الذات اليهودية ومعنى الصهيونية في عالم اليوم

لا نبالغ في شيء لو أكدنا أن رسالة ناتنياهو التي ألقاها أخيراً في جامعة بار إيلان، موجهة إلى الولايات المتحدة الأميركية أساساً، وإلى البلاد الأوروبية، وإلى العالم العربي في الوقت نفسه.
أحسّ رئيس الوزراء الإسرائيلي أن الرئيس أوباما - حسب رسالته التي وجهها من منبر جامعة القاهرة إلى العالم الإسلامي - لديه استراتيجية محددة تتمثل في ضرورة الإسراع بحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وذلك من خلال إقامة الدولة الفلسطينية. وأراد نتانياهو أن يبادر - ودرءاً لضغوط أميركية متوقعة - بإلقاء خطابه الذى قبل فيه فكرة الدولة الفلسطينية، ولكن بشرط أن تكون مجردة من كل مقومات الدولة!
وإذا درسنا ردود الفعل الأميركية على خطاب نتانياهو لأدهشنا تصريح الرئيس أوباما الذى رحب بقبوله لفكرة إقامة الدولة الفلسطينية، رغم الشروط التعجيزية التي وضعها نتانياهو والتي تفقد الدولة المقترحة أي مقومات حقيقية.
ومن ناحية أخرى جاءت ردود الفعل الأوروبية متفائلة على غير أساس. ومن الغريب أن يدلي أحد الديبلوماسيين الأوروبيين بتصريح قال فيه «الواقع أن نتانياهو كونه تلفظ بعبارة الدولة الفلسطينية، فهذا في حد ذاته خطوة وإن كانت صغيرة، إلا أنها بمثابة تقدم للأمام!».
وهكذا يؤدي خداع الذات الغربي إلى تجاهل الاتجاهات الصهيونية البارزة في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، والتي تصر على رفض الاعتراف بالحقوق الفلسطينية عملاً، وعدم القبول بمبدأ عودة اللاجئين، والإصرار على أن تكون القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وتجاهل الحقوق الفلسطينية فيها.
والسؤال الآن هل هناك جديد في رسالة نتانياهو أم أنها تعبير بارز عن مكونات العقل الصهيوني الراسخة منذ عشرات السنين، والتي لا يمكن فهمها إلا في ضوء تحديد مفهوم الذات الصهيونية Self - Concept من ناحية، ونظرتهم الى الآخر بشكل عام، والى العرب بوجه خاص من ناحية أخرى؟
في تصورنا - بناء على دراساتنا السابقة - أن التركيز على مفهوم الذات اليهودية من ناحية، ونظرة اليهود للغير من ناحية أخرى، هي المنهجية التي بتطبيقها يمكن أن نفض مغاليق العقل الصهيوني.
ومصطلح مفهوم الذات هو من المفاهيم الأساسية في علم النفس. ولا يتسع المقام لتتبع التطور التاريخي للمصطلح، والذي يرده بعض الباحثين إلى الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت، وخصوصاً تركيزه على إدراك الفرد لذاته من خلال منهجه في الشك، وعبارته الشهيرة «أنا أشك - إذن - أنا موجود». غير أن كتابات سيغموند فرويد تعد نقطة حاسمة في بلورة المفهوم من خلال اهتمامه بالعمليات الذهنية الداخلية (1900)، ثم تأتي من بعده ابنته آنا فرويد (1946) لتعطي أهمية خاصة لنمو الأنا والتأويل الذاتي. غير أنه ينسب المفهوم إلى عالم النفس الأميركي كارل روجرز (1947) الذي اهتم اهتماماً خاصاً بالذات الإنسانية. وجاءت فترة أهمل فيها هذا المفهوم نسبياً - لأسباب شتى - ثم سرعان ما عاد إليه علماء النفس والإدارة من جديد، ليكتشفوا أن استخدامه يمكن أن يؤدي إلى نتائج باهرة في مجال البحث والعلاج والتعليم والإدارة.
وأبسط تعريف لمفهوم الذات أنه «الصورة الذهنية التي يشكلها فرد معين عن نفسه». غير أنه ينبغي الالتفات إلى سمات مفهوم الذات، والتي تنحصر في ثلاثة: أنه تتم صياغته من خلال الخبرة العملية والواقعية، وأنه عادة ما يكون منظماً، بمعنى أنه يتسم بالاتساق، وأخيراً أنه يتصف بالحركة والديناميكية، بمعنى أنه يمكن أن يتغير وفقاً لمتغيرات داخلية أو ظروف خارجية.
وتبدو أهمية مفهوم الذات على وجه الخصوص حين ينتقل من مجال علم النفس الفردي والاجتماعي، إلى علم نفس العلاقات الدولية لتفسير الاتجاهات الأساسية لشعب ما، سواء في نظرته لذاته، أو في إدراكه للآخر. وقد استخدم بعض علماء النفس الإسرائيليين هذا المفهوم بشكل بارع لتفسير الشخصية اليهودية، وعلاقة هذا التفسير بصعود الصهيونية كايديولوجية سياسية، ونجاحها في تعبئة يهود العالم وإنشاء الدولة الإسرائيلية العام 1948. ومن أبرز هؤلاء جأي جونين أستاذ علم النفس اليهودي الأميركي في كتابه «الهوية اليهودية: منظور نفسي اجتماعي» الصادر في كاليفورنيا العام 1977، وروفائيل باتأي في كتابه «العقل اليهودي» الصادر في نيويورك العام 1977.
