بايرن ميونيخ يرد على عرض النصر لضم كينجسلي كومان    القادسية يطوي صفحة إسبانيا ويستعد لاختبار نوتنغهام فورست الودي    استعداداً لمواجهة أتلتيكو مدريد.. الفريق الفتحاوي يواصل تحضيراته بمُعسكر إسبانيا    لبنان يعود إلى الحاضنة العربية    إقامة لقاء حوكمة التطوع وتطوير جوانبه النظامية بالمنطقة الشرقية    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. انطلاق التصفيات النهائية لمسابقة الملك عبدالعزيز الدولية للقرآن الكريم في دورتها ال45    الداخلية : ضبط (22072) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    القيادة تهنئ رئيس سنغافورة بذكرى اليوم الوطني    نجاح أولى عمليات "برنامج الاستمطار" شمال شرق الرياض    أمير تبوك يدشّن ويضع حجر أساس (48) مشروعًا تنمويًا لمنظومة "البيئة" بالمنطقة بتكلفة إجمالية تتجاوز (4.4) مليارات ريال    استشهاد 6 فلسطينيين بقصف إسرائيلي وسط غزة    كامكو إنفست تنقل مكاتبها في السعودية إلى مركز الملك عبدالله المالي "كافِد"    أمطار غزيرة وسيول متوقعة على عدة مناطق اليوم    النفط يستقر ويسجّل أكبر خسائر أسبوعية    طالبة من "تعليم الطائف" تحقق الميدالية الفضية عالمياً    محافظ خميس مشيط يتفقد مركز الرعايه الصحية بالصناعية القديمة    معجم الحيوان الأليف عند العامة    فريق النجوم التطوعي ينفذ مبادرة صناعة الصابون لنزيلات دار رعاية الفتيات بجازان    قطر والإمارات والكويت تدين قرار إسرائيل احتلال قطاع غزة    المملكة ترحب بإعلان التوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان    خطط أرامكو السعودية التوسعية في النفط والغاز والتكرير تعزز زيادة تدفقاتها النقدية    الفيحاء يتعاقد مع "الخيبري"لمدة 3 سنوات    وزير الخارجية يتحرك دبلوماسياً لوقف الانتهاكات في غزة    بيع صقرين ب 180 ألف ريال في الليلة الأولى لمنصة المزاد الدولي لمزارع إنتاج الصقور    برشلونة يعيد شارة القيادة لتير شتيغن    جمعية فضاء العالية للتنمية الشبابية تختتم برنامج ماهرون الصيفي    صقارون دوليون يثمنون تسهيلات نادي الصقور في نقل واستضافة الصقور    مواهب الذكاء الصناعي تضع المملكة ضمن أفضل 20 دولة    أمير جازان يرعى ملتقى أبحاث السرطان 2025 بجامعة جازان    الشيخ أسامة خياط: يدعو لغرس قيم البر والتقوى في الأسرة والمجتمع    الشيخ عبدالباري الثبيتي: سورة قريش تُجسّد أعظم النعم .. الطعام والأمان    "القرني" يختتم دورة تدريب المدربين    المصالح الوطنية السعودية    سفير جمهورية مالطا لدي المملكة يزور قرية جازان التراثية    الربيعة: تطبيق "نسك" متاح مجانًا دون استهلاك بيانات الإنترنت    أنواع فيتامين D وجرعاته الصحيحة    النصر يكسب ودية "رايو آفي" البرتغالي برباعية    %83 من القراء هجروا المجلات    بمشاركة نخبة الرياضيين وحضور أمير عسير ومساعد وزير الرياضة:"حكايا الشباب"يختتم فعالياته في أبها    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأعيان الدرب    سبعة آلاف خطوة تعزز الصحة    نائب وزير الحرس الوطني يطلع على برامج الإرشاد والتوجيه لتعزيز الوعي الديني والفكري    رئيس وزراء موريتانيا يغادر المدينة المنورة    أمير منطقة جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأهالي محافظة الدرب    أمير جازان يستقبل سفير جمهورية مالطا لدى المملكة    العطش يلتحق بالجوع في غزة وتحذيرات من توسيع إسرائيل عملياتها    ديوان المظالم