أمير تبوك يطلع على تقرير عن إنجازات وأعمال فرع وزارة التجارة بالمنطقة    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في غزة إلى 35034    مستشفى دله النخيل يوفر برامج علاجية حديثة لاضطرابات السمع والنطق    عقد اجتماع اللجنة التوجيهية للسوق العربية المشتركة للكهرباء.. غداً    «البلسم» تحتفي بفريقها بعد إجراء 191 جراحة ناجحة    "شاي بالحليب" يوثق رحلة محمد يوسف ناغي    مختبرات ذات تقنية عالية للتأكد من نظافة ونقاء ماء زمزم    ضبط مخالف لنظام البيئة لارتكابه مخالفة رعي ب"محمية الإمام عبدالعزيز"    الكويت: ضبط 24 شخصاً بتهمة ممارسة الرذيلة ومخالفة الآداب العامة    سمو أمير منطقة تبوك يترأس اجتماع لجنة الحج غداً    ارتفاع قيمة صادرات السعودية من التمور خلال الربع الأول من العام الحالي بقيمة إجمالية بلغت 644 مليون ريال    مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة" من إندونيسيا    أمير عسير يستقبل السفير العماني لدى المملكة    هيئة الصحفيين بمكة تنظم ورشة أدوات الإعلام السياحي غدا الاثنين    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير فرع الهيئة العامة لعقارات الدولة    "زين السعودية" تسجل إيرادات بقيمة 2.5 مليار ريال للربع الأول من العام 2024    التنوير وأشباه المثقفين الجدد    اليوم .. انطلاق فعاليات "المعرض السعودي الدولي للأخشاب ومكائن الأخشاب" في الرياض    "التخصصات الصحية" تطرح مشروع تحديث التقويم التكويني المستمر    البحرين تستضيف القمة العربية يوم 16 مايو    مختص مناخ ل "الرياض": المملكة بعيدة عن تأثيرات الانفجارات الشمسية    القوات المسلحة تشارك في تمرين "الأسد المتأهب"    لاعبو الشباب: هدف التعادل أحبطنا.. والأهلي استغل الأخطاء    الأدوية وأفلام الرعب تسببان الكوابيس أثناء النوم    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول الأمطار على عدد من المناطق    استقبال طلائع الحجاج بالهدايا وحزمة البرامج الإثرائية    جمعية مرفأ تنفذ دورة "التخطيط الأسري" في جازان    محافظ الزلفي يزور فعاليه هيئة التراث درب البعارين    القبض على مقيمين لنشرهما إعلانات حملات حج وهمية    اكتشاف قدرات الأيتام    مجلس الأعمال السعودي الأمريكي: السعودية تشهد إنجازات كبرى لصياغة المستقبل    السعودية وتايلند.. تعزيز التجارة واستثمارات واعدة    كنو: موسم تاريخي    مؤسس فرقة «بيتش بويز» تحت الوصاية القضائية    النزل التراثية بالباحة .. عبق الماضي والطبيعة    "هورايزون" و"بخروش" يفوزان بجائزتي النخلة الذهبية    أكبر منافسة علمية عالمية في مجال البحث العلمي والابتكار.. «عباقرة سعوديون» يشاركون في آيسف 2024    صحف عالمية:"الزعيم لا يمكن إيقافه"    براعم النصر .. أبطالاً للدوري الممتاز    100 مليون ريال في المرحلة الأولى.. "جونسون كنترولز "تصدر" تشيلرات يورك" سعودية الصنع إلى أمريكا    الماء    مصادر «عكاظ»: لا وجود ل «المسيار» أمام المحاكم.. تراخيص المكاتب «هرطقة»    انتكاس تجربة «إيلون ماسك» لزرع الشريحة    ميزه للتحكم بالصور والفيديو ب«واتساب»    خبراء صينيون يحذرون من تحديات صحية ناجمة عن السمنة    حذروا من تجاهل التشخيص والتحاليل اللازمة .. مختصون: استشارة الإنترنت علاج مجهول    حملة للتوعية بمشكلات ضعف السمع    الشمري يرفض 30 مليون ريال.. ويتنازل عن قاتل ابنه بشفاعة أمير منطقة حائل    الطلبة الجامعيون وأهمية الاندماج في جميع المناطق    جودة النقد بين نور والهريفي    مساحات ثمينة    أول دوري للبادل في العالم.. وقفات ومقترحات    الإسقاطات على الكيانات !؟    وما زال التدهور يخيّم في الأفق..!    القيادة تعزي ملك مملكة البحرين    المدينة أول صديقة للتوحد بالشرق الأوسط    الأمير مقرن بن عبدالعزيز يرعى حفل خريجي جامعة الأمير مقرن    جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة السادسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«طبيب قرطبة»: ابن ميمون يعيش حياة جديدة تعيد اعتبار الرواية التاريخية
نشر في الحياة يوم 27 - 11 - 2010

في تلك الأزمان السحيقة - كما تبدو اليوم - حين كان التعايش بين الأعراق والطوائف والأديان حقيقة لا شعاراً، وحين كان نجوم الفكر والمجتمع يدعون ابن رشد والفارابي وابن باجة، عاش في الأندلس اولاً، ثم متنقلاً بين ديار الإسلام بعد ذلك، عالم وطبيب يهودي انتمى الى الحضارة العربية ولم يجد حماية له إلا لديها حين اضطهده الإسبانيون إذ عادوا واستعادوا الأندلس من ايدي المسلمين. هذا العالم والطبيب هو ابن ميمون، تلميذ ابن رشد الذي ولد في قرطبة وأمضى حياته بين الفكر والطب والعلم، لينهيها في مصر صلاح الدين الأيوبي التي استقبلته فاتحة ذراعيها، حين عجز عن استقباله اي مكان آخر.
