عشرات الموهوبين ينتقلون للمرحلة الثانية من "مصنع الكوميديا"    دولة ملهمة    نائب أمير مكة يطلع على تمويلات التنمية الاجتماعية    أمير الرياض يحضر احتفالية البنك الإسلامي للتنمية باليوبيل الذهبي    الإبراهيم: المملكة منصة عالمية للنقاش والابتكار والأعمال    منتدى الرياض يناقش الاستدامة.. السعودية تتفوق في الأمن المائي رغم الندرة    دشن أسبوع البيئة بالمنطقة.. أمير الباحة يؤكد أهمية الغطاء النباتي    «رابطة العالم الإسلامي» تُعرِب عن قلقها جرّاء تصاعد التوترات العسكرية في شمال دارفور    مطار الملك خالد يوضح ملابسات انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي    وزير الإعلام يبحث التعاون مع أرمينيا    اللجنة الوزارية العربية تبحث تنفيذ حل الدولتين    " ميلانو" تعتزم حظر البيتزا بعد منتصف الليل    الأهلي بطلاً لكأس بطولة الغطس للأندية    الفيحاء يتوّج بدوري الدرجة الأولى للشباب    وزير الخارجية يبحث مستجدات غزة    النصر والنهضة والعدالة أبطال الجولة الماسية للمبارزة    تتضمن ضم " باريوس" مقابل "فيجا".. صفقة تبادلية منتظرة بين الأهلي وأتلتيكو مدريد    الأرصاد تنصح بتأجيل السفر برّا لغير الضرورة    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    آل طيب وآل ولي يحتفلون بزفاف أحمد    اللواء الزهراني يحتفل بزفاف نجله صلاح الدين    منصور يحتفل بزواجه في الدمام    فيصل بن بندر يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر ويستقبل مجلس جمعية كبار السن    ديوانية الراجحي الثقافيه تستعرض التراث العريق للمملكة    النقد وعصبية المسؤول    مهنة مستباحة    فئران ذكية مثل البشر    إستشاري يدعو للتفاعل مع حملة «التطعيم التنفسي»    %47 من الذكور تلقوا العلاج على نفقة وزارة الصحة    غزة.. النزف مستمر والمجاعة وشيكة    منجزات البلدية خلال الربع الأول بحاضرة الدمام    تعليق الدراسة اليوم الاثنين بالمدينة المنورة    ميتروفيتش ومالكوم يشاركان في التدريبات    اكتمال جاهزية كانتي.. وبنزيما انتظار    شوبير: صلاح يقترب من الدوري السعودي    محمية الإمام عبدالعزيز تشارك في معرض أسبوع البيئة    جامعة «نورة» تفتتح منافسات الدورة الرياضية لطالبات الجامعات الخليجية    أمير المدينة المنورة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب في دورته ال 12    د. اليامي: إهتمام القيادة بتنمية مهارات الشباب يخفض معدل البطالة    هاكثون الأمن السيبراني بالتعاون مع "موهبة"    المصاعد تقصر العمر والسلالم بديلا أفضل    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    جائزة الأميرة صيتة تُعلن أسماء الفائزين بجائزة المواطنة المسؤولة    أمير الرياض يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر    صحن طائر بسماء نيويورك    أول صورة للحطام الفضائي في العالم    ذكاء اصطناعي يتنبأ بخصائص النبات    تطبيق علمي لعبارة أنا وأنت واحد    معالي الرئيس العام يشارك في "المؤتمر الدولي لدور الجامعات في تعزيز قيم الانتماء الوطني والتعايش السلمي"    أمير تبوك يواسي أبناء أحمد الغبان في وفاة والدهم    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل الرئيس التنفيذي لبنك التنمية الاجتماعية    أمطار تؤدي لجريان السيول بعدد من المناطق    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    المسلسل    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في رواية «مرسى فاطمة» ل«حجي جابر»
نشر في عكاظ يوم 01 - 02 - 2014

الأعمال الروائية التي تتوكأ حكايات حب ، تقيم معمارها السردي فوق تفاصيلها ، وتؤطر بها انثيالات البوح ، تراوح غالبا بين أن يكون الحب مدار الحكاية وبؤرة السرد وما عداه اكسسوار روائي في مشهد يتجاذبه قطبا الحكاية فحسب ، أو أن تكون الحكاية خلفية المشهد ، والتقنية السردية التي يراد من خلالها تمرير مضامين الرؤية التي ينطلق منها السارد ، وما تنطق به الرواية في بوحها الأعمق ، وحمولاتها التي يكتنزها السرد ويتأولها التلقي.