يفتح باب التقديم على التدريب التعاوني لطلبة الجامعات والمعاهد السعودية    المجلس الاستشاري لمركز صحي المرابي يناقش احتياجات الأهالي مع تجمع جازان الصحي لتعزيز الخدمات الطبية    زيلينسكي يدعو واشنطن لزيادة الضغط على موسكو.. روسيا تدرس هدنة جوية مع أوكرانيا    البدير في ماليزيا لتعزيز رسالة التسامح والاعتدال    احتفال الفرا وعمران    فتح باب التقديم لدعم المشاريع السينمائية    الأرصاد: أمطار متفرقة حتى منتصف أغسطس    استهداف (أبو سلة) بطائرات مسيّرة.. اشتباكات بين الجيش اللبناني ومطلوبين في بعلبك    إنجاز طبي في الأحساء.. زراعة منظم ضربات قلب لاسلكي لمريض    الأمير فهد بن سلطان يطلع على نتائج القبول بجامعة تبوك.    محافظ تيماء يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة تبوك    نائب أمير الرياض يؤدي الصلاة على والدة جواهر بنت مساعد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



null
نشر في عكاظ يوم 30 - 03 - 2011

الأثر الذي يتركه النزاع بين طرفين قد لا يمر مرورا عابرا في كل الحالات، يظل الجرح قابلا للتجدد رغم إنصاف الشرع لمن وقع عليه الظلم، ليس لأنه لم يحكم بالعدل، لكن لشعور المجني عليه بالغبن حتى لو أبدى رضاه تظاهرا أمام القاضي أو حتى لو كان نتيجة قناعة وإحساس بأنه أنصف من غريمه ونال حقه منه.
الشعور بالغبن مرده أمور كثيرة، منها ما هو نفسي، ومنها ما للعادات والتقاليد فيه دور رئيس، ويظل المحكوم له معرضا لتأثيرات داخلية وخارجية متعددة، فمن المتفق عليه في العديد من القبائل أن أي فرد تعرض لاعتداء من آخر أن يقضى له عرفيا حتى لو تم القضاء له شرعا، وهو ما تعارف عليه أفراد القبائل ويطلقون عليه «جبر الخواطر» وإعادة الأمور إلى نصابها لضمان عدم الأخذ بالثأر أو المعاملة بالمثل. وعملا لتصفية الشوائب العالقة في النفوس والقضاء على القطيعة التي قد تترتب على المشكلة.
هذا الهدف لا يحققه القانون بمفرده لأن حكمه في نظر البعض ظاهري، بينما يبقى في النفوس ما يبقى، وهو ما يعتبره هؤلاء وصفة مؤقتة تحد من تفاقم المشكلة لفترة وجيزة، وهي الفترة التي يقضي فيها الجاني محكوميته في السجن بعيدا عن خصمه، لكن القضية ستعود مجددا لحظة التقاء الغريمين وقد تتطور لتأخذ منحنى أكبر، فكل منهما خصوصا المجني عليه، لا يزال يضمر الشر في نفسه وينتظر الفرصة السانحة للانتقام.
والسؤال: من أين أتت تلك الرؤية. لماذا لا يحقق الحكم القضائي، من وجهة نظر هؤلاء، الرضا الكامل للجميع، لماذا يظل قرار القاضي مجرد مسكن ومهدئ ليس بإمكانه إزالة آثار النزاع من جذوره؟.
والإجابة كما يعتقد بعض أرباب الصلح أن وراء ذلك أسبابا عديدة ترتبط بالمآلات والتبعات التي يواجهها المجني عليه، فبعيدا عن الآثار النفسية والشعور بالظلم والغبن فإن هناك اعتبارات اجتماعية لا يمكن تجاهلها ومؤثرات خارجية تدفعه لاستعادة هيبته التي فقدها بسبب ما تعرض له.
عاهة لا يمحوها الزمن
يقول الشيخ رميح بن منيف بن سالم القحطاني أحد من لهم باع طويل في مجال الإصلاح ومساهمات مقدرة في هذا الشأن: إن تحقيق الرضا الكامل بين طرفي النزاع لا يأتي من خلال تطبيق النظام فقط ولا تتحقق المصالحة الكاملة بينهما لأنه يتوقف عند إنهاء المشكلة بتطبيق العقوبة على الجاني دون مراعاة الآثار والتبعات والمآلات الأخرى. ورغم سؤال المجني عليه عن قبوله بالحكم ورده بالإيجاب فان ذلك يكون من طرف اللسان أما النفس فقد تضمر أشياء أخرى لا تظهر إلا مستقبلا.
