المدن والاوطان والامم لاتقاس بحضارتها المادية البحته من اكوام خرسانية وحديد تسمى ناطحات سحاب وابراج تجارية وسكنية وشوارع فسيحة وحدائق غناء , فهذا معيار شكلاني يعنى بالظاهر المزيف المؤقت . فمهما اغدقت علينا وعلى مدننا الناشئة خطط التنمية العملاقة وتكرمت وبذلت من منجزات رائعة لمزيد من توفر المدن العصرية بقلاعها الخرسانية والفولاذية والمزججه ومهما امتلئت وانتشرت في بقاع مدننا الصحراوية اللاهبة الاشجار الوارفة الظلال والمسطحات الخضراء والطرق الواسعة الجميلة والممرات المرصوفة . ومهما شيدت من سدود وطرق ومصانع , ومهما اكبت برامج ومشروعات التنمية على البذل بكرم في تحويل مدن الازعاج إلى مدن الراحة والهدوء , ومدن الملح والصفيح إلى حواضر تتمتع بالرفاهية خبراً ومخبراً , ومهما إنشئت الجسور والميادين والطرق المزدوجة والمتعددة الادوار في سبيل القضاء على الازدحام وتلبية رغبة الإنسان المتسارع في يومياته . وإن كان قد تم تكامل البنية التحتية لأغلب الخدمات فإن بنية المثل والقيم بدأت بالانيهار , و مع كل هذا كم خسرنا , وكم لم نتعهد الناتج في القيم التي تتضائل ومامدى الآثار العكسية لفقدان كثير من قيمنا العربية والإسلامية من فضائل الصدق والامانة والاخلاص والمروءة واتقان العمل , واخطرها جميعاً غياب حس الاستخدام الامثل لكل مخرجات التنمية , فلم يعد مهما كم انشئ من موقع خدمي إذا كان الحس بالشأن العام والممتلكات العامة يبدأ غيابة مع أول قص شريط الافتتاح لهذا المشروع أو ذاك . كم ننسى في خضم التسارع للحاق بركب العالم النهضوي المتقدم , أن الامم والاوطان والشعوب ,إذا ذهبت اخلاقها وقيمها , ذهبت سكينتها وراحتها وامنها النفسي والاجتماعي والوطني , وصارت التنمية غصة وعذابات نهار ومعاناة يومية , حتى لو تحولت مدنها وقراها وصحراؤها إلى جنان غدقية , تحفها التنمية الحضرية في كل اتجاه . أليس من الرشد تخصيص وصرف مقدار مايصرف على الخرسانات والحديد وتنمية المدن اسمنتياً من مليارات سنوية , أن يخصص جزء منها لتنمية المثل والاخلاق والقيم واهمها الحس الوطني وعشق الاستخدام الامثل والناضج لكل متوفرات مدننا الناهضة . من الخاسر حين تغيب قيمة فضيلة الصدق مثلاً بين الناس وينشأ كل يوم برج تجاري عملاق حتى لو كانت لبناته من العسجد بدل الاسمنت !, ومن الخاسر حين تمتد الانانية والأثرة كسرطان في بيئة اجتماعية مسلمة ومسالمة لحساب كسب تحفة معمارية , وزخم في العطايا والهدايا التنموية اليومية , فحين يغيب الإنسان عن وجودة كقيمة وشعور ومثل , فهل لوجودة المادي أي خير ونفع !, كجسد استهلاكي متغوّل , لتنمية تبصر بعين واحدة وتمشي بقدم واحدة . إنها القيم ياسادة , إن طمرت ودفنت وتلاشت تحت قواعد خرسانية نسكنها وننتفع بها , فأول ماينهار مبنى القيم والمثل على اصحابه واهله , و الذي لايمكن تعويضة بصفقة أو برنامج أو مشروع تنموي مهما تعاظم . أن مفهوم التنمية في ذاته يفتقد إلى الخيال الواسع، وإلى الرؤية الاخلاقية العميقة، وأنه مفهوم متحيز على المستوى الإدراكي لصناعة قيم تقاس بالوزن والكيل والمتر والكم والارقام وتغييب حس التعامل الاجتماعي بروح الفضيلة لابروح القيمة المادية . إن التنمية حين تكون مفهوم اقتصاد رقمي لا يعني شيئا، ويؤدي إلى تبسيط مخل، وتعميم مدمر لحياة الإنسان ، وحين يفرض هذا المفهوم المادي للتنمية ذاته في كل شيء: في العمارة، وفي الملابس، وفي الفنون، وفي اللغة , وفي قيم الاستهلاك والتناول واليوميات , إنما يطرح عقيدة جديدة هي السوق والشارع والمبنى الخرساني . من هنا نحتاج إلى فعل يهدف إلى إنقاذ الذات الاجتماعية من الفعل التنموي , الذي اصاب الإنسان في قيمه وتم تحويله إلى مشروع مادي \"أنقذوا قيمنا \" هي صرخة الحاجة التنموية الملحة ، وليس \"طوروا مدننا \" فحين يهدف التخطيط التنموي إلى صناعة الإنسان الاقتصادي، وهو كما يرى \"برتو\": \"الإنسان المتمحور حول الذات، المتحرر تماما من كل الالتزامات الأخلاقية أو الاجتماعية\" إننا إزاء ما أسماه \"د. عبد الوهاب المسيري\" الإنسان المتحوسل أي المتحول إلى وسيلة، ويعمل بلا انقطاع للجمع والتكديس والترفية والتسلية والسرف , ضارباً بالقيم عرض الارض , فلا مجال للتساؤل عن فائدة وقيم التنمية، ونتائجها العكسية إن إدارة التغير الاجتماعي باسم التنمية آحادية المنهج , قد أعدت المناخ والوسط الملائم لأنتاج الإنسان الذي يقاس بالكم وحاجته اليومية بالتراكم , فمثلا لكل خمسة الاف شخص نحتاج إلى حديقة وشوارع مرصوفه ومركز تسويق , وليس كيف نجعل خمسة الاف شخص يعشقون ويولوعون بالفضائل ويسعون لتجسيدها سلوكياً في حياتهم ألم يحن الوقت لنستعيد إحساسنا بالحياة، ألم يحن الوقت لنستعيد السكينة والهناءة بالعيش ، لا داعي لاستخدام عكازات تقدمها التنمية الحضرية ذات البعد الواحد المادي فعندما يكون بوسع المرء تحقيق أحلامه الخاصة، وليس تلك الأحلام المستعارة من مفهوم وحيد ؛ كمفهوم التنمية الناقص قيمياً , مما يدعو إلى ضبط ايقاع التنمية للعزف على وتر القيم والمثل وليس التغني بالماديات الاستهلاكية الزائله . عبدالعزيز السويد