لم تكن طفلة "مهد الذهب" ذات الأعوام الستة هي الضحية الأولى، فكل حكاية تبدأ باستدراج ثم اعتداء وفي النهاية تنتهي بموت الضحية أو بجرح نفسي لا يندمل مع مرور سنوات العمر، يكون أصحابها ضحايا. فال"التحرش الجنسي" كلمة يرفضها المجتمع، وتتلعثم ألسنة الكبار في نطقها خشية من سطوة العيب والحرام، بينما تبقى الضحية في ألم لسنوات أو تنتهي حياتها في لحظات تحت سطوة المعتدي وخوفه من أن يكشف أمره. حادثة طفلة مهد الذهب جاءت لتنعش ذاكرة المواطنين الذين لم تغمض أجفانهم لأشهر خلال العام الماضي وهم ينتظرون القبض على سفاح حائل الذي اختطف خمسة أطفال قتل أصغرهم وهو لا يتجاوز الثالثة من عمره، ولم يكد حكم القصاص ينفذ بالجاني حتى صعقهم خبر مقتل الطفلة. فالطفلة التي لم يكن لها حول ولا قوة سوى تهديد قاتلها بأنها ستبلغ والدها بما كان من المجرم، تحولت إلى جثة هامدة بعدما تخلى الشاب عن إنسانيته وسارع بضربها على رأسها بوتد الخيمة، ليعود ببراءة لوالدها المكلوم ويشاركه في البحث عنها أو عن جثتها. ولا تخبو حادثة حتى تلاحقها حادثة أخرى تنتهي بجثة طفل انتزعت منه حياته، فحادثة حائل تزامنت مع ما عرف في مدينة الرياض بجريمة حي السلي، جريمة أخرى كانت بدايتها استدراج لطفل وانتهت بمقتل الطفل ووالده على يد المجرم بوحشية. الطرف الأضعف وليس من المستغرب أن تنتهي بعض جرائم التحرش الجنسي بقتل الضحية باعتبارها الطرف الأضعف في الجريمة، فبحسب الدكتور إبراهيم الزبن أستاذ مساعد علم الاجتماع الجنائي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فإن المجرم غالباً ما يعمل وفق ما أسماه نظرية الفرصة الاجتماعية. وأوضح أن "هذا يعني أن يكون هناك غياب ممن لديه القدرة على المنع، مثل ذوي الطفل، أو رجال الأمن أو الجيران، وكذلك وجود الضحية، ومن لديه القدرة على ارتكاب الجريمة"، مشيراً إلى أن الطفل يعتبر ضحية يسهل الوصول إليها، خاصة في حال غياب الرقابة عن الطفل. وقال الزبن: "ليس هناك شك أن من يرتكب مثل هذه الجرائم شخص غير سوي لديه مرض نفسي، أو سوابق"، مشيراً إلى أن الدراسات أشارت إلى أن الكثير ممن يتعرضون للتحرش في صغرهم قد يتحولون إلى متحرشين في كبرهم. وأضاف: "ربما يستغل الجاني أن الطفل خاصة في سنوات عمره الأولى لا يمكن أن يحدد هوية الجاني أو مرتكب الجريمة"، مشيراً إلى أن المجرم قبل القيام بجريمته يقيس فعلته بمدى الخسائر أو المنفعة التي يمكن تحقيقها من الجريمة. ويى الزبن أن هناك ثلاثة أسباب قد تدفع أي متحرش جنسي لقتل الطفل الضحية، قائلاً "قد يكون المجرم سادياً، وله سمات أخرى غير "الجنس"، ويتلذذ بالقتل"، مضيفاً "ربما يعتقد بعضهم أن الطفل في هذه الحالة يشكل عليه خطراً مما يدفعه للتخلص منه". وقال "وقد يعتقد أن تخلصه من الطفل قد يخفي جريمته". التحذير الحذر وأكد الزبن في حديثه ل"سبق" أنه لا يمكن تحديد من قد يشكل خطراً على الأطفال، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن المعتدي قد يكون إنساناً تبدو عليه سمات الصلاح ولا يمكن الشك فيه أبداً. ونوه إلى ضرورة أن يحذر الآباء أبناءهم ولكن دون المبالغة في ذلك حتى لا ينشأ الأطفال مضطربين أو قلقين، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الدراسات