هناك تفرقة شهيرة في الدراسات الدستورية بين دولة القانون Etat de Droit والدولة البوليسية Etat de Police. دولة القانون هي الدولة التي تطبق تطبيقاً دقيقاً مبدأ سيادة القانون والذي يعني على وجه الدقة أن تعامل الدولة مع مواطنيها لا يجوز أن يخالف لا الدستور ولا القانون، وأنه لا يمكن التعامل مع أي مواطن خارج نصوص وحدود القانون. ومن بين التطبيقات الشهيرة لهذا المبدأ أنه «لا جريمة ولا عقوبة بلا قانون». أما الدولة البوليسية فهي الدولة التي تحكم بالقهر وتعامل المواطنين من دون أساس قانوني وتتجاهل مبدأ سيادة القانون. ومعنى ذلك أن هذه الدولة الاستبدادية يمكن أن تعتقل أي مواطن ولو من دون سبب، ويمكن أن تعاقب أي شخص بالسجن على سبيل المثال من دون حيثيات، بل إنها في الحالات المتطرفة يمكن أن تصدر أحكاماً بالإعدام من دون محاكمة قضائية عادلة! دولة القانون تجد التطبيق الدقيق لها في الدول الديموقراطية. بل إنه يمكن القول إنها أهم سمة من سماتها البارزة. أما الدولة البوليسية فهي شائعة في الدول الشمولية والسلطوية التي يهيمن فيها النظام السياسي السائد على مقدرات البشر من دون أي ضوابط أو ضمانات قانونية. والدليل على ذلك أن أبرز نماذج الدول الشمولية في العصر الحديث، ونعني الاتحاد السوفياتي السابق، كان دولة بوليسية بالمعنى الدقيق، لأنها تجاهلت مبدأ سيادة القانون، وأدار جوزيف ستالين رئيس الدولة وزعيم الحزب الشيوعي بعد وفاة لينين محاكمات لخصومه السياسيين وحكم فيها على المئات منهم بالإعدام. وذلك إضافة إلى أوامر الاعتقال غير القانونية وأحكام السجن غير الشرعية التي صدرت بحق مئات من المواطنين الأبرياء. وكذلك كانت ممارسات الدول البوليسية في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. غير أن دولة القانون التي تمثلت في الدول الديموقراطية العريقة مثل بريطانيا وفرنسا والولاياتالمتحدة الأميركية تميزت بالتطبيق الدقيق لمبدأ سيادة القانون ومراعاة الشرعية في التعامل مع المواطنين. ويمكن القول إن بعض الدول الديموقراطية مرّ بأزمات عنيفة فى مجال تطبيق مبدأ سيادة القانون في فترات محدودة من تاريخها. ويبدو ذلك في الممارسات الاستعمارية الفرنسية مع المناضلين الجزائريين الذين كانوا يكافحون من أجر تحرير بلادهم. غير أن المثال الأبرز هو الفترة المكارثية التي مرت بها الولاياتالمتحدة الأميركية في خمسينات القرن العشرين حين شكل عضو الكونغرس الأميركي مكارثي لجنة لملاحقة الكتاب والمفكرين والمبدعين الأميركيين بتهمة الشيوعية، وأصدرت اللجنة – في تجاهل تام لمبدأ سيادة القانون – أوامر باعتقال بعضهم. غير أن هذه الفترة الكئيبة في التاريخ الأميركي مضت إلى حال سبيلها إلى أن جاءت أحداث أيلول (سبتمبر) الإرهابية التي وجهت ضرباتها إلى مراكز القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية الأميركية. وذلك لأن إدارة الرئيس بوش استصدرت قانون «الوطنية» الأميركي الذي يبيح التنصت غير المشروع على المكالمات التليفونية، وأخطر من ذلك القبض على المشتبه فيهم بالإرهاب بالمخالفة مع نصوص القانون الجنائي العادي. وكان هذا التطور أول إشارة الى تحول الولاياتالمتحدة الأميركية من دولة قانونية إلى دولة بوليسية. وجاء تطور أخطر بعد ذلك باستصدار إدارة بوش قانوناًَ يبيح تعذيب المتهمين في جرائم الإرهاب. ومن الغريب أن يقوم مجلس نيابي منتخب في دولة ديموقراطية وهو الكونغرس الأميركي بمناقشة موضوع: هل ان إيهام المتهم بأن المحققين سيغرقونه في المياه يعد تعذيباً أو لا؟ فكأن الكونغرس يوافق على التعذيب من ناحية المبدأ، ولكنه يعترض على بعض وسائله القاسية فقط! وهذا مسلك بالغ الشذوذ من وجهة النظر القانونية والديموقراطية معاً. غير أن انحراف الولاياتالمتحدة الأميركية لكي تصبح بكل وضوح دولة بوليسية أشارت إليه جريدة «النيويورك تايمز» الأميركية في مقال لها نشر بتاريخ 13 أيار (مايو) 2010 كتبه سكوت شيني بعنوان «موافقة حكومة الولاياتالمتحدة الأميركية على قتل داعية ديني تحدث جواً من عدم الارتياح في الأوساط القانونية». وخلاصة الموضوع أن إدارة الرئيس أوباما تتجه إلى السماح للسلطات الأميركية بناء على توصية الاستخبارات المركزية الأميركية باغتيال من يحملون الجنسية الأميركية والمتهمين بارتكاب حوادث إرهابية خارج حدود الولاياتالمتحدة! ومعنى ذلك ببساطة أن تشكل الحكومة الأميركية فرقاً لاغتيال أي شخص يحمل الجنسية الأميركية، إذا كان متهماً بالإرهاب من دون محاكمة قانونية وبناء على تقرير استخباري بشرط أن يتم تنفيذ الاغتيال خارج حدود الولاياتالمتحدة! ومن بين المرشحين للاغتيال وفقاً لهذه الشروط الداعية الديني أنور العولقي وهو من أصل يمني ويحمل الجنسية الأميركية. وقد نسب إلى العولقي أنه أفتى بأن مهاجمة الولاياتالمتحدة الأميركية واجب ديني، وتتهمه الاستخبارات المركزية الأميركية بأنه ضالع في تدبير حوادث إرهابية متعددة ضد الولاياتالمتحدة، وآخرها محاولة تفجير «تايمز سكوير» بواسطة سيارة مفخخة إضافة إلى عشرات الحوادث الإرهابية الأخرى التي تمت بتأثير فتاوى العولقي كما تؤكد الاستخبارات الأميركية. ومعنى ذلك كما تقول «نيويورك تايمز» أن الرئيس أوباما الذي سبق له – أثناء حملته الانتخابية للرئاسة – أن وجه الاتهام للرئيس بوش بأن إدارته مارست تحقيقات غير قانونية للمتهمين بالإرهاب، قد وافق على سياسة «القتل المستهدف» ما دعا أحد أعضاء الكونغرس جون تيري إلى عقد أول جلسة استماع حول الموضوع بتاريخ 28 نيسان (أبريل) لمناقشة عدم قانونية هذه السياسة. وأهمية هذه الجلسة أن تيري عضو الكونغرس الديموقراطي ورئيس اللجنة الفرعية للأمن القومي. وتبدو المشكلة في أن العولقي المستهدف بالقتل لا يقيم في مناطق الحرب في أفغانستان أو باكستان، وهو أميركي ولد في نيومكسيكو، وبالتالي فإن الدستور الأميركي في التعديل الخامس قيمه بحكم المادة التي تقول إنه «لا يجوز أن يحرم من الحياة أو الحرية أو الملكية من دون محاكمة وإجراءات قانونية». وبعيداً من الجدل القانوني الذي يدور الآن حول الشرعية القانونية لسياسة القتل المستهدف فإن جدلاً من نوع سياسي انتهازي يدور حول مدى ملاءمة قتل العولقي على أساس أنه لو حدث سيحوله ذلك إلى شهيد! وهكذا بدأت بوادر تحول الدولة الأميركية حامية الحريات والمدافعة عن حقوق الإنسان في العالم من دولة قانونية إلى دولة بوليسية قررت بكل وضوح أنها ستعمد في مواجهة الإرهاب الموجه ضدها إلى ممارسة «إرهاب الدولة» الذي سبقتها إليه اسرائيل التي تقوم في شكل منهجي باغتيال القادة الفلسطينيين! هذا - وأيم الله - تحول دراماتيكي في إدارة الرئيس أوباما الديموقراطي أستاذ القانون سابقاً المدافع عن حريات الشعوب وحقوق الإنسان! * كاتب مصري