تتويجا لتوجيهات ولي العهد.. الدبلوماسية السعودية تنتصر لفلسطين    النهاري والغامدي يزفان محمد    خبيران اقتصاديان ل"الرياض": المناطق اللوجستية لسلاسل إمداد مواد البناء تدعم الطلب    الفياض: نستثمر في التكنولوجيا لمعالجة التحديات الصحية العالمية    ارتفاع أسعار المستهلكين في الصين و تعافي الطلب    عاصفة شمسية تضرب الأرض وتلون السماء    خبيرة أممية تدين قمع حرية التعبير في الولايات المتحدة    هطول أمطار مصحوبة برياح نشطة على معظم مناطق المملكة    مايكروسوفت تطلق متجراً لألعاب الهاتف    وزير النقل: لا نتدخل في أسعار التذاكر الدولية    ليندمان: رؤية 2030 حفّزت 60 بعثة أمريكية للعمل بالمملكة    حظر الأظافر والرموش الصناعية بالمطاعم ومتاجر الأغذية    أبل تطور النسخ الصوتي بالذكاء الاصطناعي    "الصحة" توضح الوقت المسموح للجلوس أمام الشاشات    نجاح علاج رضيعة صماء بالجينات    الصائغ يزف صهيب لعش الزوجية    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة يصل إلى الولايات المتحدة للمشاركة في آيسف 2024    مدير ناسا يزور السعودية لبحث التعاون الفضائي    اليابان تستعد لاستقبال ولي العهد    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ عبدالله بن سلمان بن خالد آل خليفة    شرطة الرياض: القبض على (5) أشخاص لمشاجرة جماعية بينهم    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة معالي الشيخ عبدالله بن سلمان بن خالد آل خليفة    جمعية الرواد الشبابية تنظم دورة "فن التصوير" في جازان    الهلال ينهي تحضيراته للحزم    العطاوي: سنكمل نجاحات غرفة الرياض التجارية ونواكب المرحلة وتطلعات القيادة    شرطة مكة تقبض على مصريين لنشرهما إعلانات حملات حج وهمية ومضللة    رومارينهو: الخسارة بهذه النتيجة شيء ⁠محزن .. و⁠⁠سعيد بالفترة التي قضيتها في الاتحاد    إيغالو يقود الوحدة بالفوز على الخليج في دوري روشن    ترقب لعودة جيمس مدافع تشيلسي للعب بعد خمسة أشهر من الغياب    إنترميلان يكرر إنجاز يوفنتوس التاريخي    موعد مباراة الإتحاد القادمة بعد الخسارة أمام الاتفاق    سورية: مقتل «داعشي» حاول تفجير نفسه في السويداء    وزير الشؤون الإسلامية يدشن المنصة الدعوية الرقمية في جازان    «سلمان للإغاثة» ينتزع 719 لغماً عبر مشروع "مسام" في اليمن خلال أسبوع    رئيس جمهورية المالديف يزور المسجد النبوي    وزير الشؤون الإسلامية يفتتح إدارة المساجد والدعوة والإرشاد بمحافظة فيفا    "كنوز السعودية" بوزارة الإعلام تفوز بجائزتي النخلة الذهبية في مهرجان أفلام السعودية    النفط يرتفع والذهب يزداد بريقاً    "العقار": 19 ألف عملية رقابة إلكترونية ب4 أشهُر    جامعة الملك سعود توعي باضطرابات التخاطب والبلع    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    أمطار رعدية على معظم المناطق    رسالة رونالدو بعد فوز النصر على الأخدود    الشاعرة الكواري: الذات الأنثوية المتمردة تحتاج إلى دعم وأنا وريثة الصحراء    مقرن بن عبدالعزيز يرعى حفل تخريج الدفعة السادسة لطلاب جامعة الأمير مقرن    جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة السادسة    رَحِيلُ البَدْرِ    مفوض الإفتاء في جازان يشيد بجهود جمعية غيث الصحية    «البعوض» الفتاك    أمانة الطائف تسجل لملّاك المباني بالطرق المستهدفة لإصدار شهادة "امتثال"    رئيس جامعة جازان المكلف ⁧يستقبل مدير عام الإفتاء بالمنطقة    أمير منطقة جازان يلتقي عدداً من ملاك الإبل من مختلف مناطق المملكة ويطّلع على الجهود المبذولة للتعريف بالإبل    أسماء القصيّر.. رحلة من التميز في العلاج النفسي    دلعيه عشان يدلعك !    