تحت وطأة المطرقة، وبين شرر النار وبرودة المعدن، تولد قطع فنية لا تُقاس بقيمتها المادية فقط، بل بما تحمله من روح وإبداع وإرث. إن حرفة المشغولات المعدنية التي ارتبطت تاريخياً بالصناعة اليومية في حياة الإنسان العربي تكشف اليوم عن وجهٍ آخر، أضاف لثمنها النقدي قيمة فنية. ففي عمق الأسواق القديمة، وبين أصوات الطرق المتناغمة على النحاس والفضة والحديد، كانت تُصنع أدواتٌ يستخدمها الناس في بيوتهم وخيولهم ومساجدهم، ولكن لم تكن تلك الأدوات مجرد أشياء نافعة، بل كانت منحوتاتٍ دقيقةً تروي الكثير من الحكايات، فالسيوف والخناجر كانت تُزيَّن بزخارف متشابكة تحمل رموزًا ثقافية، والدِلال النحاسية لم تُصنع لتقديم القهوة فحسب، بل أصبحت تُعرض بفخر في المجالس كعلامة على كرم الضيافة والاحتفاء بالضيف. واليوم، يعود هذا الفن العريق إلى الواجهة، لكن في قالبٍ معاصر، فالكثير من الفنانين السعوديين بدؤوا يستلهمون من حرفة المشغولات المعدنية لتقديم أعمال فنية تجمع بين الأصالة والحداثة، فبعضهم يستخدم القطع القديمة كخامات لمجسمات معاصرة، وآخرون يُبدعون نقوشاً تجريدية على الصفائح المعدنية، تعبّر عن الهوية المحلية بقوالب عالمية. وقد برزت العديد من أعمال فنانين وفنانات سعوديين خلال مشاركتهم في معارض وفعاليات ومهرجانات نُظّمت ضمن عام الحرف اليدوية 2025، من خلال دمجهم لخامات محلية كمنسوجات السدو مع القطع والمشغولات المعدنية، ليربطوا المنتجات الصحراوية بألواح النحاس المُعالَجة مبدعين تحفة فنية لها العديد من الدلالات المعنوية، فيما نقش فنانون آخرون زخارف متنوعة ترمز لمناطق المملكة المختلفة، لتحمل على صفحاتها أحلام الأجداد ورؤية الأحفاد، وليتجاوز دورُ الفن في هذه التحف موضوعَ الزينة، ويصبح لغة بصرية تدمج الماضي بالحاضر، وتُحوّل الحرفة إلى خطاب جمالي حيّ. هذا التحوّل الفني في المشغولات المعدنية لم يأتِ من فراغ، بل كان ثمرة دعم مؤسساتي ثقافي، تتقدّمه مبادرة "عام الحرف اليدوية 2025" التي أطلقتها وزارة الثقافة، لتفتح أوسع الأبواب أمام الحرفيين والفنانين على حدّ سواء، لتطوير مهاراتهم، وعرض أعمالهم في معارض داخل المملكة وخارجها، وتحويل ورش الحِرف إلى مختبرات فنية تُخرّج جيلاً جديداً من المبدعين. إن النقش على المعدن لم يعد تقنية يدوية فقط، بل أصبح رسالة تقول إن الفن لا يُولد دائماً على لوحات قماشية، بل قد ينبثق من بين النار والمعدن، بقبضاتٍ وأصابع تعلمت عبر إيقاع صوت المطرقة أن تتجاوز الزمن، محتفيةً بحِرف الأجداد.