كيف ستتطور المواجهات من موسكو إلى واشنطن؟ ربما يضيق المجال للكتابة عن الجواب، في شكل إجمالي، غير أننا نختار تأثير تجاذبات المشهد في السباق الانتخابي للرئاسة الأميركية 2016، لا سيما أن سياسة واشنطن الخارجية تشغل هذه المرة حيزاً واسعاً، في المناقشات والمناظرات الأولية للمرشحين، جمهوريين كانوا أم ديموقراطيين. في مقدّم القضايا الخارجية التي يتبارى المرشحون لجهة إظهار آرائهم فيها تأتي إشكالية الإرهاب، ومواجهة التهديدات الأمنية المترتبة على صعود جماعات ك «داعش» و«القاعدة». غير أن العلاقات الأميركية - الروسية تشهد اهتماماً فائقاً في الجدل الذي يدور في كل مناظرة، وتتمحور النقاشات حول شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهل هو مفتاح للحل أم أداة لتعقيد الأزمات المتتالية مع واشنطن؟ حتى الساعة يبدو أن دونالد ترامب، وفي مفاجأة غير متوقّعة، هو الجواد الرابح للجمهوريين، على رغم عبثية الكثير جداً من تصريحاته، وعنصريته التي لا يعرف كيف يداريها، وفي مقدمها مواقفه من الإسلام عموماً، ومن المسلمين الأميركيين خصوصاً. والمثير أن مواقف بوتين تجد تأييداً واسعاً لدى ترامب، فقد قال أخيراً: «إذا أراد بوتين تدمير داعش، فأنا معه مئة في المئة»، مضيفاً: «أنا لا أفهم كيف يمكن أن نكون ضد ذلك؟ يجب علينا أن نكون أذكى، فنحن لا نستطيع الاستمرار في أن نمثل الشرطي الدولي». ترامب يرى أن العلاقات الروسية - الأميركية لم تصل إلى حالة يرثى لها وحسب، بل يراها مدمّرة بالكامل، ويتعهّد بأنه ستكون له علاقات ممتازة مع روسيا - بوتين حال انتخابه رئيساً. يدافع ترامب عن بوتين انطلاقاً من أنه من غير الجيد استمرار موسكووواشنطن في المجابهة، لا سيما أن لديهما عدواً واحداً يتمثل الآن في «داعش»، ولهذا فمن الأفضل أن يصرف الطرفان جهودهما معاً ضد الإرهابيين، لا على الصراع الثنائي القديم وغير الخلَّاق. في الجانب الديموقراطي، تبدو هيلاري كلينتون الأكثر حظاً، وهي، وإن لم تتناول بوتين بالمدح أو القدح مباشرة، إلا أنها تبدو غير ممانعة في قيام روسيا - بوتين بدور في الشرق الأوسط، تلك الرقعة الجغرافية التي وصفتها بأنها منطقة معقدة في شكل لا يُصدَّق، والمتطرفون موجودون فيها في كل مكان، من شمال أفريقيا حتى أفغانستان. تبدو «البوتينية» وهماً مسيطراً على عقول الأميركيين بالفعل، لهذا رصد البروفيسور إدوار لوزانسكي، رئيس الجامعة الأميركية في موسكو، ترديد اسم بوتين في إحدى المناظرات الرئيسية الأخيرة أكثر من 51 مرة، وبهذا فإنه الرئيس الأجنبي الأول الذي يمثل «حجر عثرة» في تاريخ السباق الانتخابي الرئاسي الأميركي منذ خمسة عقود على الأقل. ولنا أن نتساءل: هل نحن إزاء ارتفاع لشعبية بوتين في الداخل الأميركي، وإن بمقدار لا يتساوق مع حظوظه العالية جداً في الداخل الروسي؟ يبدو الأمر كذلك، والعهدة هنا على الراوي ستيفن ميللر، المحلل السياسي في صحيفة «واشنطن بوست» الذي أرجع ارتفاع شعبية بوتين في روسيا في شكل علني وفي الداخل الأميركي في شكل ضمني، إلى تعطش الأميركيين إلى شخصية قيادية حقيقية، شخصية كاريزماتية لديها القدرة على الفعل من دون التمترس وراء الأقوال الطنَّانة، كما الحال لدى باراك أوباما. الأمر ذاته ينسحب على ترامب الذي يتقدم صفوف الجمهوريين اليوم بعد أن تراجعت حظوظ الكثيرين، لا سيما جيب بوش الذي راهن عليه الكثيرون. السؤال الجوهري الآن: هل ستتغير النظرة الأميركية إلى بوتين، سواء من المرشحين للرئاسة أو من الرأي العام بعد بسط رؤية بوتين لأميركا كونها مهدداً لأمنها القومي؟ قد يقتضي الجواب رؤية مطوّلة للنهضة العسكرية الروسية في مواجهة طموحات الناتو، غير أن بعض الإشارات تُبيِّن أن روسيا - بوتين، تعمل وتتكلم في الوقت ذاته، فقبل حديث الاستراتيجية الجديدة، وغداة انصرام عام 2015، كانت روسيا تعلن حيازتها غواصة نووية جديدة من دون قائد، الأمر الذي يعد سلاحاً نووياً تكتيكياً جديداً، يمكنه تهديد غواصات أميركا وقواعدها البحرية، وكذلك المدن الساحلية الواقعة على شاطئَيْ الأطلسي والهادي، وفي أضعف الأحوال خلق مناطق تلوث إشعاعي بحيث لا تكون صالحة للاستخدام العسكري أو الاقتصادي لفترات طويلة من الزمن. والشاهد أن روسيا - بوتين تتصرف في حدود ما يراه الأميركيون استراتيجية نووية حتمية لمواجهة نظام الصواريخ الباليستية الذي تبناه الرئيس أوباما. الإعلان عن الغواصة النووية الروسية الجديدة، واكبه بيان للناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروف نهار الإثنين 28 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أكدت فيه أن موسكو تأمل بأن يدرك مهندسو النسخة الجديدة من الحرب الباردة، من وراء المحيط، الأخطار والعواقب السلبية لعملية العسكرة المتسرعة لإحدى المناطق الأكثر هدوءاً من الناحية العسكرية في العالم، وأن يتمكنوا من إبداء إرادة سياسية والتخلي عن الخطط والأساليب التي تعود إلى عهد المواجهة بين الأحلاف. يستطيع ترامب وكلينتون، إن أرادا، أن يحاججا بقوة الموقف الروسي - البوتيني، ذلك لأنه، وبتجرّد وموضوعية مطلقين، يتفق والمعاهدات الموقّعة بين روسيا والناتو، فالتمدُّد شرقاً إلى حدود روسيا، والإنزال الأميركي في أوكرانيا، ومحاولة الإخلال بالتوازنات العسكرية الاستراتيجية على حدود البلقان وما إلى جوارها، في حال تنفيذها، ستعتبر انتهاكاً لبند من الميثاق الأساسي «روسيا - الناتو»، لعام 1997، والذي التزم الحلف وفقاً له الامتناع عن نشر قوات قتالية كبيرة في الدول المذكورة في شكل تام. غير أن هناك بين الساعين للحصول على ترشيح الحزبين الرئيسيين في الولاياتالمتحدة للرئاسة المقبلة، من سيجد في خطوط استراتيجية بوتين طوق نجاة يتعلق به ويحاول من خلاله تحسين مركزه في السباق، لا سيما من بين صفوف المحافظين الجمهوريين الذين ترجح كفتهم لغة التهديد والوعيد، ولا يتفهمون سوى آليات العسكرة كأدوات لتسوية النزاعات والمواجهات حول العالم، ما يعود بنا إلى ما هو أبعد من الحرب الباردة، ويدفعون درجة حرارتها إلى الأعلى، ربما في مغامرة غير محسوبة العواقب. تمثل هذا الفريق كارلي فيورينا التي يطلقون عليها في الداخل الأميركي لقب الملكة، تلك الجمهورية العدوانية التي أدعت بأنها تعرف بوتين شخصياً، وأنه يجب التصرف معه من منطق القوة... «ينبغي علينا إعادة بناء الأسطول السادس، ولو كنتُ رئيسة لما تحدثت معه حتى نقيم في سورية منطقة حظر طيران». تأتي الاستراتيجية الروسية الجديدة كذلك لتدعم موقف جيب بوش، والذي يرى مراقبون أنه سيكون الجواد الجمهوري الأسود، مدعوماً بأموال كبار المتبرعين، وقد تحقق