تبذل ألمانيا جهوداً كبيرة لتسريع انتشار الرقمنة أو الأتمتة في مختلف مجالات العمل والحياة، لكن هذه الجهود لا ترتقي بعد إلى المرتبة التي تجعلها من بين طلائع الدول العاملة في هذا الحقل المستقبلي الذي يفتح الأبواب أمام تخصص سيغيّر تباعاً أنشطة الحياة والعلاقات العامة والخاصة، وقد يؤثر في المشاعر الحسية الطبيعية والصناعية، ولكن بدرجة أولى على عالم العمل والقوى العاملة، أي الأيدي العاملة والإنتاج والمراقبة والنقل والتوزيع. وخصّص التحالف الحكومي المسيحي- الاشتراكي فصلاً خاصاً عن الرقمنة في برنامج الحكومة الرابعة التي شكلتها المستشارة الألمانية أنغيلا مركل أخيراً، خصوصاً أن الحكومة السابقة للتحالف ذاته تقاعست بصورة فاضحة في تطبيق ما تضمنه برنامجها في هذا المجال. وقد لا يكون الإهمال هو السبب الأول في عدم تنفيذ ما اتفق عليه لتوسيع مجالات الرقمنة، وإنما الخوف من نتائجها السلبية على سوق العمل وارتفاع البطالة من خلال ازدياد استخدامات الأتمتة والروبوت، بالتالي من حصول صراعات اجتماعية وطبقية. وأظهرت دراسة جديدة أعدتها «جامعة بادربورن» الشهر الماضي أن 47 في المئة من الألمان يخشون أن تؤدي الرقمنة إلى فقدان عملهم وقيمتهم في المجتمع، بالتالي مصدر عيشهم. وأشارت إلى أن القلق ينسحب حتى على أصحاب الكفاءات الذين يحصلون على أجور مرتفعة نسبياً، ولكن القلق من فقدان العمل بسبب الرقمنة يساور أكثر المواطنين ذوي المؤهلات والأجور المتدنية، والعديد من الذين يعتقدون أن عملهم سيبقى آمناً من انتشار الرقْمنة والأتمتة. وعلى رغم أن الحكومة كانت حددت في تقريرها السنوي 2013-2014 هدف توسيع مجالات الرقمنة، ورفع البلاد لتحتل المرتبة الأولى في أوروبا بحلول عام 2018، إلا أنها فشلت، عن قصد أو غير قصد، في تحقيق ذلك. والمثال على ذلك فشلها في ربط كل المناطق السكنية والإدارات والمدارس بشبكة الإنترنت، ولذلك يشدد برنامج التحالف الجديد الآن على العمل بوتيرة أعلى وأسرع للحاق بعدد من الدول الأوروبية والغربية التي سبقتها في هذا المجال، الأمر الذي سجلته منظمة التعاون الأوروبية في تقريرها أواخر العام الماضي، وجاء فيه أن الدول الإسكندينافية، وهولندا، وكوريا الجنوبية، والولايات المتحدة تتقدم بوضوح على ألمانيا في شبكات الرقمنة، باستثناء ما يتعلق بحقل «الثورة الصناعية الرابعة» حيث تحتل ألمانيا مرتبة جيدة فيه. واستند الخبراء الباحثون في «جامعة بادربورن» إلى نتائج الاستطلاع الذي أجراه في كانون الثاني (يناير) 2017 «معهد بحوث الرأي العام حول القضايا السياسية» القريب من النقابات العمالية، وتطرق فيه إلى أسباب نجاحات «حزب البديل من أجل ألمانيا» الشعبوي اليميني وخلفياتها، علماً أن الحزب يستفيد كثيراً من القلق والتضعضع الاجتماعيين للعديد من المواطنين. وشمل الاستطلاع 4892 شخصاً، وبرز فيه قلق الناس من تدهور مستوى حياتهم، وخوفهم من خسارة ضمانهم المالي، أي معاش التقاعد. ووجدت الدراسة أن 25 في المئة من هؤلاء أبدوا قلقاً من خسارة مكان عملهم، وكان هذا ملموساً في شرق ألمانيا أكثر من غربها بسبب ضعف بنية الشركات والمؤسسات فيها، بالتالي مجالات العمل. وبلغت نسبة القلقين من تدهور وضعهم المالي الذين يتلقون أجراً شهرياً ضئيلاً ويعيشون على هامش المجتمع، 90 في المئة من المستطلَعين، ما يعني أن القلق يتراجع بقدر ما يرتفع مستوى الناس الاجتماعي والتعليمي والمالي. وتبلغ نسبة القلقين على مستقبلهم الاجتماعي داخل هذه الفئة وما فوق 38 في المئة، فيما تصل نسبة القلقين على وضعهم المالي 47 في المئة. وأظهرت الدراسة أن أكثر من 50 في المئة من الفئة المتوسطة من الألمان يعربون عن قلقهم من تنامي التداعيات السلبية للرقمنة عليهم، ويرون أن تخوفهم الأكبر يتمثل في زيادة حجم الرقابة عليهم صوتاً وصورة في أمكنة عملهم. وإضافة إلى الرقمنة، تلعب العولمة دوراً متزايداً في تخويف الناس من المزاحمة والمنافسة المستقبلية لهم. وتعمل أحزاب شعبوية مثل «حزب البديل من أجل ألمانيا» على استغلال قلق الناس لمصلحتها السياسية.