رسالة من أستاذي الشريف فؤاد عنقاوي    تدشين مشروعات تنموية بالمجمعة    المملكة تدين الاعتداء السافر من قبل مستوطنين إسرائيليين على مقر وكالة (الأونروا) في القدس المحتلة    القيادة تعزي رئيس البرازيل إثر الفيضانات وما نتج عنها من وفيات وإصابات ومفقودين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زهير عسيران يتذكر "المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب". لبنان وبيع اراض لليهود 6
نشر في الحياة يوم 23 - 11 - 1998

كانت اسرائيل لا تزال مشروع عصابات في فلسطين ووكالة صهيونية تحاول شراء ما تستطيع من أراض يملكها أهل فلسطين أو عرب يملكون أرضا في فلسطين. كان الوضع كذلك عام 1946 عندما جاء صديقي وأخي علي بزي من الجنوب وأبلغني ان هناك من يبيع أرضا لليهود ولا بد من الوقوف في وجه حركة البيع قبل ان يستفحل الأمر وتنتشر العدوى، فلا يبقى للبنانيين وأهل فلسطين أرض في فلسطين. وسألت صديقي: "أمتأكد أنت من صحة المعلومات؟ "فقال: "ان الشركة التي تقوم بالشراء مركزها حيفا واسمها "شركة إسرائيل ليمتد"... والشخص الذي باع أراضيه هو شخصية جنوبية معروفة وقد اتصل مندوب الشركة بنا أنا وأقاربي من بنت جبيل عارضاً علينا شراء ما نملك بأسعار يسيل لها اللعاب، فرفضنا طبعا والمهم الآن ان تثار القضية أمام الرأي العام لوقف حركة البيع والشراء". فاستشرت أحد أصدقائي المحامين في طريقة الحصول على سند البيع الذي تم بين الشركة اليهودية ولبناني صاحب نفوذ وارض واسعة على حدود فلسطين". فقال: "تذهب الى حيفا وتحصل على نسخة من عقد البيع من الكاتب العدل الذي اجرى العقد". فسافرت وسعيت لدى الكاتب العدل فقال: "المحامي فقط أو اي شخص له علاقة بالموضوع يستطيع الحصول على نسخة من العقد". فقلت: "أنا صاحب علاقة مباشرة، فبيننا قضية مالية ونحن في دعوى أمام القضاء ويهمني الحصول على دليل انه باع أرضا وقبض مالاً كي استوفي الدين. وأتعابك محفوظة، طبعاً، في مقابل تسهيل مهمتي، إذ بين بيروت وحيفا مسافة لا بأس بها وهناك أعمال تتأثر، أنت أدرى بها". ومن حسن الحظ ان الكاتب العدل كان يفهم جيداً في اللغة المتعارف عليها بين موظفي الدوائر والمواطنين، فحسم الأمر وعدت من حيفا ظافراً بنسخة عن عقد البيع أخذت طريقها الى الزينكوغراف ثم الى الجريدة للنشر.
"الهدف" تفضح بيع المنارة لليهود
نشرت جريدة "الهدف" الوثيقة الخطيرة بالزينكوغراف عن بيع اراض لليهود يملكها زعيم جنوبي اصبح في ذمة الله. فقد باع ذلك الزعيم قسماً من املاكه في المنارة على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية لشركة عقارية يهودية. وظلت الجريدة على الآلة الطابعة ساعات عدة لسد حاجة السوق، اذ ان مطابع تلك الايام لم تكن طاقتها تتجاوز الالفي نسخة في الساعة وليست كمطابع هذه الايام عشرات الالوف في الساعة.
