عقد اجتماع اللجنة التوجيهية للسوق العربية المشتركة للكهرباء.. غداً    ضبط مخالف لنظام البيئة لارتكابه مخالفة رعي ب"محمية الإمام عبدالعزيز"    «البلسم» تحتفي بفريقها بعد إجراء 191 جراحة ناجحة    "شاي بالحليب" يوثق رحلة محمد يوسف ناغي    مختبرات ذات تقنية عالية للتأكد من نظافة ونقاء ماء زمزم    أمير عسير يستقبل السفير العماني لدى المملكة    الكويت: ضبط 24 شخصاً بتهمة ممارسة الرذيلة ومخالفة الآداب العامة    ارتفاع قيمة صادرات السعودية من التمور خلال الربع الأول من العام الحالي بقيمة إجمالية بلغت 644 مليون ريال    سمو أمير منطقة تبوك يترأس اجتماع لجنة الحج غداً    مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة" من إندونيسيا    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير فرع الهيئة العامة لعقارات الدولة    هيئة الصحفيين بمكة تنظم ورشة أدوات الإعلام السياحي غدا الاثنين    "زين السعودية" تسجل إيرادات بقيمة 2.5 مليار ريال للربع الأول من العام 2024    التنوير وأشباه المثقفين الجدد    "التخصصات الصحية" تطرح مشروع تحديث التقويم التكويني المستمر    اليوم .. انطلاق فعاليات "المعرض السعودي الدولي للأخشاب ومكائن الأخشاب" في الرياض    مختص مناخ ل "الرياض": المملكة بعيدة عن تأثيرات الانفجارات الشمسية    لاعبو الشباب: هدف التعادل أحبطنا.. والأهلي استغل الأخطاء    القوات المسلحة تشارك في تمرين "الأسد المتأهب"    الأدوية وأفلام الرعب تسببان الكوابيس أثناء النوم    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول الأمطار على عدد من المناطق    استقبال طلائع الحجاج بالهدايا وحزمة البرامج الإثرائية    مخاوف من انتشارها.. سلالة جديدة من كورونا يصعب إيقافها !    اجتياح الاحتلال لرفح يوقف معظم المستشفيات    طبيبة سعودية تنقذ راكبة تعرضت للصرع على متن رحلة جوية    جمعية مرفأ تنفذ دورة "التخطيط الأسري" في جازان    محافظ الزلفي يزور فعاليه هيئة التراث درب البعارين    القبض على مقيمين لنشرهما إعلانات حملات حج وهمية    اكتشاف قدرات الأيتام    انتكاس تجربة «إيلون ماسك» لزرع الشريحة    ميزه للتحكم بالصور والفيديو ب«واتساب»    السعودية وتايلند.. تعزيز التجارة واستثمارات واعدة    مؤسس فرقة «بيتش بويز» تحت الوصاية القضائية    النزل التراثية بالباحة .. عبق الماضي والطبيعة    "هورايزون" و"بخروش" يفوزان بجائزتي النخلة الذهبية    أكبر منافسة علمية عالمية في مجال البحث العلمي والابتكار.. «عباقرة سعوديون» يشاركون في آيسف 2024    100 مليون ريال في المرحلة الأولى.. "جونسون كنترولز "تصدر" تشيلرات يورك" سعودية الصنع إلى أمريكا    كنو: موسم تاريخي    صحف عالمية:"الزعيم لا يمكن إيقافه"    الماء    مصادر «عكاظ»: لا وجود ل «المسيار» أمام المحاكم.. تراخيص المكاتب «هرطقة»    براعم النصر .. أبطالاً للدوري الممتاز    مجلس الأعمال السعودي الأمريكي: السعودية تشهد إنجازات كبرى لصياغة المستقبل    خبراء صينيون يحذرون من تحديات صحية ناجمة عن السمنة    حذروا من تجاهل التشخيص والتحاليل اللازمة .. مختصون: استشارة الإنترنت علاج مجهول    حملة للتوعية بمشكلات ضعف السمع    الشمري يرفض 30 مليون ريال.. ويتنازل عن قاتل ابنه بشفاعة أمير منطقة حائل    الطلبة الجامعيون وأهمية الاندماج في جميع المناطق    جودة النقد بين نور والهريفي    مساحات ثمينة    أول دوري للبادل في العالم.. وقفات ومقترحات    الإسقاطات على الكيانات !؟    وما زال التدهور يخيّم في الأفق..!    القيادة تعزي ملك مملكة البحرين    أمير الرياض يتفقد المجمعة ويدشّن مشروعات تنموية    المدينة أول صديقة للتوحد بالشرق الأوسط    الأمير مقرن بن عبدالعزيز يرعى حفل خريجي جامعة الأمير مقرن    جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة السادسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرواية أرض شهلا العجيلي ووطنها
