- الرأي - بدرية عيسى - جازان : في قلب الجنوب السعودي، وعلى ضفاف البحر الأحمر، تقف جازان شامخةً بتاريخٍ ضاربٍ في الجذور، تختزل في تضاريسها الوعرة وسهولها الخصبة حكايا المجد والصراع والتحوّل. لم تكن جازان يومًا مجرد بقعة جغرافية على خارطة الوطن، بل كانت وما زالت مسرحًا لأحداثٍ تاريخية صنعت ملامحها وأثرت في نسيجها الاجتماعي والثقافي. ومن بين صفحات الزمن، تبرز وقائع مفصلية شهدتها هذه المنطقة، لتروي لنا قصة شعبٍ صامد، وهويةٍ لم تنكسر، وأرضٍ حافظت على خصوصيتها رغم تعاقب الأزمنة. معركة حنتر: في واحدة من أبرز المواجهات التي شهدها المخلاف السليماني خلال الحقبة العثمانية، وقعت معركة حنتر في موضعٍ يقع قرب قرية الحسيني من وادي صبيا، وكان لها أثر بالغ في توتير العلاقة بين الأشراف والسلطة العثمانية. تقدمت قوات الأتراك إلى موقع حنتر، وقد بلغت قوتهم حوالي مئتي فارس، مدعومين بما يقارب ثلاثمائة بندقية، يقودهم ضباط العثمانيين تحت راية الإمبراطورية. وحين وصلوا إلى الموضع، نشروا سنجقهم العسكري، وضربوا طنابيرهم ونقاقيرهم، وأطلقوا استعراضات خيولهم، في إعلان استعلائي عن قوتهم وسط المنطقة. في المقابل، كانت قوات الأشراف – بقيادة الشريف دريب بن مهارش بن عيسى بن حسين الخواجي – قد احتشدت من مختلف نواحي المنطقة، من صبيا، الحسيني، ضمد، الظبية، بيش، وجازان، مدعومين بعددٍ كبير من أبناء القبائل العربية المحلية. قدّر عددهم بنحو ألفي مقاتل، إضافة إلى أكثر من مئتي خيل. ما إن التقى الجمعان حتى انطلقت بنادق الأتراك في محاولة لتمهيد التقدم، لكن سرعان ما التحم القتال المباشر بين الطرفين، لتتحول المعركة إلى صراع شرس دامٍ. كانت الغلبة في نهاية المطاف للأشراف وقبائلهم، إذ أُجبر العثمانيون على التراجع بعد تكبدهم خسائر فادحة، ووقع عدد كبير من القتلى في صفوفهم. استولى الأشراف بعد المعركة على كميات ضخمة من الأسلحة والمعدات العسكرية، شملت الدروع، الخوذ المذهبة، أقمشة الجوخ، والبنادق، حتى قيل إن "الفقير منهم استغنى"، في إشارة إلى حجم الغنائم. مثّلت هذه الواقعة تحولًا في ميزان القوى المحلي، وأسفرت عن توترٍ واضح في العلاقة بين الأشراف والسلطة العثمانية. وقد أسرع الأمير فرحات حينها بالعودة إلى أبي عريش، رافعًا إلى الباشا فرحات في مدينة صنعاء تقريرًا مفصّلًا عن هذه الهزيمة الثقيلة وما رافقها من تداعيات. هكذا، سجّلت معركة حنتر حضورها كصفحة مشرقة في مقاومة أهل المخلاف السليماني للنفوذ العثماني، وكواحدة من اللحظات التي جسدت قدرة الأشراف والقبائل على الدفاع عن أرضهم وكرامتهم. ■ . تاريخ المخلاف السليماني – محمد العقيلي