لا يوجد فساد كامل، وأيضا لا يوجد صلاح كامل، هكذا بالمطلق، حتى في الدول الديمقراطية التي قطعت أشواطا طويلة وعريضة في المحاسبة والشفافية والعدالة وتداول السلطة وسن القوانين التشريعية المنظمة، نرى فسادا من نوع ما، بين الفينة والأخرى، لكن الفرق أن في تلك الدول لا يوجد حصانة أو ممنوعات أو شفاعات في الملاحقة والتشهير والعزل لكائن من كان، حيث ينكشف المستور في الأخير، مع الناس الذين (فوق) أو الناس الذين (تحت) على حد سواء. هناك أناس عندهم رؤية سلبية ونمطية للحياة والناس، فيرون فقط الجزء الفارغ من الكأس، وبأن كل الموظفين فاسدون أو مشاريع مؤجلة للفساد متى سنحت لهم الفرصة لذلك.. وفي مشهدنا السعودي، رأينا ونرى ونقرأ، حالات مبهجة في الأداء والأمانة والإخلاص في القطاع العام، كنموذجي غازي القصيبي يرحمه الله وإبراهيم البليهي، أوردتهما هنا على سبيل المثال لا الحصر كعلمين معروفين، فهناك ناس كثر لا يقلون عنهما وطنية ونزاهة، صغارا وكبارا ربما لا يعرف عنهم أحد، يؤدون أعمالهم على أكمل وجه، يأتون مبكرين قبل بداية العمل ويغادرون مكاتبهم متأخرين بعد نهاية وقت الدوام الرسمي، وبعد أن عملوا على أكمل وجه كما يليق بنحل، بدون صخب وقرع طبول. وهناك وجوه كثيرة وطنية كتب عنها غازي القصيبي، وأرخ لها في كتابه المهم والجميل الموسوم ب (حياة في الإدارة).. ربما تصافح وجوههم هنا وهناك في كثير من القطاعات الحكومية البعيدة والمنسية.. وحكاية الرجل التنويري إبراهيم البليهي الذي عمل كرئيس لبلدية حائل عام 1396ه، جديرة بالاحترام وعدم النسيان. لم يسكن مضافة البلدية كما فعل غيره، بل سكن آنذاك في بيت بسيط بالإيجار بحائل، وهو الرافض الشهير لقطعة الأرض الممنوحة له رغم أن النظام في تلك الأيام كان يجيز له ذلك لكونه جامعيا. وذات حوار، قال البليهي عن تجربته الإدارية في (البلديات): (الفائدة التي خرجت بها من العمل المديد النكد في البلديات أنني عرفت الناس على حقيقتهم فلم تعد تخدعني المظاهر ولم تعد الهالات أو الهمهمات تحجب عني حقيقة ما يسعى إليه الناس أو يستبطنونه في أنفسهم، إن البلديات ملتقى الأطماع وفي هذا الملتقى ينكشف المستور ويتعرى الزيف وتسقط الأقنعة، إنها معرفة مؤلمة لكن الذي يحصل عليها يبرأ من الغفلة والسذاجة فيصبح يرى حقيقة الدوافع وتتجسد أمامه الأهواء وتتعرى له النفوس بكل ما تنطوي عليه من أنانية وعدوانية وجشع وجهل وغباء وبعد عن الإنصاف).. هناك كثير من الكتاب والمبدعين الوطنيين الذين عملوا أو يعملون في القطاع العام، أتمنى أن يكتبوا عن تجاربهم الإدارية تلك.. الشاهد: الحياة ولادة، لا تتوقف عن إنجاب الصالحين والفاسدين في ذات الوقت. ولكن دائما الغلبة للخير وللصلاح والصالحين والمصلحين، وإلا لأصبحت الحياة جحيما وخرابا لا تطاق. [email protected]