رحم الله محمد عمر منيمنة ابو عصام ومطبعته المجاورة للبركة في سوق اياس والتي كانت الزميلة "النهار "تخرج منها ايضا، قبل ان يتولاها الزميل غسان ويهاجر بها الى شارع الحمراء حيث هي الآن في ثوبها التقني المتطور. وبعد اسبوع من نشر وثيقة بيع المنارة جاءت ذكرى وعد بلفور المشؤوم، اي ذكرى التظاهرات في كل سنة احتجاجا على ذلك الوعد. وبوصول التظاهرات امام البرلمان في ساحة النجمة، وقفت على درج البرلمان خطيبا وهاجمت وعد بلفور والذين يبيعون املاكا لليهود. وعدت الى المطبعة لارسال برقية الى جريدة "المصري" في القاهرة عن إحياء تلك الذكرى البشعة في لبنان، فاذا بصاحب المطبعة ابو عصام يلفتني الى ان في الشارع، امام المطبعة، نفراً من الشباب ملثمين يحملون هراوات وعيونهم على الداخل، فلم افاجأ لانني كنت اتوقع ردة فعل على نشر فضيحة المنارة، ونهضت واذا بي امام رجل يدخل والهراوة في يده بينما الآخرون ينتظرون خارجا، فأسرعت الى مسدسي وأطلقت النار في الهواء فلاذوا بالفرار الا الذي اصبح داخل المطبعة فهرع العمال وقبضوا عليه، وكان نصيبه ضربا بعصا يحملها واحتجازه داخل المطبعة ريثما تم الاتصال بوزير الداخلية يوسف سالم. فهرعت قوة من رجال الامن للتحقيق في الحادث كما وصل النائب العام آصف رعد الذي قال مازحا: "انت الآن هو المدعى عليه ... فانت من اطلق النار، والذين هربوا لم يتمكنوا من الاعتداء وهذا المحتجز في المطبعة هو المضروب ايضا ومن حقه ان يدعي اذا شاء". قلت: "لكن هناك محاولة للاعتداء علي وهناك شهود، فهل تنتظرون ان يقع الاعتداء علي وربما الموت كي يصح الادعاء؟" فقهقه ضاحكا وأمر رجال الامن بتسلم "المحجوز" واحاله على القضاء. وفي اليوم التالي صدرت الصحف وعالجت حادث الاعتداء بغضب لأن الاعتداءات على الصحافيين بلغت مداها. وبعدها استدعاني رئيس الجمهورية الى القصر وقال مستنكراً: "ان القانون سيقطع الايدي التي تمتد الى رجال الصحافة". قال هذا مجاملة وتبريدا للاجواء ... فكلانا كان يعرف ان معركة المنارة اخذت ابعادا سياسية ومحلية وكان هناك سياسيون على علاقة وثيقة بالفاعل الاصلي فأمنوا الغطاء اللازم للمعتدين.
وأنشر في ما يلي نص الكتاب الذي تلقاه الاخ علي بزي من لجنة اعانة شركة صندوق الآمة لشراء الاراضي العربية:
حضرة الوجيه علي بزي المحترم
تحية واحترام أما بعد،
تشرفت باستلام تحريركم الكريم المؤرخ 28/أيلول/1944، وقد استلمته بالأمس وحسب اشارتكم سأرسل لجنابكم جواب عطوفة الباشا حال وصوله الينا، ومن المنتظر ان يصل غدا القرار مصدقا من عطوفة الباشا حلمي باشا.
لقد حضر مساء اليوم مختار ووجهاء قرية المالكية وقد أبدوا رغبتهم الأكيدة بشراء حصة السيد محمد علي بزي ووعدوا بتدبير قسم كبير من المبلغ خلال الاسبوع الحالي ووعدوا أيضا باحضار هذا المبلغ ودفعه للبنك يوم السبت القادم الواقع 7/10/1944. لهذا نأمل تشريفكم مع وجهاء القرية المذكورين يوم السبت القادم كي ننهي المسألة، كما وأننا مستعدون لاتمام هذا الامر بحسب اتفاقنا السابق وبموافقة عطوفة الباشا.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
أمين السر
صحافية بلجيكية
في شهر ايار مايو عام 1947 كانت المعارك على أشدها في فلسطين بين العرب واليهود، فوردتني برقية من جريدة "المصري "بالانتقال فورا الى القدس للاطلاع على الوضع ميدانيا، لتزويدها أنباء المعارك هناك. فذهبت الى دمشق برفقة الصديق تقي الدين الصلح الذي كان يومها مستشارا لجامعة الدول العربية ومكلفا ايضا لمهمة خاصة لدى عاهل الاردن المغفور له الملك عبدالله. بتنا ليلتنا في فندق "اوريان بالاس" في دمشق، وتشاء المصادفة ان نتعرف الى صحافية بلجيكية اسمها دومينيك دوفيسبان تمثل جريدة "لا بلجيك" في بروكسيل وتوقع مقالاتها بامضاء مستعار "جورج ماغلوار"، وفي الوقت نفسه تراسل جريدة "لوموند"الباريسية. كانت واسطة التعارف شخصية لبنانية اصبحت في دار الحق وقد روت لنا الزميلة الشقراء قصتها مع رفيق دربها على دمشق - عمان. قالت وفي عينيها الزرقاوين نداء القلق واليأس: "... أنا هنا غريبة الدار لا اعرف كيف اصل الى القدس، فقد كان اعتمادي على رفيق الامس الذي قدمني اليكما الذي تعرفت اليه في بيروت ورافقني الى هنا على أمل تسهيل مهمتي ومرافقتي في سفري لكنه غادر الفندق وتركني وحيدة ولا اعرف كيف أتصرف". قالت كلماتها في ألم وارتباك ثم لاذت بالصمت، ولما طلبنا مزيداً من الايضاح لمعرفة سبب موقف رفيقها الهارب قالت: "لقد تودد الي وراودني على أمر لست مستعدة لتقديمه اليه ولا لغيره فغضب وتوارى!...".