حياة ابن ميمون هذا كانت على الدوام تشكّل اغراء للكتاب، ولا سيما منهم اولئك الذين كانوا يعرفون مدى ما في حياته من مواقف وأحداث تشي بكم كان التسامح قائماً ايام الحكم الإسلامي لإسبانيا، وأن حياة ابن ميمون يمكن ان تكون ذريعة طيبة لكتابة فصول وفصول حول حقبة زمنية لا تضاهى من حيث إشعاعها الحضاري والانفتاح الذي عيش خلالها، ثم القهر الذي كان من نصيبها ومن نصيب مفكريها حين اشتدت وطأة الأحداث واحتدمت الصراعات وراحت تبرز تلك الهويات التي سيسميها الكاتب اللبناني، بالفرنسية، امين معلوف لاحقاً «الهويات القاتلة». والحقيقة ان ذكر امين معلوف هنا ليس صدفة، ذلك ان واحدة من الروايات الأساسية التي كتبت عن حياة ابن ميمون، وهي «طبيب قرطبة» للكاتب الفرنسي هيربير لوبورييه (1913 - 1977)، كانت في بال كاتبنا اللبناني من دون شك حين كتب هو الآخر روايته الأندلسية الشهيرة «ليون الأفريقي». تماماً كما ان لوبورييه، حين كتب «طبيب قرطبة» كانت في باله كتب عدة تناولت من قبله حياة ابن ميمون، ومن اشهرها «يهودي طليطلة» لليون فوختفنغلر، تلك الرواية التي غاصت في تحليل زمن ابن ميمون، وخصوصاً في جوانبه الاقتصادية والسياسية ثم بدت اقل احتفاء بقضية التسامح التي كانت في اساس «طبيب قرطبة».
إذاً «طبيب قرطبة» رواية عن ابن ميمون. والحال ان الكاتب حاول قدر الإمكان ان يبدّي الواقع التاريخي في هذه الرواية على الأبعاد التخييلية، على عكس ما يفعل عادة مؤلفو هذا النوع من الروايات من الذين اعتادوا ان يطلقوا العنان لمخيلاتهم أملاً في إعطاء طوابع ذاتية للعمل. لوبورييه ابتعد من هذا، ليرسم هنا، على مدى 300 صفحة، حياة ذلك الفيلسوف والطبيب والشاعر الأندلسي الذي عاش في القرن الثاني عشر... وقد آثر لوبورييه ان تكون الرواية محكية على لسان ابن ميمون نفسه، حيث تشكل الرواية رسالة طويلة كتبها الى واحد من تلاميذه.
هذه الرسالة التي يفيدنا الكاتب انها كتبت خلال الأيام الأخيرة لحياة ابن ميمون، تعبق بقدر كبير من حنين يحسّه بطل الرواية الى المدينة التي كانت مسقطه، وها هو اليوم يعيش آخر سنوات حياته بعيداً منها. ومنذ البداية تقول لنا الرسالة/ الرواية كم ان القرون الثلاثة التي عاشتها قرطبة، خصوصاً، والأندلس عموماً، وسط إشعاع حضاري وفكري وعلمي تحت الحكم الإسلامي، كانت قرون تعايش وتناسق بين الثقافات العربية والإسلامية والمسيحية واليهودية. لكن المؤلم هو ان ذلك «العصر الذهبي» سرعان ما آذن بالنهاية عند منتصف القرن الثاني عشر، ولا سيما بالنسبة الى اليهود الذين وجدوا انفسهم فجأة - بحسب الرسالة - مقموعين ومضطهدين بين إسبانيين مسيحيين متشدّدين آتين من الشمال ليستعيدوا ممالكهم، وبين جماعة الموحدين المتعصبين الآتين من الجنوب للدفاع عن آخر ما تبقى من الأندلس. وإذ ترسم لنا الرواية هذا الإطار التاريخي مصوّراً من وجهة نظر ابن ميمون، نبدأ بالتعرف على حياة هذا المفكر. فهو منذ طفولته عاش تحت ظل القمع والخوف، إذ ربّته أمة قاسية، وأذلّه أب مرعب. وقد ترعرع الطفل وسط الكثير من المؤثرات: من بينها جار كان طبيباً وشاعراً متحرراً، وعم كان جزاراً تقليدياً، تعلّم الفتى على يديه دقة التشريح وتفاصيل اعضاء الأجسام الحية. وأخيراً استاذه في الجامعة، الفيلسوف والمفكر العربي النابغة ابن رشد. وقد كان لهذا الأخير دور اساسي في نشوء ابن ميمون وحياته، إذ انه هو الذي ارسله ليتدرّب في طليطلة لدى طبيب ماهر في دراسة الجثث. وهناك لدى هذا الطبيب