نشر في الحياة يوم 16 - 07 - 2015

تأتي رواية «سماء قريبة من بيتنا» (منشورات ضفاف والاختلاف) للكاتبة السورية شهلا العجيلي بعد روايتيها «عين الهرّ»، و «سجاد عجمي»، فضلاً عن قصصها القصيرة ودراساتها في النقد وعلم الجمال. منذ قرأتُ أول رواية لشهلا وجدتُ أنها، رغم دراستها وعملها الجامعي كأستاذة لعلم الجمال، تعرف أنها تكتب فناً. ما تحصلتُه من معرفة لا يبدو ناشزاً وسط السرد، أو لا يتمرد عليه ليكون مقصوداً بذاته. وبرغم أن كثيراً من المعرفة، التصوف والتاريخ ودراسة الأديان والفنون وعلم الجمال والفلسفة، يكمن في روح الرواية وشخوصها. في هذه الرواية، المعرفة تتسع لكنها تصبح مفردات لنسيج ملحمي باهر لعمل روائي فاتن. أرادت شهلا، على ما يبدو، من هذا العمل أن تمسك بالعالم كله، مع أن مركز الأحداث هو التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، سورية بالأساس. هنا تدخل الكاتبة في التاريخ. لكنه دخول محاصر بالجغرافيا، عدونا الأول، كما يقول إدوارد سعيد، وكما تقول الراوية «جمان». سهل أن تحكي حكايات الماضي، ولكن هنا تصل الحكايات إليك تغيراً في المكان وتتوق نفسك مع شخصيات الرواية إلى أماكن صارت حلماً من أثر كوارث جاءت من بلاد أخرى. المدن الجميلة صارت لا مرئية، أساطير «تنادي» أصحابها.
المواءمة بين المعرفة والفن وبين الألم والبهجة، هي العمل الشاق الجميل للكاتبة، هنا لاتساع مساحة الأزمنة والأمكنة وتعدد الشخصيات قياساً على عمليها السابقين. وهكذا تكمل بشغف قراءة الرواية، بين مرض الراوية «جمان» بالسرطان الذي لا يظهر إلا بعد حكي سنوات طويلة من التاريخ ضاعت فيها أمم وبلاد وبشر. كأنه بداية النهاية التي تصرّ الراوية «جمان» أن لا تحدث برغم ما يحيط بها في العيادة من مرضى وحكايات تكمل تاريخ تفكك العائلات والأوطان أيضاً، بدءاً من الحقبة الاستعمارية إلى ما تلاها من استقلال وسياسة ديكتاتورية وما يحدث من صراع بين الحكم والفصائل الإسلامية الشعار. وهي ليست وحدها. في المقابل هناك «ناصر العامري» الذي أيضاً خلفه ماض تبخر وحاضره قائم بلا يقين.
وهناك كذلك المدن التي كان كل شيء يقترن فيها بالمدن الأوروبية وتحمل تاريخها القديم حاضراً في عز، وأحياؤها التي تتأنى الكاتبة في استعادتها وتقيمها في متعة تواجه بها أنت من جعلوها خراباً أو لغير أهلها. حلب والرقة ودمشق واللد وحيفا ويافا وبغداد وغيرها. هنا ترابط الأسر لم يتفكك بفعل التطور الاجتماعي بل بفعل الخراب الذي حملته الجغرافيا من استعمار قادم أو قديم، وغرباء يدعون أنهم يملكون العالم فهم المؤمنون بالإسلام يبحثون عن عزه بخراب الأمم!
الراوية جمان تسرد حكايات الجميع. تختلف اللغة بين الأسى والمرح وتظل طفولية مؤمنة بأن السماء قريبة من بيتها. لا تقول ذلك إلا في نهاية الرواية بعد أن نكون وصلنا إليها في أسى ومتعة آسرة. نهايات الفصول عند شهلا العجيلي هي سحر قديم تأخذك فيه الغرائبية إلى مكان أعلى. كل أبطال الرواية طردتهم الجغرافيا ويريدون لهم تاريخاً. لكن من الجغرافيا لا تزال تخرج الشياطين. وفي كل مكان يذهب إليه الأبطال أو يستعيدون ذكراه تجد حضوره مجسداً بلغة فنية رائعة على رغم أن الأماكن تمتد من شرق آسيا وأفريقيا إلى أوروبا وأميركا. كاليفورنيا وبرلين وبلغراد وهانوي وكابول ومومباسا وغيرها. يصبح الجهد المعرفي مجسداً بنايات وسفناً وطائرات وغارات وحوادث وممارسة للعلم وفنوناً وبشراً. ناصر، يقول لجمان: «أنا ليس لي بيت»، مشيراً إلى رحلة الخروج من فلسطين، وهي تقول له تعليقاً على صراع الحكم وفصائل المعارضة والوضع البائس الذي وصلت إليه سورية: «أنا لست مع أحد. أنا مع بيتنا». والبيت هو الوطن لغة وتاريخاً وواقعاً. ناصر الذي له قصة وجود ملحمية من الكفاح ينتهي بأن تتركه زوجته الأجنبية إلى جزيرة «جالاباغوس» مع السلاحف ويهيم هو بالطرب العربي ما بقي له من وقت.