فأدركنا تقي الدين وأنا سر اختفاء رفيقها ووددنا لو نصحح لها الصورة فقلت لها: "هوّني عليك يا آنستي، ففي الدنيا الطيب والخبيث ونحن الآن في طريقنا الى القدس في مثل مهمتك والسيارة تنتظر عند باب الفندق ان شئت المرافقة". فبدا لنا انها مترددة وهذا طبيعي بعد ما مرت بتجربة مؤلمة، فودعناها واتجهنا نحو السيارة فاذا بها تستوقفنا وتقتلع خطواتها اقتلاعا نحو السيارة لترافقنا كأنها في خوف من مجهول ينتظرها.
في الطريق الى عمان تم التعارف بيننا على نحو أفضل، فبدا على وجهها الارتياح وسرها ان تكون برفقة مستشار للجامعة العربية وصحافي زميل لها يسعى سعيها وراء الاحداث وتغطية الاخبار، وفي الوقت نفسه الاطلاع على كيفية توزيع الهبة التي تبرعت بها حكومة بلجيكا الى العرب المنكوبين.
ودار الحديث على امور عديدة، وعلى فلسطين وثورتها ونكبتها. فهدأت اعصابها وارتاحت، لا سيما للرفيق المستشار والى انها في رفقة وقورة شبه رسمية وفي "حصانة "جامعة الدول العربية.
بالنسبة الي لم يكف ان ترتاح هي وابقى انا جاهلا "حقيقة مهمتها وأمر خلافها مع رفيقها الهارب، فقلت لها: "حبذا لو حدثتنا حديث الرجل الذي انهى مهمته في دمشق وتوارى ولم يكمل معروفه معك اذ لا بد ان يكون هناك سبب يهمني معرفته". قالت: "حسنا، اليك قصتي: لقد بالغت على ما يبدو في شكري للرجل وملاطفته، وهذا طبيعي في مقابل اهتمامه بي وتحمّل مشقات السفر من اجلي، الامر الذي شجعه على التمادي في ملاطفة شعرت انها زادت عن اللزوم. اي غير بريئة. تجاهلت الامر اولاً لكنه مضى يلاطفني ويزداد لطفاً حتى اجتاز الحدود. وهددني بترك الفندق والعودة الى بيروت، اذا لم استجب رغبته. وكان علي ان اقرر في لحظات كيف اتصرف فوقفت وشكرته على مرافقتي الى دمشق وتركته عائدة الى غرفتي". ومضت زميلتنا تقول: "لهذا السبب رأيتماني حائرة مترددة عندما عرضتما علي السفر معكما مخافة ان اقع في ورطة اخرى، وبصراحة اكثر اقول: خرجت من قصة فندق دمشق بانطباع سيئ عن بلدكم بل عن العرب اجمعين. هذا كان انطباعي وارجو المعذرة ان كنت مخطئة". وأجبتها: طبعا لعلك مخطئة ايتها الزميلة عندما تحكمين على شعب من خلال فرد لا بد ان يكون عندكم الكثير الكثير من امثاله. نحن نعرف بلادكم واوروبا عامة. والفارق هو ان الرجل الذي ازعجك يفتقر الى المعرفة والاسلوب في التعامل مع السيدات ولا شيء غير ذلك. وافقت على كلامي واعتذرت بكثير من الحياء، وتابعنا طريقنا في جو من التفهم والتفاهم حتى فندق "فيلادلفيا" في عمان، حيث توجه تقي الدين لمقابلة المسؤولين في المهمة التي جاء من اجلها، فيما نحن حاولنا متابعة طريقنا الى القدس بعد ما سهلنا لها الحصول على اذن خاص يخول الاجنبي اختراق منطقة القدس العسكرية. واذكر هنا انه عندما هممنا بمغادرة الفندق اقترب مني صاحبه ابراهيم نزال ونصحني بقوله: "كيف تسافر الى القدس مع هذه السيدة؟ انك قد تعرضها وتعرض نفسك للخطر؟" قلت: "زدني ايضاحاً". قال: "ان رفيقتك شقراء اللون وتوحي انها اجنبية وقد يحسبها المقاومون العرب يهودية جاءت تتجسس فتقع الكارثة. وقد سمعنا بحوادث كثيرة من هذا النوع ذهب ضحيتها ابرياء".