الدعم المالي بالفعل، لكن يبدو أن سماته وشخصيته أضعف من أن تبلغ به إلى نهاية السباق. فمن قبل، صرَّح بوش الثالث قائلاً: «أعتقد أنه تجب علينا مواجهة طموحات روسيا»، وإن كان عقلانياً في طرحه، إذ أشار إلى أنه ما من حاجة لإشعال حرب باردة جديدة، وإنما إلى العمل على حماية المصالح الأميركية الاستراتيجية، ومؤكداً أنه عندما تكون أميركا ضعيفة، فإن بوتين يسير إلى الأمام. قبل الإعلان عن الاستراتيجية الروسية الجديدة، بدا كأن عدداً من كبار المتقدمين للسباق الرئاسي الأميركي يتحدثون لغة مشابهة لما تنطق به موسكو، فالمرشح الوحيد الذي يمكن أن يهدد عرش هيلاري، أي بيرني سانديرس، وفي أحدث المناظرات قال أنه «ليس الأسد من هاجم الولاياتالمتحدة، بل داعش، وهذا التنظيم هاجم فرنسا، وفجّر الطائرة الروسية فوق مصر»، وخلاصة قول سانديرس أنه يجب أن تكون الأولوية محاربة «داعش»، كأنه يرفض أن تكون روسيا - بوتين هي الأولى بالمجابهة السياسية إذا استبعدت المواجهة العسكرية. أما المرشح الجمهوري تيد كروز، والذي يعد من أصغر المرشحين سناً (مواليد 1970) فقد ذكر ما نصه: «من الممكن أن يكون الأسد سيئاً، والقذافي كان سيئاً، وكانت لدى مبارك في مصر مشاكل مع دعاة حقوق الإنسان، لكنهم على الأقل كانوا يساعدوننا في محاربة الإسلام المتطرف، وإذا أزلنا الأسد فإن داعش سيسيطر على سورية». هل من تطابق مع لسان حال موسكو يفوق ما قال كروز؟ تضع استراتيجية روسيا للأمن القومي الجديدة حُكماً الأميركيين أمام مفترق طرق، فقد يتعاطى معها بعض المرشحين على أنها تحدٍّ للهيمنة الأميركية حول العالم، والاستثنائية التقليدية لواشنطن الطهرانية - البيوريتانية، التي لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، على رغم أن استراتيجيتها المعروفة ب «الاستدارة نحو آسيا»، تمثل نصاً كلاسيكياً فريداً في «غرور القوة الصلبة». وربما ينظر إليها البعض الآخر، الأكثر تعقُّلاً، على أساس أنها رد فعل طبيعي تقدم عليه موسكو، لا سيما بعد إعلان البنتاغون سابقاً إقامة مستودعات أمامية للأسلحة الأميركية الثقيلة في عام 2016 في بلغاريا ورومانيا وليتوانيا وبولندا وأستونيا وفي عام 2017 في هنغاريا. على أنه تبقى الإشارة إلى مسألة جوهرية مهما يكن من شأن الاتفاق أو الافتراق أميركياً مع استراتيجية الروس الجديدة، وهي أن التوازنات الدولية من موسكو إلى واشنطن تشهد مولد رؤية وموقف جديدين. هذا ما أشار إليه واضعو تقرير منتدى «فالداي» السنوي بالقول: «أن تنامي الفوضى والفلتان في العلاقات الدولية لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، وأننا سنشهد على الأرجح بنية عالمية جديدة تقوم على توازن واقعي، وإن كان غير مثبت بين مجموعتين كبيرتين من الدول». كيف ستؤثر أخبار هذه الاستراتيجية في نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ ربما يكون الوقت مبكراً لاستخلاص جوابٍ شافٍ وافٍ، لكن، في كل الأحوال ستبقى روسيا - بوتين حجر زاوية، وسيركّز عليه المرشحون عيونهم، لما للأمر من اهتمامات وتقاطعات وتجاذبات مع الأمن القومي الأميركي. تلك المسألة التي تُقلق اليوم الرأي العام الأميركي في الداخل، ربما بأكثر من أوضاع البطالة والتوظيف والصحة، لا سيما في ضوء تنامي الإرهاب العالمي. * كاتب مصري