ويضيف رميح: عندما يتعرض أحد لرجمة حصاة أو ضربة عصا أو طعنة سكين، ويصاب على إثر ذلك بعاهة مستديمة أو جرح بارز يترك علامة على وجهه أو جزء ظاهر من أعضائه فإن الجاني يحكم بالسجن فقط أو التعزير، أو بهما معا، والحكم في هذه الحالة يقتصر على أشهر معدودة أو سنة أو أكثر بينما يظل الجرح الذي تعرض له المجني عليه وصمة عار وعورة مكشوفة أمام الجميع. وقد يصبح بسببها مجالا لتندر الآخرين متى ما رأوه، خصوصا من مثيري الفتنة أو الذين يختلف معهم في الرأي وتظل إصابته ذكرى سيئة يستعيدها الآخرون أمامه لإهانته وإذلاله بأنه أهدر حقه ولم يستطع استرداده.
يتساءل رميح: هل تطبيق النظام يعتبر كافيا ومقنعا للمجني عليه الذي سيجد من يذكره بما حدث له متى شاهد أثر إصابته التي تظل غصة في حلقه لا تذهب إلا بأخذ ثأره. أما الصلح القبلي فيقدر الضرر الذي تعرض له بمبلغ كنوع من التعزير على الجاني بالإضافة إلى أن المصلحين والعدول سيمنعون عنه كلام الناس بإلزامهم بالأعراف والحكم على من يقدم على إهانة المجني عليه بما حدث له بتغريمه ومنعه من العودة إلى فعلته، وفي نفس الوقت توفر الحماية للجاني. ويلتزم السعاة في الصلح بذلك ويضمنون عدم الاقتصاص منه. لافتا إلى أن تقدير الضرر يختلف حسب نوع القضية وقوة الإصابة والأداة المستخدمة، لكنها في الغالب تبدأ من خمسة آلاف ريال إلى 50 ألفا، وقد يصل تعويضه مقابلها إلى دية الرجل أو أكثر من ذلك خاصة إذا تركت الأداة علامة بارزة في وجه المجني عليه أو تسببت في كسر أحد أطرافه.
فنون الحوار والإقناع
يتابع رميح بن منيف بن سالم القحطاني ويشرح: لكل هذا فإن مجالس الصلح القبلي فيها تحقيق المصالحة المنشودة وإشاعة التسامح في المجتمع والقضاء على الأسباب التي تشعل وتجدد المشكلة وتصب الزيت على النار، ويؤكد رميح أن الصلح لا يتعارض مع الشرع ولا يخالفه ولكنه يأتي مكملا له، فإذا كان حكم الشرع قد قضى بالعقوبة وأخذ التعهدات على الطرفين بعدم إثارة المشكلة مرة أخرى فإن الصلح القبلي يكفل ذلك أيضا علاوة على فرض القيود على كل ما يمكن أن يتسبب في إعادة المشكلة وأولها أفراد المجتمع.
وحول الأوصاف التي يجب توافرها في المصلحين يقول: منذ سنوات مضت وإلى وقتنا الحالي ما زالت مجالس الصلح تعتمد على تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين للوصول إلى حل يرضي الطرفين، ويتولى المهمة من عرف برجاحة العقل وسداد الرأي، الحكمة، تقدير الأمور بواقعية، وكان المصلح يطرح رؤيته طرحا منطقيا، مستعينا بما حباه الله من وسائل إقناع مثل سرعة البديهة ورحابة الصدر، وسعة الفكر، ومخاطبة أطراف النزاع على قدر إمكانياتهم الفكرية وفقا لمقتضى الحال، ويستند على ثروته اللغوية، وخبرته الطويلة، ودرايته بفنون الحوار، ويستشهد بقصص سابقة، وأمثلة دارجة، وآيات قرآنية، وأحاديث شريفة، وما أوتي به من الحكمة وفصل الخطاب.
ويذكر رميح، على سبيل المثال، عددا من كبار المصلحين في عسير وبقية مناطق المملكة ممن يتمتعون بقدرات ومهارات التوفيق بين المتخاصمين، ولهؤلاء جهود بارزة وبعضهم نجح في تحقيق الصلح في قضايا قتل فاقت 45 قضية انتهت جميعها بالتنازل عن القاتل. ومنهم شديد محمد الهماش، ملهي بن قبلان آل مشني، سعد بن هادي آل مسرع، سالم بن سعيد آل سريع وعلي بن مسعد آل سريع. وهناك عدد كبير من المشايخ لا يتسع المجال لذكرهم ولا ينكر أحد دورهم.