قلت للسيد نزال صاحب الفندق: اسمع جيدا هذه الشقراء صاحبة العينين الزرقاوين صحافية بلجيكية، اي مسيحية جاءت خصيصا الى القدس بمهمة صحافية للاطلاع ميدانيا على ما يجري فيها لتبعث به الى صحف بلجيكية وفرنسية. فيكف اتركها هنا وقد وعدتها بتأمين وصولها الى القدس؟ لن اخلف بوعدي لها مهما تكن النتائج كيلا تأخذ صورة اخرى بشعة عنا نحن العرب، وفي الامكان ان نستفيد منها اذا نحن ساعدناها وسهلنا مهمتها.
وفكر صاحب الفندق قليلاً ثم اشار علي بأن تضع على رأسها غطاء "إشارب" وتعلق صليباً بارزاً في صدرها، "ومع ذلك تقدمون على مغامرة كان الله معكم".
اقتنعت بالنصيحة فاستأذنت الزميلة لنصف ساعة وقصدت السوق وعدت منه بالاشارب والصليب وفي الفندق قصصت عليها القصة النصيحة فشهقت وجمدت في مكانها لا تصدق ما تسمع وترى. شكرتني طبعاً ونحن في الطريق الى القدس وتساءلت: "تحدث مع الانسان احيانا اشياء لا يفهمها. من هذه الاشياء مثلا ان شابا مسلما يشتري بنفسه صليبا لسيدة مسيحية ثم كيف تصر على مرافقتي وانا اشكل خطرا؟ سامح الله من تسبب في الانطباع الاول عنكم "رفيق دمشق" واعترف الآن بأني تسرعت واخطأت وها انا اعتذر مرة اخرى". وسألتها: "كيف عرفت انتمائي الديني وانا مثلك في اللون تقريبا وفي التركيب البشري"؟ قالت: "ألست عربيا؟ اذن، انت مسلم". قلت: "في هذا المشرق يا زميلتي كثير من العرب المسيحيين وبعضهم انقى عرقا واشد عروبة من المسلمين وسترين في القدس بوصولنا اليها عربا نصارى يقاتلون مع اخوانهم من العرب المسلمين. فالعرب يا زميلتي وجدوا في هذه الارض قبل موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وعاشوا معا قرونا من الزمن في خير حال الى ان جاءهم الاستعمار من الغرب كما تعلمين ففرقوا ليسودوا وحركوا الطائفية والمذهبية لمصلحتهم، وها نحن نحصد الآن ما زرعوا والحرب الدائرة في فلسطين الآن هم مسببوها.
حبذا لو تقرأين تاريخ العرب، وبعض كتب المنصفين من المؤرخين الاجانب لتأخذي صورة اوضح عن العرب. ثم سترين بعد دقائق ماذا يجري في فلسطين بسبب وعد "بلفور" للعرب واليهود معاً.
وسترين المآذن والكنائس بعد لحظات تتعانق في سماء القدس منذ اكثر من الف سنة فجاء الاستعمار الغربي يدمّر كل ما هو قائم ليقيم دولة ليهود العالم بأسره على انقاض العرب بحضارتهم الاسلامية المسيحية المشتركة".
كانت زميلتي تسمع وتصغي الى قولي كأنها انسان آخر.
وكانت السيارة تقترب من الباب الشرقي للقدس فترجلنا واقترب منا رجال المقاومة وكدنا نواجه المتاعب لولا ان رأوا "الصليب البارز" على صدر الزميلة ولولا انهم عرفوا اني صحافي وصاحب جريدة تدافع عن قضية فلسطين واراسل جريدة مصرية كبرى معروفة هي "المصري".
سمحوا لنا بدخول القدس وحذّرونا من التعرض لمكمن قد يطلق منه النار علينا قبل ان يعرفوا من نحن. وتقدمنا سالكين الشوارع الجانبية الضيقة بصعوبة وحذر شديدين. وبوصولنا الى كنيسة القيامة توقفت الزميلة وراعها ما شاهدت من دمار وخراب وركعت امام صورة السيد المسيح ركوع المتعبد في مصلاه ثم نهضت واستدارت نحوي والدموع في عينيها.