والروايات التي يغدو الحب فيها أظهر تفاصيل الصورة وأكثرها إلحاحا خلوا من أي شيء وراء الحكاية ، تشبه نبتا حوليا لا يعمر أكثر من زمن القراءة قبل أن يندثر في الذاكرة ، وفي المقابل يكون لزاما للتجارب التي توظف الحب تقنية كتابة أن تغادر تقليدية ومكرور إرث العشق بجديد تمهر به حضورها، وتفترق به عن غيرها.
وفي رواية (مرسى فاطمة) للروائي الإريتري حجي جابر كانت قصة الحب أشبه بوطن تبحث تخومه عن تخومه ، وتنشد ضفافه ضفافه ، وفي رحلة البحث التي استغرقت الرواية كلها تخلقت التفاصيل والشخوص، وأْتلفت أشتات الحكايات عملا أوسع من قصة حب ، وقصة حب اتسعت لتكون عملا روائيا أوشكت اشتراطات الشكل السردي فيه أن تكتمل.
والرواية تكسر نمطية تلك التقنية عبر آليتين ، أولاهما توثيق مكابدات وعذابات الإنسان في رقعة من الجغرافيا ما تزال وقائع الحياة فيها بكرا على صعيد التناول الإبداعي ، إذ لا تحتفظ الذاكرة حتى اللحظة بعناوين إبداعية تتخذ من القطر الإريتري وإنسانه مادة لها ، على الأقل فيما كتب أو ترجم للعربية منها ، وكل عمل يوثق لشيء من ذلك سيحتفظ بغير قليل من دهشة الجديد الذي لم يوثق من قبل ، والأخرى أن السارد اختزل في طرفي الحكاية رمزية بالغة العمق ، حين شكلا معا كل تجليات العلاقة بين الفرد والوطن وما بينهما من اللهاث والضياع وأحلام اللقاء والعذابات والعمر المهدور بين سياط الجلادين وخيام المنافي ، فكانت (سلمى) الوطن الذي انطوت فيه بذور الحلم ، واغترب الأمل ، وكان البطل الحالم بالوطن الذي لا يعرف له وجودا خارج آنية الروح تلك ، ولا يدع السارد ذلك لرمزية السياق ، بل يصرح به في غير موضع من الرواية: (سلمى بالنسبة لي هي أيضا حلم بحجم الوطن ، بين يديها أشعر بالأمان ، ولجبينها الأسمر أنتمي ، سلمى لغتي ، وجذوري ، وخارطة وعيي واحتياجاتي ، أولا يستحق هذا الوطن أن ألهث خلفه) ص 68.
واختزال تجليات الوطن في الشخوص لا يتوقف عند سلمى وحدها ، ففي كل فضاءات الرواية ظل الوطن يبزغ في سحنات الكادحين ويحيل إلى الحلم الأول والزمن المنتظر ، ف (كداني) في ساوا، و(إبراهام وزينب) في الشفتا، و(أمير وأم أواب) في الشجراب، أيقونات تحيل إلى قيم الصمود ، والوفاء، والعطف والتضحية.
وحتى الأوطان المخاتلة البديلة التي تنتهز الغربة لتختلس ولاءات الروح في تجسدت في شخص (كارلا) الإيطالية التي استثمرت ذروة الهزيمة لتعرض وطنا بديلا ، هو وطن المستعمر الأول ، وأوشك البطل في ضعفه أن يركن إلى الركن البديل ، قبل أن يرفض في لحظة حاسمة مساومات الطارئين على الوطن ، ويختار الإياب إلى (مرسى فاطمة) وكأنه يستعيد لحظتها ما قاله لحظة الدخول إلى السودان هاربا من إرتريا: (أنانية هي الأوطان ، لا يأتي وطن إلا حين يغادر الآخر ) ص 163.
