رؤية هلال شهر شوال لهذا العام أثارت جدلاً واسعاً، وانتقادات ليست باليسيرة لجمعية الفلكيين التي أكدت استحالة رؤية الهلال، فنقضت هذه الاستحالة أعين المترائين في سدير وعلى رأسهم الرائي عبدالله بن محمد الخضيري، وحنق كثير ممن يحملون ثقافة اللحظة الأخيرة على الفلكيين الذين أسهموا في اضطراب جداولهم وتأخر تجهيزاتهم ليوم العيد وكما هي عادتهم امتلئوا في الأسواق والشوارع للاستعداد للعيد. لكن سيناريو يوم العيد لم يستمر من دون مفاجأة، فلقد جاءت الحبكة بتصريحات الجمعية الفلكية بجدة: «ما شوهد مساء الإثنين الماضي كوكب زحل، وليس هلال شوال .. والأمر يذكّرنا بما حدث قبل سنوات». وطار بخبر الجمعية الفلكية البرود كاست ورسائل الجوال والبريد الإلكتروني وكثر الهرج، وصار حديث الناس في وسائل الإعلام والمجالس، ما يجعل المتابع لما حدث يقف على أكبر من اتهامات تتبادلها الأطراف المعنية وغير المعنية، بل تعكس غياب النَفَس الفقهي في أمورنا الحياتية، ولنبدأ باستعراض ذلك واحداً تلو الآخر:- موقف الجمعية الفلكية بجدة، إذ ليس من الحكمة إثارة البلبة وتشكيك الناس في عبادتهم من خلال التصريحات والإعلانات، وكان المنتظر من جمعية بهذا الثقل، لا سيما مع وجود خلاف بين الفلكيين أنفسهم في إمكان رؤية الهلال من عدمها مع ثبوت رؤيته في بعض مناطق العالم، أن ترفع وجهة نظرها إلى أهل الحل والعقد والاختصاص من غير شوشرة وإثارة. - نقاشات الناس حول الحدث تعكس تأخرنا الكبير في التأصيل لكثير من القضايا المعاصرة، ونشر هذه الثقافة الفقهية كجزء أساسي للقضاء على الخلاف، وهل رؤية الهلال بالعين المجردة تعبدية أم وسيلة؟ وما معنى «صوموا لرؤيته» هل هي الرؤية العلمية أم البصرية؟ وهل يمكن الاستغناء بالحسابات الفلكية لتحديد حلول الشهر القمري، أم نكتفي بالاستعانة بها؟ وهو خلاف فقهي قديم بين أتباع المذاهب الفقهية، فلم نتأخر في مناقشة قضايانا المعاصرة في عصرنا الحاضر الذي نعيشه، وتطور فيه علم الفلك وأدواته، ولم يعد الفلكيين القدماء الذين يعرفون بالمنجمين كالفلكيين المعاصرين، على أن يتشارك في مثل هذه المناقشات علماء الشريعة مع علماء الفلك، لنخرج بصورة أكثر شمولية وأعمق طرحاً، ورب ضارة نافعة، فهل من جهة علمية تتبنى هذا المقترح على ألا تكون نقاشاته حبيسة القاعات وتوصياته حبيسة الأدراج؟ - يستغرب المتابع لمثل هذه القضايا تغييب بعض التوصيات من جهات معتمدة مضت عليها سنون طوال، وأين تنفيذ توصيات مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية والعشرين المنعقدة بمدينة الطائف، في شهر ذي القعدة عام 1403ه حول «موضوع إنشاء مراصد فلكية يستعان بها عند تحري رؤية الهلال»، واتفاق رأي أعضاء المجلس على نقاط ست، منها: - يحسن إنشاء مراصد متكاملة الأجهزة للاستفادة منها في جهات المملكة الأربع، تعيّن مواقعها وتكاليفها بواسطة المختصين في هذا المجال. - تعميم مراصد متنقلة لتحري رؤية الهلال في الأماكن التي تكون مظنة رؤية الهلال، مع الاستعانة بالأشخاص المشهورين بحدة البصر، وبخاصة الذين سبق لهم رؤية الهلال. ويؤكد هذه التوصية القديمة توصية جمعية الفلكيين الحديثة التي لابد أن تُبرز وتتبنى، إذ تدعو إلى تشكيل لجنة مكونة من فلكيين مزودين بالتلسكوبات والمناظير وكاميرات التصوير للمشاركة في رصد أهلة رمضان وذي الحجة بالتعاون مع المترائين التقليديين من منطقة سدير وشقراء، بحيث يكون الرصد سنوياً، وبحضور الجمهور ووسائل الإعلام، وبخاصة عندما تكون رؤية الهلال غير ممكنة، لأن ذلك سوف يحسن نتائج رؤية تحري الأهلة كثيراً مما هو قائم الآن، ويجعلها أكثر منهجية وموثوقية. كما اقترحت الجمعية إقامة مرصدين صغيرين (دائمين) في سدير وشقراء، يتكون كل منهما من قبة فلكية ومركز تحكم له، فهل ستكون هذه التوصيات ماض يُذكر، أم حاضر قائم يستفاد منه. * داعية، وأكاديمية سعودية. [email protected]