التقينا احد رجال الدين واثناء تجوالنا في باحة احدى الكنائس، واعتقد اذا لم تخني الذاكرة، انه الاب عياد. فقدمتها اليه حيث اطلعها على اشياء اضافية لا تعرفها عن همجية اليهود واعتداءاتهم على الاماكن المقدسة مسيحية واسلامية، وتمكنت من التقاط صور رغم ان التصوير ممنوع. بعدها تابعنا تجوالنا في بعض شوارع القدس وتعرضنا لطلقات الرصاص من المكامن، الى ان وصلنا الى القيادة العربية وكان الجيش الاردني هوالذي يتولى القيادة في القدس بعدما بدأ الانكليز الانسحاب من اكثر الاماكن من فلسطين. وقابلنا القائد عبدالله التل واستحصلت منه على أول حديث ارسل الى الخارج. وفي المساء عندما اردنا العودة الى عمان منعنا ونصحنا القائد التل بأن لا نغادر القدس في الليل لأن الطريق غير آمنة اطلاقا، لكننا اصررنا على الذهاب الى عمان لا سيما والصحافية لا تستطيع البقاء في القدس لان حوائجها في عمان أولا وتخشى القصف الذي يحصل في القدس في الليل ولما الححت على القائد التل تسهيل مهمتنا قال: "لا استطيع من هنا ان افعل شيئا". فاتصلت بعمان بالاخ تقي الدين الصلح الذي استطاع ان يستحصل على أمر من السلطات العسكرية لترافقنا احدى سياراتها وقد كان، ووصلنا الى عمان وآيات الشكر بادية على محياها وفي كل حركة من حركاتها.
وبعد ما أنهت مهمتها في فلسطين حتى عدنا معا الى بيروت لتسافر منها الى بلادها. لبثت هنا بضعة أيام تسنى لها خلالها اجراء مقابلات مع بعض الشخصيات، وزارت القصر الجمهوري فاستقبلها الشيخ بشارة الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح ووزير الخارجية حميد فرنجية، ويوم قررت المغادرة ودعتني في المساء "لاني مسافرة غداً باكراً فلا تتجسم عناء الانتقال الى المطار في هذا الوقت المبكر، واني شاكرة لك ما اسديت الي من خدمات في بلادكم الجميلة". وفي السابعة صباحاً رن الهاتف في منزلي واذا بصوتها يرتجف وتقول لي: "زهير أنا في المطار وقد منعت من السفر والطائرة على أهبة الإقلاع" قلت لها: "دعيني أتكلم مع المسؤول"، فرد علي وتكلمت وكنت على علاقة حسنة مع أمن المطار فسألته عن أسباب المنع فقال لي: "الامر من المديرية العامة، ولا نستطيع هنا ان نفعل شيئاً والتهمة انها جاسوسة". فاتصلت برياض بك واطلعته على أمر المنع من السفر، فبادر فوراً الى إصدار الأمر لمن يلزم بأن يسمح لها بالسفر لأنها بعكس الوشاية محبة للعرب ونصيرة لقضيتهم العادلة، وقد علمت بعد سفرها ان وراء الوشاية صاحبنا اللبناني بطل واقعة دمشق الذي رفضت السفر معه لسوء سلوكه معها، وذلك بواسطة نسيب له يعمل في الأمن العام.
سكرتيرة لمكتب فلسطين
وفي تشرين الاول اكتوبر عام 1948 قررت جامعة الدول العربية افتتاح مكتب لها في باريس في مناسبة انعقاد هيئة الامم فيها. ووقع الاختيار على الاستاذ شارل حلو لتولي شؤون هذا المكتب يعاونه شباب من لبنان وسورية ومصر ممن يتقنون اللغات الاجنبية. ووقع اختيار رياض الصلح على صديقتنا الصحافية البلجيكية لكي تتولى سكريتارية المكتب. فأبرقت اليها برغبة رياض بك وجاء الجواب بالموافقة. وقد سافرت الى باريس لملاحقة اخبار هيئة الامم بتكليف من جريدة "المصري" ووصلت ولم تكن هي قد حضرت لتسلم عملها وبحثت انا عن فندق انزل فيه في باريس فلم اجد مكاناً في مختلف الفنادق والدرجات لان كثرة الوفود القادمة اليها لحضور جمعية الامم المتحدة احتلت جميع الفنادق، ولسبب آخر هو ان فرنسا كانت خارجة من حرب طاحنة.