وإزاء الوطن الذي توزعت ملامحه وجوه الكادحين، بقي الحالم به يكابد نقصه وخساراته في انتظار أن يلتئم شمل الحلم، ولأجل ذلك لم يسم السارد بطله ، والتعريف الوحيد به كان رقما ناله في المعسكر في (ساوا) ، وآخر في مخيم (الشجراب) ، إذ التسمية أول عناوين الهوية ، وبغير وطن تبقى الهوية خواء ، ويظل الإنسان رقما مشردا في حسابات المقامرين بالأوطان ، والمشفقين عليها!
من هنا يمكن القول إن المكان هو اللاعب الرئيس في الرواية ، باعتباره الحاضنة التي تتشكل عبر فضائها الأحداث ، وترسم مصائر الشخوص في سائر فصول الرواية التي عنون كل فصل منها بالمكان المروي عنه فجاءت العناوين بالترتيب (مرسى فاطمة – ساوا – دولة الشفتا- الشجراب – مرسى فاطمة 2).
وسيمياء المكان في الرواية لا تعكس أي شكل من حميمية العلاقة بين الإنسان والمكان ، سوى البزوغ الأول للحكاية في (مرسى فاطمة) ، والإياب إليه ، وما كان من التصالح مع الأرواح التي يجمل بها المكان ولو قليلا في (الشجراب) : ( تتسلل حميمية الأماكن إلينا ببطء ، حتى تلك التي لا نشعر بود كبير نحوها ، تستقر تحت جلودنا ، تحتبئ في زوايا قصية من وجداننا ، حتى إذا حان موعد فراقها ، خرجت في كامل زينتها لتخلق حالة تأبين مؤثرة) ص 238، أما بقية تجليات المكان فلم تكن سوى عذابات تتشكل في تضاريس جغرافيا الجحيم التي ابتدأت من (ساوا) حيث المعسكر ومكابدات الجندية والظلم والفساد والأرواح المضطهدة ، مرورا ب (الشفتا) حيت الاختطاف والخيانات والوطن الذي يباع ويشترى، ثم (الشجراب) واللجوء والجوع وهامشية الإنسان الموزع بين الذكريات وذل الاغتراب، وحتى الأماكن التي كانت تظهر على ضفاف الحكايات عابرة ، كانت تحمل معها أشكالا من المعاناة الطاحنة والعذاب، كما في حديث (أمير) عن سيناء ، أو في الإشارات السريعة للأماكن التي كان يبصرها المجندون في الطريق إلى (ساوا).
وعليه فالرواية التي هاجسها الوطن ، وفضاء السرد الأرحب فيها المكان، تمرر رؤيتها عبر فكرتين متباينتين ، المكان الذي لا يحيل إلى وطن ، والوطن الذي لا يعثر عليه في المكان!
وبين السردي والتوثيقي احتفظت الرواية بمسافة تضافرت فيها اللغة وفنيات الحكي لإنجاز الرواية الوثيقة لا الوثيقة الرواية ، إلا أن الفصل المعنون (دولة الشفتا) بدا شبه مقحم ضمن البنية السردية للرواية، وإن حاول الروائي أن يحتال له بالمزيد من تكريس عذابات البطل في الطريق إلى حلمه ، والمزيد من تمظهرات الوطن في شخصي (إبراهام وزينب) ، إلا أن استبعاد هذا الفصل من هيكل الرواية لن يشكل فجوة أو خللا بينا بالنسبة للقارئ وهذا معيار رئيس في أهمية جزء ما من عمل أدبي بالنسبة إلى بقية العمل ، ولعل جملة مثل قول البطل على لسان أمه : (لا تأمن لشفتاي ولو كان أخاك ، فطبع الغدر يجري في دمه) ، تفصح عن تداخل السارد مع شخوصه وارتفاع صوته فوق أصواتهم!
أما اللغة فبدا واضحا أنها تتحدر من ينابيع لاوعي عميق ، حين ابتدأت متقشفة لاهثة في أول فصول الرواية ، ثم حين أنهكت العذابات والخيبات البطل، واستبدت أشواقه على حواف اليأس، قاربت اللغة تخوم الشعرية، وتماهت بروحه ، لحظة أن خسر رهانه على الزمن و (استأثر المكان بكل الشيء)!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.