تمثل عودة الملك عبدالله حدثًا كبيرًا في المجالين السياسي والداخلي لما تملكه المملكة العربية السعودية من ثقل كبير في العالم أجمع ، فالسعودية هي ينبوع التراث العربي واللغة العربية ، وهي جزيرة العرب ومنها انطلقت العروبة وأشعت شمسها على أرجاء الوطن العربي الشاسع الأطراف كافة ، كما انبثقت الرسالة الإسلامية من هنا ، وانتشرت تعاليمها ومبادئها العالمية والكونية في كل مناحي العالم ، أما من الناحية الاقتصادية ، فالسعودية هي أضخم بلد يملك خزينًا بتروليًا ، هذه العناصر الثلاثة لها جانبان مثاليان وروحيان (العروبة والإسلام) ولها جانب مادي صرف (البترول) ، ولا يمكن فهم وتفسير مكانة السعودية إلا عبر هذا الثالوث الخطير والمهم. ومنذ عهد التأسيس على يد الملك عبدالعزيز مرت المملكة بأحداث حرجة وكثيرة كما مرت بالفتن والقلاقل ، وهذا كله يحسب من ضمن بديهيات أي نظام بشري واجتماعي لا بد للساسة من أن يحسبوا حسابه عند التعامل معه ، وتوحدت المملكة عبر جهود الحاكم والمحكومين ومن خلال معارك كثيرة وتضحيات جسيمة ، وجاءت مجهودات الملك المؤسس عبدالعزيز متوجة لطموحات أبناء الأقاليم كافة بوجود دولة فتية وقوية تشكل محورًا للعروبة لا سيما وأنها تتمركز في قلب الجزيرة ، والملاحظ للسياسة السعودية في الآونة الأخيرة ومنذ تولي الملك عبدالله مهامه سيدرك أن نطاق الحريات والإصلاحات تحسن بشكل ملحوظ ، ففي عهده تطورت الصحافة السعودية عن السابق ، وصار سقف النقودات أعلى بكثير من الأزمنة الماضية ، كما تطورت الحريات ليمس النقد جانبًا كبيرًا كان في الماضي ضمن المحرمات ، وفي عهده أشير لمكافحة الفساد والرشوة ، وكان للملك موقفه الواضح ضمن هذا الإطار ، وأيضًا بدأ الاعتراف الرسمي بحضور المرأة كخطوة أولى نحو منحها حقوقها المؤجلة. وبعد مجيئه من الخارج وتماثله للشفاء التدريجي أعلن الملك عن قرارات إصلاحية كثيرة تمس حياة المواطنين بشكل مباشر ، وهذا ما يدفع للتفاؤل بخصوص المستقبل القريب ومدى تفاعل الحكومة السعودية برئاسة الملك عبدالله مع واقع التحديات والتغيرات الكثيرة التي تحاصر المنطقة ، وقد تميّزت سياسة المملكة طوال فترة الملك بنوع من الهدوء والسكينة وعدم التهور أو الشطط في إصدار المواقف أو الانزلاق خلف قرارات غير محسوبة ، وهذا الهدوء النسبي سببه الأساسي موقع المملكة وما تمثله من أهمية كبرى بالنظر للعناصر الثلاث المذكورة آنفًا. غير أن هذا كله يزداد فعالية في ظل الإصلاح المستمر الذي دأب عليه خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ومطالب التجديد والتطوير لا على المستوى الحكومي والوزاري فحسب ، ولكن على المستويات الشعبية والإدارية والاقتصادية والفكرية كافة. إن المملكة تمر بمرحلة انتقالية بين العصور التقليدية والكلاسيكية والمرحلة العصرية بكل تعقيداتها وتحدياتها ، ولا بد من الإشارة لرمزية (عودة الملك) وتعافيه بأنها رمزية تعني النظرة المتفائلة والمستقبلية والمندفعة نحو الأمام ، وليست النظرة المتشائمة والمحبطة والتي لا تنظر من الأمور إلا أسوأها ، وهنا ينبغي أن نفرق -كما يقول قسطنطين زريق- بين القلق الإيجابي الذي يوقظ الإنسان ويستفزه على الحراك والنهوض والقفز فوق الحواجز المانعة ، وبين القلق السلبي المحبط المدمر الذي يقف كالجبل أمام الإنسان ويجعله يتعثر في كل خطوة يخطوها. وثمة أسئلة ينبغي طرحها في هذا المقام ، مقام عودة الملك سالمًا مُعافى من رحلة العلاج والتطبب : أول هذه الأسئلة يتعلق بمستقبلنا القريب ودورنا في صناعة واقعنا الذي يؤثر بدوره في المناطق المجاورة لنا ، وهذا السؤال تجيب عليه سياسة الإصلاح الشاملة التي بدأها خادم الحرمين الشريفين وما زلنا نسير في فلكها ، والتي من المتوقع أن تجعل معدلات الانفتاح الفكري والسياسي تتقدم إلى الأمام ، وثاني هذه الأسئلة يتعلق بمدى الإصلاحات المتحققة في مجال المحاسبة والنقد والشفافية في الأداء الإداري لمؤسسات الدولة ، وقد ضرب الملك مثالًا جيدًا في دعم هذا التيار عندما أقر بنفسه بوجود خلل جسيم يعتري الأداء المؤسساتي للقطاع العام (في كارثة جدة الأولى) وأنه لا مفر من تبني آلية المحاسبة والمعاقبة لمن قصر بدوره وبوظيفته ومسؤوليته.