فاستأجرت شقة في الضواحي من غرفتين وتوابعهما. وكانت الزميلة قد طلبت مني تأمين غرفة لها في أحد الفنادق وحددت لي موعد وصولها الى باريس، فلم أجد لها غرفة بالطبع. وعند وصولها اخبرتها بأزمة الفنادق وعرضت عليها البحث من جديد على غير طائل، فقلت لها: "لقد استأجرت شقة في الضواحي من غرفتين لك احداهما اذا شئت وليس لدينا حل آخر الآن"، فقبلت وهكذا كان. لقد دام مكوثنا في باريس زهاء ثلاثة أشهر اظهرت خلالها نشاطا منقطع النظير وكان الاستاذ شارل حلو من المعجبين بها، وعندما زارت لبنان في عهده الرئاسي اقيمت لها حفلة تكريمية وقلدها وساما تقديرا لخدماتها لقضايا لبنان والعرب.
لقد قضينا مدة في باريس نعمل كل في مجاله، واحيانا نتناول الطعام معا منفردين او مجتمعين الى مائدة الوفد اللبناني، وفي احيان اخرى كانت تلبي بعض الدعوات من الصحافيين الاجانب او من مندوبي هيئة الامم. وفي احدى الامسيات تأخرت - على غير عادتها - في العودة الى شقتنا المشتركة فسألتها لماذا تأخرت؟ وأين؟ ومع من كانت؟ فشعرت ان الغيرة هي التي تتكلم فقالت: "اسمع يا صديقي، أنا اعلم انك اصبحت محرجاً امام الناس وامامي ايضا. واعرف اننا من جنس البشر لا الملائكة. واراني مضطرة الآن الى البوح لك بسر احتفظ به لنفسي منذ وقت طويل". واصغيت اليها بكل جوارحي وقلت لها: "تكلمي اريد ان اعرف كل شيء عنك ولست ادري لماذا؟". قالت: "أنا ادري لماذا، لقد قلت لك ان في نفسي ما في نفسك. وان الملائكة جعلها الله في مكان آخر من هذا الوجود اللامفهوم، واليك قصتي فترتاح وارتاح معك: ذات عام كنت اقوم بمهمة في الصين فتعرفت الى رجل نشأ بيني وبينه وضع شبيه بوضعنا الآن. وقد عرض ذلك الرجل الزواج مني لحل مشكلة نحن فيها الآن فوافقت وارتكبت الخطيئة. بعد ذلك مضى هو في سبيله واختفى من الوجود فندمت على زلتي فنذرت عفتي للعذراء وعاهدتها. لا اقرب الرجال الى الأبد وما زلت احافظ على نذري وعلى عهدي للعذراء".
وأعترف بأنني صدمت ولكن وجدتني في موقع الاحترام والتقدير لها، وعلمت لماذا كانت تتهرب مني اثناء الليل وفي المواقف الحرجة.
بعد انتهاء اقامتنا في باريس عاد كل منا الى بلده وعمله وقد تركت هي وراءها أحسن الاثر في مكتب فلسطين بسبب اتصالاتها الناجحة مع الوفود الاجنبية ورسائلها وتقاريرها الى جريدتها "لا بلجيك"، وقد اثارت دوياً هائلاً في اوروبا والعالم الذي قرأ تقاريرها واطلع على الظلم في فلسطين حيث ان اليهود الذين تجمعوا على ارضها من انحاء العالم ذبحوا الفلسطينيين واخرجوهم من ديارهم وشتتوهم في الارض.
