الأستاذ علي موسى كتب في الوطن (17/2/1435ه) إن فعل النكاح بنية الطلاق بأن هذا الفعل جريمة لا تغتفر، مع أنه في شرع الله لا يحدد معاني الجريمة أو الإثم أو الثواب أو العقاب إلا شرع الله ذاته فكيف يوصف هذا العقد بأنه جريمة؟ فالجريمة يكتنفها خروج عن شرع الله وأحكامه. فهل عقد النكاح بنية الطلاق فيه شيء من ذلك؟ لقد أقر أئمة الفقه وأصوله منذ فجر الإسلام إلى أيامنا هذه، بأن النية أيا كانت لا أثر لها في صحة العقود كلها سواء كان عقد نكاح أو بيع أو تأجير أو شراء وأي صرف من معاملات الناس وارتباطاتهم، فلو اشترى رجل سيارة لينقل فيها مخدرات أو استأجر شقة يفعل فيها المحرمات أو اشترى أرضا ليبني عليها مصنعا للخمور فهل كل هذه العقود باطلة؟ بل هذه العقود كلها صحيحة لا غبار عليها، والنوايا والمقاصد مردها إلى الله سبحانه وتعالى عالم الغيب والشهادة وهو سبحانه يحاسب العباد على النوايا أكثر من الأفعال، كما قال تعالى (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله وأدركه الموت فقد وقع أجره على الله)، فهذا الرجل نوى الهجرة ولم يفعلها ومع ذلك أعطاه الله سبحانه وتعالى الأجر والثواب. وقد يقع الطلاق البائن على امرأة ثم كلا الزوجين يرغب في الرجعة، لاسيما إذا كان ثمة أطفال بينهما. فهل إذا عقد امرؤ نكاحه على هذه المرأة وفي نيته طلاقها لترجع إلى زوجها وأطفالها، هل هذا الفعل يكون جريمة؟ نرجع ونقول إنه لا يحدد الجرم أو صالح الأعمال إلا شرع الله وحده وحجر الأساس في هذه المسألة هو قوله تعالى (فإن طلقها أي الطلقة الثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) وهذا نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة شرط فيه إباحة الرجوع إلى الزوج الأول مجرد الوطء في عقد صحيح بلا قيد ولا شرط لنية معينة أو رغبة أو نحو ذلك. قال الرازي في تفسيره (6/105) فثبت أن الآية دالة على أنه لا بد من الوطء ويحل محله الخلوة لأنها تقتضي نفي الحل محدودا إلى غاية وهي وقوله تعالى: (حتى تنكح زوجا غيره). وما كان غاية للشيء يجب إنهاء الحكم عند ثبوته فيلزم إنهاء الحرمة عند حصول النكاح، وخلاصته أن الآية لم تشترط لإباحة رجوع الزوجة للزوج الأول إلا أن يطأها رجل آخر في عقد صحيح. ولم يرد فيه قيد أو رغبه أو غير ذلك وقال نحوا من ذلك ابن الهمام في فتح القدير (4/ 183) والتهانوي في إعلاء السنن (5/208) وأبو حيان في البحر المحيط (2/ 479) والجصاص في أحكام القرآن (1/472) والونشريسي في المعيار (4/86) وغيرهم من أئمة الفقه وأصوله لقد نسب العيني كما ذكر التهانوي في إعلاء السنن (11/209) إلى أبي حنيفة وأصحاب الشافعي أنه لا بأس أن يتزوجها ليحلها للأول إذا لم يعلم بذلك الزوجان وهو مأجور بذلك وقال الشربيني في المغني (3/ 183) في فقه الشافعية لو تزوجها بلا شرط وفي نيته أن يطلقها إذا وطئها صح ولو تزوجها على أن يحلها للأول بلا شرط صح كما جزم به الماوردي وقال الماوردي في الحاوي (9/333): إن الرجل لو تزوج المرأة من غير شرط لكن ينوي تحليلها للأول فالنكاح صحيح. وخلاصة أقوال هؤلاء الأئمة أن النية لا أثر لها في صحة عقد التحليل في النكاح. بل يؤجر فاعله ويثاب على مقصده من الإصلاح لاسيما إن كان في الأسرة أطفال وكذا لو نوى أن ينكح امرأة وهو في دار الغربة كالمبتعثين مثلا على أن يطلقها عند الانتهاء من مهمته طالت هذه المدة أو قصرت، فالنوايا والمقاصد مردها إلى الله سبحانه وتعالى لا شك أنه يؤجر ويثاب على حرصه على عدم الوقوع في المحرمات. وقد يرتاح إليها ولا يرى سواها ويغير نيته وتبقى معه لا يفرقهما إلا الموت. وكم يرى الناس في كل يوم ومن واقعنا أن يعقد الرجل على المرأة وليس ثمة نية طلاقه ثم لا تلبث معه إلا أياما فيطلقها دون سبب أو لأتفه الأسباب. وقد ينوي الطلاق ثم تدوم معه حتى الممات كما أن الطلاق للمرأة ليس هو نقمة في كل الأمور كما يعتقد البعض ذلك وليس نهاية الدنيا. بل أحيانا يكون نعمة عليها وفرجا وفتحا لأبواب خير كانت مغلقة قبل الطلاق. فكان من الأكمل والأجمل الرجوع إلى شرع الله وأقوال أهل العلم في مثل هذه المسائل بدلا من وصف هذا وذاك من الأحكام الشرعية بالجريمة. وقد تكرر في مقولته كلمة (فتوى). مع أن هذه المسألة ليست بفتوى بل هي حكم ثابت بنصوص قطعية الثبوت والدلالة كما تم تقديمه. بينما الفتاوى إنما هي استنباط لأحكام لم تكن من قبل إزاء ما يستحدث من معاملات الناس وشؤون حياتهم ونوازلهم، وهذه تحتاج إلى أهل العلم بل وإلى المجامع الفقهية لتفتي فيها.