أو في أعوام أخرى. ولكننا رأينا عدم ترك فرصة اشراف العام 1998 على نهايته لالقاء الضوء من جديد على بعض أحداث العام 1968 التي مر عليها ثلاثون سنة. وأكد تتابع السنين استمرار - بل ربما تزايد - أهمية انعكاسات هذه الأحداث. * كاتب وباحث مصري