ويتميز جونين من بين هؤلاء العلماء الإسرائيليين بأنه أكثرهم موضوعية في تعرضه لمفهوم الذات اليهودية. وقد نجح في أن يضع يده على مفتاح أساسي لفهم الشخصية اليهودية، من خلال تركيزه على مفهوم الذات ونظرتها إلى الآخر. ويقرر أنه استمراراً لتقاليد دينية وممارسات ثقافية واجتماعية ممتدة، يفرق اليهود بين أنفسهم وغير اليهود. اليهودي تقليدياً يعتبر نفسه أنه يعمل عقله وفكره في المقام الأول، في حين أن غير اليهودي يمكن أن يقنع بالأعمال اليدوية التي لا يقبل اليهودي ممارستها باعتبارها مهينة له.
ومن هنا يمكن القول إن التفرقة الحاسمة بين اليهود والأغيار، تعد أساسية لفهم أعماق الشخصية اليهودية، وأبعاد الشخصية الإسرائيلية من بعد. وهذه التفرقة هي التي شكلت سمة أساسية لليهود، وهي إحساسهم بالسمو إزاء الأغيار الأقل تعليماً وثقافة. وكذلك الشعور بالدونية إزاء المعاملة الاجتماعية من الأغيار التي يتعرضون لها، والتي تحمل في طياتها الاحتقار.
وقد التفت هرتزل إلى هذه السمة فكتب في يومياته بتاريخ 22 تموز (يوليو) 1895 تحت عنوان «مبحث في النفسية القومية»، أن اليهود الذين هم شعب محتقر تواقون للإحساس بالشرف والكرامة، ومن هنا، فإذا استطاع شخص أن يعبئهم تحت هذا الشعار، فإنه يمكن له أن يقودهم. وهكذا أقنع هرتزل اليهود أنه لا سبيل أمامهم سوى تبني الصهيونية كإيديولوجية سياسية، تؤدي مع الزمن إلى إنشاء دولة إسرائيل التي سيحسون تحت علمها بالشرف والكرامة.
ويمكن القول إن العقل الصهيوني لا يقنع بتأصيل الماضي اليهودي ولكنه يحاول استشراف المستقبل. والدليل على ذلك أن المنظمة الصهيونية العالمية مشغولة بمواجهة حاجات إسرائيل واليهود في المهجر، وهي لذلك معنية بإعادة التفكير وتحديث افتراضاتها، وإعادة هيكلة تنظيماتها من أجل تحقيق هذا الهدف.
وفي مقدمة المتغيرات التي تدعو المنظمة لذلك، مجموعة مترابطة من الأسباب يمكن إيجازها بما يلي:
أولاً: انهيار الاتحاد السوفياتي بكل آثاره، وأهمها الهجرة الجماعية من الاتحاد السوفياتي السابق إلى إسرائيل، حيث نجح المهاجرون الجدد في التكيف الاجتماعي والاقتصادي. وفي تقدير بعض الكتاب الصهاينة أنه خلال العقد القادم سيهاجر كل اليهود تقريبا من الاتحاد السوفياتي السابق إلى إسرائيل، وحين يحدث ذلك فإن إسرائيل ستضم أغلبية يهود العالم.
ثانياً: نجاح عملية السلام ولو تم ذلك، سيجعل إسرائيل تدخل شبكة العلاقات الطبيعية مع جيرانها ومع النظام السياسي الدولي.
ثالثا: هناك تغيرات أساسية حدثت في البنية الاجتماعية لإسرائيل، وفي اتجاهاتها السياسية وكذلك بين يهود المهجر.
ويمكن القول إن الشعور السائد بين يهود المهجر جزء من عملية تطبيع بينهم وبين البلاد التي يعيشون فيها. فقد تنامى إحساسهم بأنهم يعيشون في وطنهم، كما أن مركز نشاطهم ومصالحهم تتركز في البلاد التي يقيمون فيها.
ومن هنا يدعو بعض المفكرين الإسرائيليين إلى أنه ينبغي إعادة دراسة الموقف السياسي والثقافي لهؤلاء اليهود في ضوء توجيه كل الجهود لتحقيق أهداف الصهيونية.
ولكن ماذا تعني الصهيونية في عالم اليوم؟
يتعرض بعض الكتاب الإسرائيليين لما يسمونه «عرض ما بعد الصهيونية» «Post – Zionist Syndrome» وهو يعني أساساً - أنه مهما كانت الأسباب - فإن المشروع الصهيوني قد وصل إلى منتهاه، بمعنى أنه قد حقق أغراضه التي قام من أجلها وينبغي أن ينتهي.
ومشكلة «عرض ما بعد الصهيونية» بالغة التعقيد - كما يقرر الكاتب الصهيوني ألعازر سكويد - وتسود في شأنها الخلافات بين المفكرين، ومعنى ذلك أن هناك إصراراً على تحقيق أهداف الصهيونية، حتى لو تغيرت الوسائل، بغض النظر عن الخلاف حول ماذا تعني الصهيونية في عالم اليوم، وهو موضوع يستحق أن ندرسه بعمق وضعاً في الاعتبار تغير اتجاهات الشباب في اسرائيل وتركيزهم لا على الأهداف الآيديولوجية للصهيونية ولكن على تقدمهم المادي وأسلوب حياتهم ما بعد الحداثي.
وأياً كان الأمر فيمكن القول إن خطاب نتانياهو بكل ما تضمنه من إنكار مطلق لحقوق الشعب الفلسطيني، ليس سوى تعبير أصيل عن مكونات العقل الصهيوني، الذي يقوم أساساً على تضخيم الذات اليهودية من ناحية، وعدم الاعتراف بحقوق الآخر من ناحية ثانية.
هذه هي الرسالة الصهيونية الموجهة الى العالم عموماً والعرب خصوصاً. ترى كيف ستكون الاستجابة الفلسطينية؟
* كاتب مصري