سيلاحظ ابن ميمون ان دراسة الطب التقليدية تستند كثيراً الى تعاليم خاطئة متوارثة من جالينوس، الذي كانت سلطته الفكرية اقوى من مهارته التجريبية. وعلى ضوء هذا يدرك ابن ميمون أسبقية العمل الذهني التأملي في مجال دراسة الإنسان وجسمه، وينصرف الى الاهتمام الجدي بالفكر. وإذ يبغي العودة الى قرطبة لدى استاذه ابن رشد، يفاجأ بأن يجد المدينة فريسة للفوضى والاضطراب امام الأخطار التي باتت محيطة بها من الشمال، ويصدمه إحراق الكتب في شوارعها وغياب استاذه الكبير. وهكذا يهرب مع ابيه وأخيه واصلين الى مدينة المريا، حيث يستقبلهم ابن رشد ويسهل لهم العبور الى فاس، التي سيخوض ابن ميمون سجالاً مثمراً مع أميرها... ثم يتابع الطبيب المفكر سفره الى منفاه الجديد: فلسطين التي كانت واقعة تحت احتلال الفرنجة منذ نجاح الحملات الصليبية... وبالتالي يعجز عن ان يعثر لنفسه على مكانة فيها، إذ كان تعامل الفرنجة مع اليهود لا يقل سوءاً عن تعامل الإسبان معهم، فلا يجد امامه إلا ان يواصل رحلة المنفى متجهاً هذه المرة الى مصر. ومصر ستكون مقرّه النهائي والأخير، وفيها سوف «يكتب» رسالته هذه التي تشكّل حكاية حياته، وأساس رواية «طبيب قرطبة» التي ستروي هذه الحكاية بما فيها من دروس وعبر للأجيال التالية. وقد كان من حظ ابن ميمون، كما يقول هو نفسه في رسالته، ان صلاح الدين الأيوبي كان هو الذي يحكم في مصر في ذلك الحين. وإذ يستقبله هذا بما عرف عنه من اريحية وتسامح، يشعر ابن ميمون انه اخيراً قد آن له ان يستقر، لذلك يكرس ما بقي من سنوات حياته للكتابة، ولا سيما في مجال الفلسفة والطب، كما انه ينصرف في الوقت نفسه الى العناية الطبية بفقراء مصر. وهناك وسط هذه المشاغل يموت وقد ادى رسالته الإنسانية.
والحقيقة ان سردنا هذا الملخّص لأحداث هذه الرواية يكاد يبديها نصّاً في السيرة، غير ان هذا الظاهر سيكون هاهنا ظلماً لعمل روائيّ ابداعيّ حافل بالتفاصيل والشخصيات ولا سيّما المواقف الدرامية. ومن نافل القول ان هذه المواقف لا تنتمي الى الحقيقة التاريخية بل هي مواقف افتراضية صاغتها مخيّلة الكاتب ما اضفى على التاريخ المزويّ ذلك البعد الانساني الانسيابي الذي يسم عادة الروايات الكبرى. وفي هذا السياق لن يكون من المغالاة اعتبار رواية «طبيب قرطبة» رواية تأسيسية ولدت من رحمها عشرات الأعمال التي ظهرت عند نهاية القرن العشرين مؤسسة لنوع روائي اعاد الاعتبار الى فن الرواية التاريخية كما كان الناقد المجري الكبير جورج لوكاتش قد وضع قوانينه انطلاقاً، طبعاً، من روايات سير والتر سكوت. ولعل من المهم ان نذكّر هنا بأن هذا النوع المتجدّد من الرواية التاريخية سيكون اللبناني امين معلوف، انما بعد صاحب «طبيب قرطبة» بسنوات مجدّده الأبرز والكاتب الذي جعل له جماهيرية مدهشة خلال سنوات طويلة.
هربير لوبورييه، مؤلف «طبيب قرطبة» كان بدوره كاتباً وطبيباً، وكان ايضاً ذا نزعة انسانية. وقد صرّح دائماً بأنه لم يكتب سيرة ابن ميمون في رواية إلا لأنه شعر دائماً بالتقارب بينهما. لكن لوبورييه، الذي مارس الطب والأدب معاً خلال سنوات حياته، لم يكتب «طبيب قرطبة» فقط، بل كتب الكثير من الروايات التاريخية ايضاً ومنها «آنسة شارتر» و «عواد كريمونيا» و «الرجال في المدينة» و «جولييت عند الممر»... وهو حصل عند نهاية حياته (1977) على الجائزة الكبرى لجمعية اهل الأدب في فرنسا، بفضل روايته الأخيرة «طبيب قرطبة».
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.