مصافحة بعد قطيعة
يورد رميح عددا من الشواهد على قدرة الصلح القبلي على احتواء العديد من المشاكل والأزمات وحل الكثير من القضايا المستعصية، منها مثلا، نجاح أحد المشايخ في إنهاء قطيعة بين قبيلتين دامت أكثر من 30 سنة في محافظة رجال ألمع. إذ استطاع الرجل الفاضل بحكمته ورجاحة عقله من حل خلاف بسبب حادث قتل وفرار الجاني إلى دولة مجاورة، وكل الذي فعله الشيخ إنه ذكر أفراد القبيلتين بفضيلة العفو وأهمية التسامح والآثار السلبية على القطيعة بأسلوب حسن وكلمات منتقاة تؤثر في النفوس وتخاطب العقول مستعينا بما حباه الله من جودة التعبير وجمال المنطق، ثم اقترح أن يبادر أفراد قبيلة القاتل بالحلف بالإيمان التي تؤكد أنهم لم يعلموا بما أقدم عليه الجاني، ولم يسهموا في فراره ولم يخططوا أو يشاركوا في فعلته، وما إن انتهوا من إلقاء الأيمان حتى تعانق أفراد القبيلتين وعادت العلاقات المقطوعة وأصبحت لغة التسامح شعار الطرفين بعد القطيعة والتربص.
لا يعمر هدام البنايا
كيف ينجح الصلح القبلي في تحقيق المعادلة وما الطرق التي يسلكها في سبيل ذلك؟، يجيب عن ذلك الشيخ إبراهيم المازني أحد المشاركين في مجالس الصلح قائلا: إن الصلح يحدد هدفه الأول في تصفية النفوس بإرضاء كل طرف سواء بالحكم على الجاني أو بتحقيق رغبات المجني عليه بوسائل وطرق متعددة. ففي قضايا القتل مثلا، يعوض أولياء الدم ويلزم جماعة الجاني بالحلف، وقد يطلب منه مغادرة مقره أو التنازل عن ممتلكاته حتى لا يذكرهم بفقيدهم، ويتم تحديد من يلزم باليمين أو اختيار أشخاص معينين للتصدي للمهمة، أما صيغة الحلف فتكون حسب القضية وتختلف من قبيلة لأخرى.
ويشرح إبراهيم المازني بعض الأمثلة في ما يقال في نص القتل الخطأ «والله العظيم، دين مدمر، لا يعمر هدام البنايا، محرف الروابي، عالم ما لا يعلمون عباده، والله العظيم، إنا ما خططنا لولدكم، ثم إنا ما حضرنا، ثم إنا ما نظرنا، ثم إنا ما أمرنا ولدنا، ثم إن قتل ولدكم كان خطأ، ثم إنه لو صاير منكم مثل ما صار منا، إنا نصدر بمثل ما صدرتم به على الخط والمثل».
أما حلف القتل العمد فمن أمثلته، «والله العظيم .. لو إن ولدنا مبتلي ولدكم على محرمه أو على مزرعته أو أرضه ثم قتله إنا نصدر بمثل ما صدرناكم به على الخط والمثل».
ويدور معنى الحلف حول المعاملة بالمثل وعدم العلم بما أقدم عليه الجاني أو المشاركة أو التحريض ويسمى «دين العلم».
القصاص في نية القتل
يضيف المازني أنه إذا أخذنا في الاعتبار ذكر الفرق بين حكم القانون والصلح القبلي فيجب أن نشير إلى نقطة أساسية، فإن الحكم بالقصاص ينهي المشكلة، لكن لا يضمن حدوثها بين الطرفين أو الحد من آثارها والقضاء على تبعاتها، أما الصلح فيحقق ذلك بالإضافة إلى الحصول على عفو أولياء الدم عن الجاني، كما أن النظام يحكم على «النية»، فإذا أطلق شخص النار على آخر ناويا قتله، ولم يحدث بل تسبب في إصابته فإن الشرع يقضي بقصاص الجاني لأنه نوى القتل حتى لو لم يقع. مشيرا إلى أنه وقف على مثل هذه القضية حيث تم تنفيذ القصاص في شخص أطلق النار على غريمه ولم يقتله وجاء القصاص بناء على عقد النية والعزم على القتل.
