لم أحلم بشيء قدر أن أرسم بيتاً يشبهني، ثم أبني ما رسمت على الأرض كما تمنيت، وقد كان، ولكن من تولى أمر بنائه قرر أن يفرغ قلبي من فرحة ادخرتها لتسلم مفاتيحه، غير مدرك لعهد قطعته على نفسي بألا أتنازل لها عن حق مهما كلفني أمره، وعليه، كان القضاء ملجأي، ووقفت في وجه خصمي بلا محام، فمن أقدر مني يدافع عن ذاكرتي، وجاء اليوم الذي سألني فيه القاضي عن ماهية دعواي، فقلت وشرحت وسمعت وجادلت وتوالت الجلسات، والكل يحاول، أنا في إثبات حقي، والخصم في استبقاء ما حصل عليه، فمن يكتب تاريخ بيت؟ ومن يمهر إمضاءه عليه؟ فأنا مع هذا البيت في دهشة دائمة، بناء يشبه تلك الدمية الخشبية التي تخفي داخلها دمية أخرى، والتي تخفي بدورها دمية أصغر، حتى يصل عددها إلى سبع دمى داخل واحدة، وهكذا بيتي يفاجئني في كل مرحلة ببيت آخر ولكن أكبر، على عكس اللعبة، بيت مختلف عن البيت الذي قبله والذي بعده، ليس في شكله فحسب، بل وفي طلباته وتحدياته، وبينما أشهد تحولاته أصطدم بحجارته ونباتاته المتسلقة وكل ما في طريقي إليه، فلا أتنبه إلى آثار الجروح ولا أكاد أحصيها إن فعلت، فيا نزفي حين يصبح الحلم عذاباً مستمراً. نولد صفر اليدين، ثم نعمل ونكد، ونخفق وننجح، ونتخاصم ونتصالح، ثم ينتهي أجلنا ولا يبقى على الأرض إلاّ ما تقاتلنا من أجله، نتركه وراءنا وكأننا لم نشق به يوماً. وقد كان أن خرجت بعد إحدى الجلسات وتوجهت إلى بيتي المهجور، وكأنه أطلال جئت أبكيها، فاستقبلني حارسه العجوز بابتسامة تواسيني وتذكرني بعمري بعد 30 عاماً، جلست على طوبة مقلوبة، ملقاة وسط أرضه بين أكوام اسمنت وبقايا خشب وحديد، رفعت رأسي أتحقق من سبب معاناتي، سألت روحي هل يستحق الحجر حجم ألمنا ووهمنا به؟ هل تحتاج سعادتنا هذا العناء والاجتهاد منا؟ وكم مرة علينا أن نولد ونموت بعد أن جئناك يا دنيا وقبل أن نغادرك؟ وكيف السبيل للتطهّر من مشاعر غضبنا ممن ظلمنا؟ ولم مع كل خيبة أخرى، تتقلص مساحة التفاؤل فينا؟ وهل نكون بدعائنا لربنا قد أدينا واجبنا أمامه، أم أن خوفنا للتمسك بانجازاتنا هو ما يدفعنا إلى مداومة الدعاء لتأمين أنفسنا؟ ثمة شيء ما في الانتقال من الحلم إلى الاقتراب من تحقيق الحلم! فأنت قد تصبر سنين في انتظاره، ولكن ما ان تراه يتجسد أمامك حتى تصاب بذعر فعلي من مجرد فكرة اغتياله، ومثل بيتي آلاف غيره لنساء أقمن فيه ولم يدفعن الثمن الذي توجب عليّ، ولكن حبنا للشيء ترتفع قيمته باحتراقنا به، وهذا البيت منحني فرصة لتعلم حبه، وكم نُصحت بالتخلص منه، فهمس صوته يرجوني ألا أخونه بالتخلي عنه، فهو لا يريد غيري ساكناً لأرضه، وأنا لا أريد غيره وطناً لأيامي، وقد فاجأته يوماً بسؤال ساذج وأنا أخط على ترابه بعصا التقطتها: كم بقي لي من حزن وكم يلزمني لأنسى قهري؟ فتنهد قائلاً: لا تتعجليني، واحفري ذكرياتك معي في كل أركاني، فهنا بكيت على جداري، وهنا سألتني كم عمر صمتك يا أساسي؟ اتركيني أكبر لتكبري معي، فأنا مثلك متعدد الأعمار، فلعظمي عمر، ولتشطيبي عمر، ولقضيتي عمر، ولانتصاري عمر، فلا تختصري أعماري كما لا تقفزي لتتخطي أقدارك، حتى إذا قيل لك: أي بيت تسكنين! قولي لهم: بل أي بيت يسكنني! [email protected]