زواج العمة لمياء بالعراقي وطلبها مهراً بسيطاً جداً، أن يضع لها في قاعة السينما التي يملكها في بغداد مقعداً خاصاً بها وحدها. حلم صغير جداً، لكن جغرافية العالم تصل إلى العراق وتقع الحرب ويتم تدمير السينما. يصل الأمر إلى من هم أقرب إلى الراوية جمان. إلى «جود» أختها في زمن متأخر - زمننا - إذ تقع أسيرة لحديث مجاهد من أفغانستان وصل مع من قذفتهم الجغرافيا إلى «الرقة» ويبكي الأب لأنها ستختفي معه وهو غير قادر على منع ذلك فسيأخذونها منه أراد أم أبى. جغرافيا أخرى وتاريخ منبت وليس لنا نحن القراء إلا دموعنا مع دموع الأب. ما أكثر ما تكاد دموعنا تقفز لولا براعة الكاتبة التي تنثر في الرواية كثيراً من المواقف المضحكة تأخذك بعيداً من الهموم لتقول لك: هنا بشر عاديون، وتنسى أنهم من إبداعها. فالشاب باسل يدخل ليصلي وهو لم يعرف عنه ذلك فتتعثر رأسه بذيل جلباب من يسجد أمامه، بل وتدخل تحت الجلباب. والجدة تحلم بزوجها الميت يتزوج من جارتهم أم بشار وبعد أن تقص الحلم مغتاظة تموت أم بشار فتحمد الله أن الجد أخذها معه، كأنه كان يمكن أن يتزوجها! أو كما تعود بك جمان في رحلة إلى «بورت فينو» في إيطاليا، كان أبوها حريصاً عليها كل صيف فترى داليدا، المغنية المصرية الأصل، وينسكب غناؤها في الرواية والبهجة التي يجسدها هذا الفصل ماءً رقراقاً يساعدك على متابعة الرحلة مع جمان والسرطان.
شخصيات كثيرة تحتاج إلى مقال منفرد مثل الشيخ عمر البطش، وعم جمان؛ يوسف بدران وأخوها سهيل بدران وعمتها سويداء وابن عمها قيس بدران ونجوان ويعقوب الشريف، ورشيد شهاب، ونبيلة علم الدين، ونسيب، وأختها سلمى وهانية وغيرهم، وكلها حكايات تبدأ بالفرح وتنتهي باللامعقول أو العجائبي الذي يجعل الأسى والفقد محتملين. رحلة هؤلاء جميعاً هي رحلة الراوية «جمان»، عبر الجغرافيا والتاريخ، معرفة وتجربة، جمان القلب القوي الصامد للمرض برغم أن الصدق الفني يجعلها تبوح بالاستسلام في لحظات ضعف إنساني ورغبتها في الموت كحل مريح من عذاب المرض. لا بد أن تفتن جمان الناقد ليراها معادلاً موضوعياً عن المقاومة.
وإن كنت لا أحب هذا، رغم أنه تفسير مقنع. يكفي جمان أنها أقامت دنيا ضاعت، وكيف لا تزال تحيا تبحث عن بيتها فأمتعتنا بعمل فني رفيع. روحه الملحمية إضافة رائعة للرواية العربية. أضافت مفرداتها عناء كبيراً في الكتابة والمعمار كما قلت وكما أتصوره ككاتب وأحيي صاحبته وأشكرها. إن أسهل تلقٍ لهذه الرواية أن تقول إنه في سيرة جمان كثير من سيرة شهلا لكني أيضاً لا أحب ذلك، فللسيرة لغة قاطعة، وللرواية لغة مجنحة بين الحيرة واليقين.
وإن كنت طبعاً لا أقطع على أحد طريق دراسة السيرة والرواية. لقد أعادتني شهلا العجيلي إلى زمن ومتعة قراءة روايات لا علاقة لها أبداً بهذه الرواية غير ملحميتها، مثل الدون الهادئ ودكتور زيفاجو. وكما قال ناصر لجمان: أنت مثل «جايا» ربة الأرض. بدت لي جمان كذلك حقاً. في الرواية ضياع لكل من ارتفعت قدماه بعيداً من الأرض عنوة أو رغبة. جمان تعيد الحياة إلى ما تناثر وتشتت من بشر وأمكنة وتصبح الرواية أرضاً ووطناً، وهنا تعطينا الرواية مفتاحاً آخر للفهم والتفسير والمتعة ما أجمله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.