فإذا كان القصاص تم هنا لمجرد النية فإن الصلح القبلي نجح في حل قضية بين قبيلتين في المنطقة قتل فيها سبعة أشخاص وتحقق الصلح وانتهت المشكلة دون أن تسيل قطرة دم واحدة وتم احتواء القضية وديا ولم تترتب عليها أي تبعات.
اختلاف الطباع واللهجات
يقول الشيخ أحمد سعيد الدحية، أحد الذين نذروا أنفسهم للإصلاح وحل العديد من المشاكل بين المتنازعين: إن الصلح من مذاهب العرب، لمعظم القبائل أحكام وقوانين متعارف عليها وهي تقريبا سائرة ومعروفة عند الجميع، وإذا وجد فرق في الطباع واختلاف في اللهجة والمسميات فهي لا تتجاوز كثيرا، لكنها تنبع من أرض واحدة تسير في طريق واحد وتصب في مكان واحد، فنحن نهجنا في الإصلاح حسب ما عرفنا وعاصرنا وسمعنا من الذين جلسنا معهم وشاركناهم في قضايا الصلح حتى لو بالاستماع فقط، أما الذين لم نعرفهم ولا عاصرناهم فإن من عاصروهم وجالسوهم نقلوا إلينا ما كانوا يقومون به ويفعلونه.
ويشير الشيخ الدحية إلى أن الاقتداء بأرباب الصلح القدامى ليس عيبا ولا خروجا عن الشرع، وتطبيقه في الوقت الحاضر وعقد مجالس للإصلاح بين المتنازعين من الأمور المحمودة لأننا نحاول أن نوفق بين بعض الأطراف الذين يحدث بينهم الخلاف بلا ضرر ولا ضرار، بل بالتراضي وتصفية الأنفس، كما أن الصلح ليس بدعة لكننا استفدنا من خبرات السابقين كما أنه يتم وفق أحكام الشريعة ويسير على منهج الكتاب والسنة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فهناك العديد من الأحاديث التي دعا خلالها بالإصلاح بين الناس بل إن بعض الأحاديث كانت عبارة عن قضايا أصلح عليه الصلاة والسلام فيها بين المتنازعين.
ويؤكد الشيخ الدحية أن الواقع خير شاهد على أهمية الإصلاح بين المتنازعين حتى لو تم الحكم بالشرع لأي منهما، لأن ما شهده محيط بعض المحاكم أخيرا من إطلاق للنار ومصادمات بالأسلحة البيضاء لا يحدث في مجالس الصلح القبلي أبدا ولا يفترق الطرفان إلا بعد أن يقبل كل منهما رأس الآخر حتى لو عقدت لقضيتهما عدة مجالس، كما أن قضايا الإصلاح المستعصية لا يتجاوز حلها الشهرين على عكس النظر فيها عن طريق المحاكم، حيث يستغرق البت في بعضها عدة سنوات وبعد أن تملأ الضغينة الأنفس. ويشير الدحية إلى أن لكل قبيلة (موامين وعرافة معلومين)، ويعني بذلك السعاة في الصلح يتولون تقريب وجهات النظر بين الأطراف، ويستطيع المتحفظ على رأي أهل الوفاق أن يطلب الاحتكام إلى آخرين من قبيلته أو من قبيلة أخرى، فإذا تطابق الحكمان يصبح الحق لخصمه، وهذا الأمر يسير تبعا لحكم الشرع في الوقت الحاضر الذي يجيز للشخص المحكوم عليه إذا لم يقتنع بالحكم أن يتقدم بلائحة اعتراض لهيئة التمييز.
ثقافة بياضة الوجيه
يلاحظ الشيخ الدحية في الوقت الحاضر المساومة بالملايين مقابل الصلح، وهي طريقة خاطئة وتعتبر مخالفة للمذاهب القبلية والأحكام الشرعية فلا العقل يقبل أن تضاعف الدية 50 ضعفا بل هناك من يطلب مائة ضعف، وهذا ليس من أحكام العرب ولا شيمهم لأن لمضاعفة الدية مرة أو مرتين اشتراطات وحدود لا يجب تجاوزها، ولا تتم زيادة الدية إلا حسب المواقف وليس لكل من قتل، فعندما يقتل شخص آخر وهو «دخيل» عند قبيلة أو قرية أو شخص تتضاعف فيه الدية إلى ثلاثة أضعاف، ديتان في الرقبة ودية ثالثة لمضيفه، والثالثة تعتبر حقا للمضيف وتسمى في أحكام العرب (بياضة وجيه)، ويضيف: إن أحكام الصلح وقوانينه تتميز بالشمولية ومراعاة كافة الأحكام ومعالجة كل القضايا وسن القوانين وتقدير الأضرار وحساب الخسائر ووضعت لكل شيء ما يناسبه من الأحكام والتعويض، ومن ذلك الحيوانات فهي تختلف في أحكامها حسب الفصيلة وتبعا للضرر الذي تعرضت له.