أشارت إلى أن معظم الأطفال الذين يتعرضون للتحرش يكون ذلك على يد قريب أو على يد شخص تثق به العائلة. ولم يقبل الزبن أن يعتبر قتل الأطفال ظاهرة في المجتمع السعودي، قائلاً "مجتمعنا يتمتع بميزة تميزه عن الكثير من المجتمعات وهي الوازع الديني، وما يحدث لا يعتبر ظاهرة مقارنة بمجتمعات أخرى غربية". التوربيني مثالاً وتعد أشهر الحوادث على الصعيد العربي وأكثرها بشاعة ما حدث في مصر على يد شاب عرف في وسائل الإعلام في حينها ب "التوربيني" قتل بمساعدة عصابته أكثر من أربعين طفلاً بعد أن اغتصبهم على ظهر القطارات. وذكرت وسائل الإعلام أن عبد الرحمن أو التوربيني قتل بمفرده أكثر من 25 طفلاً وألقى بجثثهم في أماكن مختلفة. من المؤكد أن ما يحدث في المجتمع السعودي لا يعدو كونه حوادث فردية، ولكنها تكشف بين الفينة والأخرى مشكلة كبرى، حيث أظهرت دراسة حديثة أن ربع الأطفال السعوديين يتعرضون للتحرُّش بجميع أشكاله، وأن أكثر من 70% من المعتدين على هؤلاء الأطفال من المحارم (أب، أخ، عم، خال). وقال د. علي الزهراني، معد الدراسة، والتي حصل بها على الدكتوراة من قسم الطب النفسي بجامعة أدنبرة باسكتلندا "إن 62.1 % رفضوا الإفصاح عن الأشخاص الذين أساءوا إليهم لحساسية العلاقة التي تربطهم بهم، بينما صرح 16.6% منهم أن الأقرباء هم الذين أساءوا لهم جنسياً، وقال 4.8 % أن إخوة هم من فعلوا بهم ذلك، و12.3% أصدقاء و 2.1 % معلمين، بينما تنخفض النسبة إلى 1 % لكل من الآباء والأمهات. كما أكدت دراسة أخرى أجريت في مركز الرعاية الاجتماعية بالرياض أن 80% من المعتدين على الأطفال من الأقارب، وأن 8 من كل 10 حالات يكون المعتدي شخصاً يثق فيه الطفل أو يحبه، فيستغل المعتدي هذه الثقة أو الحب ويغري الطفل للانخراط في ممارسات لا يعرف الطفل حقيقتها وينخدع بها في البداية. تخوف وقلق وبدا وقع خبر طفلة مهد الذهب على بعض الآباء شديداً، مبدين تخوفهم من أن يتعرض أطفالهم لمشاكل مماثلة دون أن يستطيعوا مواجهتها. وقال أبو عبد الرحمن وهو أب لخمسة أطفال إنه يسعى دائماً لمحاورة أطفاله وتخويفهم من الغرباء. وأضاف "في بعض الأحيان أشعر أني أبالغ ولكن كلما سمعت خبراً مماثلاً ينتابني الرعب من أن يكون طفلي لا قدر الله ضحية لمثل هذه الأفعال". في حين أكدت أم سعد (أم لطفلين) أنها تكتفي بإعلام طفليها أن هناك أماكن خاصة لا يمكن لأحد لمسها، وأن عليهم إبلاغها في حال تعرضا لمضايقات، قائلة "لا أشجع تخويف الأطفال ولكن في الوقت ذاته أعتقد أن الصراحة بين الأهل والأطفال كفيلة بحمايتهم. حد الحرابة من جانبه قال رئيس لجنة المحامين بالمدينة المنورة سلطان بن زاحم في تصريحات سابقة ل"سبق" إن قاتل طفلة مهد الذهب مصيره القتل حداً للحرابة، مؤكداً أن لا أولياء الدم لا يملكون التنازل عن هذا الحد "لأنه لا يعد قصاصاً" ولا ولي الأمر"باعتباره قتلاً تعزيراً"، وذلك لبشاعة جرمه وانتشار فعله الذي عاد بنا إلى "سفاح حائل". واعتبر بن زاحم جريمة قتل الطفلة من جرائم الإفساد في الأرض التي تقدر بأنها حرابة لبشاعة الجرم ليكون ردعاً عاماً ليقطع دابر تتابع هذه السلسلة من الجريمة التي بدت تظهر في مجتمعنا في الآونة الأخيرة