يدخل لبنان اليوم مرحلة سياسية جديدة بانتخاب رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية بأكثرية نيابية غالبيتها من قوى 14 آذار (سابقاً) و «اللقاء النيابي الديموقراطي» ضد منافسه الورقة البيضاء التي يأمل أصحابها من النواب بأن تكون نقطة انطلاق لتأسيس نواة أولية للمعارضة، خصوصاً إذا ما انسحب موقف رئيس المجلس النيابي نبيه بري المناوئ لانتخاب عون على رئيس الحكومة الذي سيكلّف تشكيل أول حكومة في العهد الرئاسي الجديد، والثابت أنه سيكون في نهاية الاستشارات النيابية الملزمة التي سيجريها الرئيس مع الكتل النيابية، زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري. (للمزيد) وبانتخاب عون رئيساً للجمهورية يكون «استرجع» قصر بعبدا عبر الشرعية بعد أكثر من ربع قرن على طرده منه بقوة السلاح، ويكون لبنان خطا خطوة على طريق إعادة انتظام العمل في المؤسسات الدستورية التي عانت من كل أشكال الشلل والتعطيل على امتداد عامين ونصف العام هي عمر الشغور في سدة الرئاسة الأولى. لكن هذه الخطوة، على أهميتها، تبقى ناقصة ما لم يتم الإسراع في تأليف الحكومة، باعتبار أن التكليف سيكون سهلاً حتى لو امتنع الثنائي الشيعي أي «حزب الله» وحركة «أمل» عن تسمية الحريري رئيساً للحكومة، وكان سبق لهما أن امتنعا عن تسميته عندما شكل حكومته في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان ولم يقف امتناعهما هذا حاجزاً أمام مشاركتهما في حكومته. وسألت مصادر نيابية بارزة عن مصير تفاهم «حزب الله» وعون، وعن مصير «إعلان النيات» بين الأخير وحزب «القوات اللبنانية»، وعن العناوين السياسية الرئيسة التي توصل إليها مع «المستقبل» وكانت وراء دعم ترشحه، على رغم أن الحريري ينفي كل ما يشاع عن إبرام صفقة ثنائية بينهما لأنه كان يتطلع الى إنهاء الشغور في الرئاسة لما يترتب عليه من أثمان باهظة على المستويات كافة. ولفتت المصادر نفسها ل «الحياة»، إلى أن التفاهمات التي توصل إليها عون مع «حزب الله» و «القوات» لم تعد تصلح لأن تكون جزءاً من الإطار السياسي العام للحكومة ولا للثوابت التي سينطلق منها الرئيس المنتخب، لأن الظروف السياسية التي أملت عليه التفاهم عليها أصبحت من الماضي وكانت محكومة بالانقسامات السياسية التي عانى منها لبنان، لا سيما إبان فترة الشغور الرئاسي وبالتالي لا يمكن جمعها في ورقة واحدة، لما فيها من تناقض. وكشفت أن عون لن يتموضع في الموقع الذي كان فيه قبل انتخابه، معتبرة أن من مصلحته أن يكون على مسافة واحدة من الجميع. وقالت إنه على تفاهم مع الحريري في هذا الخصوص لضمان الأسس لانطلاقة العهد من جهة ولتوفير الظروف التي تساعد الحكومة على الإقلاع من دون أن تلتفت إلى ما في هذه التفاهمات من تناقضات. ورأت أن تكليف الحريري رئاسة الحكومة لا يعني أن مشواره على طريق تأليفها سيكون سهلاً، لكنه سيتصرف على قاعدة أن التداعيات التي ترتبت على انتخاب الرئيس لا بد أن تعالج رغبة منه بالانفتاح على جميع الكتل النيابية من دون استثناء لتأمين الشراكة الوطنية في حكومة تأخذ على عاتقها النهوض بالبلد من أزماته الاقتصادية والاجتماعية وتعمل على تحييده من الحرائق المشتعلة من حوله. وإذ بدأت المصادر هذه تتعامل مع «حزب الله» وكأنه أدى قسطه للعلى بانتخاب حليفه رئيساً للجمهورية تاركاً الممر الإجباري لتشكيل الحكومة في عهدة حليفه الآخر الرئيس بري، فإن الحريري سيكشف تواصله مع الأخير وإن كان يدرك أن المفاوضات معه في الأيام العادية ليست سهلة، فكيف ستكون عليه في