الهدنة وحصار الفالوجة
انعقدت جمعية الأمم في باريس عام 1948 للنظر في قضية فلسطين بعدما قررت الحكومة البريطانية الجلاء عنها في 15 أيار من ذلك العام وتركتها للعرب واليهود يتصارعون عليها وفق خطة خبيثة متفق عليها بين الصهاينة وحكومة الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في تلك الأيام ... انتقلت الى باريس بطلب من جريدة "المصري "لحضور جلسة هيئة الأمم وتغطية مناقشاتها في قضية فلسطين بعد اعلان هدنة موقتة وفرقة من الجيش المصري محاصرة في الفالوجة بينها الضابط اركان حرب جمال عبدالناصر الذي كان برتبة "بكباشي" يومئذ قبل تعريب الرتب العسكرية، وكان الخوف شديدا على مصير الجنود المصريين. اجتمع الوفد المصري في السفارة المصرية في باريس، وكان يوم أحد على ما أذكر، برئاسة احمد خشبة باشا وزير الخارجية. وكان الموضوع المطروح للمناقشة حصار الفالوجة بعد اعلان الهدنة والموقف الذي ينبغي اتخاذه لفك ذلك الحصار. فانقسم الرأي بين قائل بخرق الهدنة لفك الحصار عسكريا، وقائل بوسائل أخرى منها التفاوض تجنباً لمتاعب قد تنشأ باعتبار أن قناة السويس ما زالت محتلة وطريق الامدادات خاضعة لاشراف الجيش البريطاني. وقد دام اجتماع الوفد المصري في السفارة حتى ساعة متقدمة من الليل من دون ان يتسرب منه أي نبأ الى الخارج. وعبثاً حاول محمود ابو الفتح صاحب جريدة "المصري" الاتصال بوزير الخارجية المصري الذي كان صديقه فكان يتهرب. وارفض الاجتماع من دون أن نعرف ماذا تقرر فيه. فقال لي ابو الفتح: "لا بد من معرفة نتائج الاجتماع بأي وسيلة ممكنة اجداها التوصل الى أحد أعضاء الوفد ابراهيم البغدادي بالذات فهو دينامو الاجتماع". فقلت: "أنا اعرف الاماكن المحتمل وجود أمثاله فيها ليلا لكني لا أعرفه شخصيا وحبذا لو تصفه. فجاءت الأوصاف كالتالي: "طويل القائمة، اسمر اللون، الشاربان دوغلاس، حاجبان كثيفان الخ ...".
ثم زاد قائلاً: "واليك سيارتي فهي في تصرفك حتى تعود". فانطلقت أولا نحو فندق "ريتز "مقر اقامة الوفد المصري فلم أجد أحدا من الأعضاء، فرحت أطوف شوارع باريس والأماكن التي يتردد اليها العرب عادة. وتوقفت أخيرا أمام مقهى في الشانزيليزيه فاذا بي أرى رجلين لفتني فيهما الشكل الشرقي أولا وأحدهما تنطبق عليه أوصاف البغدادي الى حد كبير. وفيما كنت أتقدم نحوهما تحركا نحو الشارع فتبعتهما حتى دخل أحدهما نفق المترو والثاني، لحسن الحظ، يعود أدراجه فاستوقفته قبل أن يفلت ومددت يدي مصافحاً وسألته: "ألست البغدادي؟" فذعر فظن ان أحدا يتعقبه. فقلت له كي أطمئنه: أنا فلان مندوب جريدة "المصري". فأجاب بوجه عبوس: "أجل، اي خدمة افندم؟". قلت: "اعتذر أولاً عن هذا الازعاج، فأنت تعرف ان باريس تخرج في مثل هذا اليوم الأحد الى التنزة والراحة وأنا أطوف الدنيا باحثا عنك في كل مكان، لذلك لن تفلت مني قبل أن أعرف ما توصلتم اليه في اجتماع السفارة لجهة حصار الفالوجة". قال، وقد أعجبته صراحتي: "لقد صدر بيان عن الاجتماع وليس لدي الآن نسخة عنه والسفارة مقفلة كما تعلم فالى الغد إن شاء الله". فقلت له بصوت يرتجف وتضرعت اليه: "أنا على عجلة من أمري، وأمامي ساعات معدودة وصاحب "المصري "ينتظرني أرجوك ان تقدر ظروفي ولن أتركك مهما حاولت". فأعجب بجرأتي، كما لاحظت، فأعطاني بعض المعلومات التي يتذكرها طالباً مني التعتيم على هذا اللقاء. فشكرت الرجل وعدت الى حيث ينتظرني محمود ابو الفتح الذي رآني والفرح مرسوم على وجهي فهب وعانقني وقال: "عجل وهات ما لديك". فرويت حكايتي مع البغدادي. وتوجهنا معاً نحو مركز الهاتف ونقلنا الى "المصري" في القاهرة المعلومات التي حصلت عليها، فنشرت في الصباح قبل ان تصل الى الدوائر الرسمية في القاهرة. وسجلت "المصري" بذلك سبقاً صحافياً تناقلته عنها صحف العالم والاذاعات. اما صاحب "المصري" فقد تناول محفظته العامرة وناولني ما تيسّر ويليق طبعا بليالي باريس التي لا تنام. اما هو فقال: "الى الغد يا زهير، فأنا ذاهب الى سريري لأنام وأنا مرتاح البال".
* يصدر كتاب "زهير عسيران يتذكر، المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب" عن دار النهار للنشر في بيروت الشهر المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.