ضوء عتبه الشديد عليه لأنه يرى أنه عقد صفقة ثنائية مع عون ولم يعلمه بها، وهو القائل عنه إنه سيكون معه أكان ظالماً أم مظلوماً. وأوضحت أن بري أخذ على عاتقه، حتى إشعار آخر، عدم التدخل، بناء لطلب الآخرين في تشكيل الحكومة ولا في البيان الوزاري كما كان يفعل في السابق، وقالت إنه يرفع من منسوب عتبه على الحريري الى حد قوله أمام زواره «فليشكل الحكومة من دون أمل وحزب الله»، مع أنه يعرف جيداً أن زعيم «المستقبل»، كما تقول المصادر، ليس من الذين يقدمون على خطوة كهذه محفوفة بالمخاطر وفيها الكثير من المغامرة. واعتبرت أن بري يرفع بموقفه هذا من سقف احتجاجه على الحريري، لكن إمكان «تنعيم» موقفه ليس مستحيلاً، وإن كان يبدو للوهلة الأولى صعباً. وقالت إن الحريري سيقتحم سياسياً «عين التينة» مقر الرئاسة الثانية ويقيم حواراً مع بري يفترض أن يعيد الحرارة إلى هذه العلاقة. ورأت المصادر هذه، أن لا مجال، من وجهة نظر الحريري، للدخول في تصفية حساب مع بري، وقالت إن الأزمة بينهما عابرة ولا بد من أن تزول فوراً لأن لا مصلحة لهما في الافتراق وإن كان رئيس المجلس يلوّح بأنه سيذهب بعيداً في معارضته، وربما تعود بينهما قنوات التواصل إلى سابق عهدها. وأكدت أن بري يستقوي بتفويض «حزب الله» إياه مفاوضات تشكيل الحكومة، في محاولة لتحسين شروط التحالف الشيعي في التشكيلة الوزارية، وقالت إن من يراهن على أن يكون البديل في حكومة وحدة وطنية، حكومة «تكنوقراط» يدرك جيداً أنه يعيق انطلاقة العهد، لا سيما أن مثل هذه الحكومة تبقى «مزحة» غير قابلة للصرف لأنه لا يوجد في البلد ما يسمى بوزراء حياديين لا يتعاطون الشأن السياسي العام. ورأت أن لا طبخة حكومية جاهزة وأن من يروج لمثل هذه الاشاعة يتوخى منها حرق المراحل ودفع البلد، منذ بداية هذا العهد، في اتجاه أزمة سياسية تقضي على بريق الإنجاز الذي تحقق بإنهاء الشغور في الرئاسة. وقالت إن رئيس «اللقاء النيابي الديموقراطي» وليد جنبلاط عاتب، وإنما بدرجة أقل، بذريعة أنه لم يكن على علم بوجود تفاهم مسبق بين عون والحريري، لكنه يحرص وهو يستعد للتخلي لابنه تيمور في كانون الثاني (يناير) المقبل عن قيادة «الحزب التقدمي الاشتراكي»، على تحالفه مع الحريري من دون أن تكون على حساب حليفه الآخر بري وبالتالي لديه القدرة للعب دور توفيقي بينهما. لذلك، فإن الاقتراع بورقة بيضاء في صندوقة الانتخاب اليوم، كما اقترح المنافس الرئاسي لعون، زعيم تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية، ينم عن تصويت سياسي للكتلة النيابية المعترضة على انتخاب «الجنرال» لأن توحيد الاقتراع بها وبمبادرة من فرنجية جاء على خلفية انتقال الأخير الى المربع «الأبيض» بعدما تعذر عليه تأمين تأييد النواب المناوئين لعون. ولن يعطل رمزية الاقتراع الأبيض إلا اقتراع مغاير ورمزي قد يقدم عليه نواب حزب «الكتائب». وعليه، فإن وصول عون إلى بعبدا لم يكن سهلاً من دون الحريري الذي قطع شوطاً على طريق استرداد شارعه و «تنعيم» موقف أعضاء كتلته النيابية مع حصول بعض الخروق، وأيضاً بلا جنبلاط. ما يعني من وجهة نظر المصادر النيابية أن نوابهما اقترعوا لهما عن قناعة، وأنهما بدورهما جيرا الأصوات لمصلحة عون. ومع وصول عون الى القصر الجمهوري يطرح السؤال: هل يبدأ عهده بالتعاون مع الحريري في فك الحصار المفروض عليه جراء التفاهمات التي توصل إليها في وقت سابق كأساس لإرساء تفاهم «بعبدا- 2» يعيد خلط الأوراق السياسية لمصلحة خليط غير مقيد بانقسام البلد بين «14 آذار» و «8 آذار»؟