وهناك قضايا يتفق عليها المصلحون بالقص والمثل (بالقياس)، مشيرا إلى أن البعض قد يتنازل عن جزء من حقوقه حتى لو حاول الوشاة التقليل مما جناه مقابل الصلح، فإنه يرد عليهم بأن تجاوزه عن بعض حقوقه إكراما وتقديرا للمصلحين والحاضرين، وهذا يعكس الأهمية التي يحظى بها من تركوا ملذات الحياة للإصلاح بين الناس.
صورة العفو الاستثماري
المتتبع لمجالس الصلح التي تعقد حاليا للعفو عن قاتل، يدرك التناقض الكبير بينها وبين مجالس الصلح في السابق، رغم أن الهدف واحد، والذين يسعون لتقريب وجهات النظر وحل المسائل العالقة والمختلف عليها بين أولياء الدم وأسرة القاتل يتمتعون بالقدرة نفسها إن لم تكن أفضل حاليا بحكم العلم الواسع، والمركز المرموق والأساليب المؤثرة للاطلاع والغوص في بحور العلوم الشرعية، علاوة على أنهم نذروا أنفسهم لعمل الخير والإصلاح بين الناس رغم مغريات العصر الكثيرة، مما يؤكد أنهم يملكون أرواحا جبلت على رسم الابتسامة على وجوه من حرم منها، وإدخال السعادة والبهجة إلى نفوسهم.
أما أوجه التناقض في قضايا الدم في الماضي وفي الوقت الحاضر فتظهر بشكل جلي في الاشتراطات التعجيزية إن لم تكن المستحيلة مقابل العفو عن القاتل، حيث أصبحت لغة الأرقام هي الفيصل، والمغالاة والمزايدة هما الطريق لتحقيق أكبر عائد من العفو الاستثماري، وكأن القضية تحولت إلى سوق وأصبحت الفرصة مواتية لجني ثمن الدم.
الشرع أولا ثم العرف
يقول الشيخ عازب بن سعيد آل مسبل عضو مجلس الشورى، مدير عام فرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في منطقة عسير سابقا: إن من نعم الله الظاهرة والباهرة تحكيم الشريعة الإسلامية في كل أمورنا وفي التقاضي بين الخصوم، لا شك أن هذا من المسلمات بوجوبه شرعا فقد ذهب علماء الأمة سلفا وخلفا إلى وجوب الاحتكام إلى شريعة الله ونبذ ما سواها، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه منهاج السنة النبوية، «ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر».
وله رحمه الله تفصيل كما لغيره من العلماء في هذه المسألة، فالكفر هنا عند استحلاله لعمله وتفضيل ما يراه هو عدلا من غير اتباع ما أنزل الله أما من حكم بغير ما أنزل الله لسبب يعتقد معه بأن حكمه خطأ ومخالف وأنه عاص بذلك فالكفر هنا كفر معصية، ثم يقول رحمه الله «بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزل الله بها سلطانا، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي أن يحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر».
وقد فصل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة سابقا في كتاب تحكيم القوانين معنى الكفر في قوله تعالى «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، وبهذا نلمس الضرورة لتحكيم شرع الله وتقديمه على كل عادة ورأي، وهذا ما تفتخر به المملكة اليوم ويعتز به حكامها من عهد مؤسسها إلى اليوم أعزهم الله في الدنيا والآخرة، ولكن للأسف، يقول آل مسبل، يوجد بعض الجاهلين بشريعة الله المتعصبين للعادات القبلية التي تتعارض مع الشرع، يحتكمون إليها ويرون أن ذلك من باب الصلح، فالصلح بلا شك خير كله وهو يقطع دابر النزاع، لكن لا بد أن يكون صلحا مبنيا على الشرع فلا يحل حراما ولا يحرم حلالا.
أما خلاف ذلك فلا، وإني لأظن أن مثل هذه الأعراف القبلية تكاد تنحسر وتضمحل مع بسط نفوذ الشرع والحمد لله ولكن يجب التنبيه إلى بعض الأخطاء، فلربما أن البعد عن فهم الدين وأحكامه سبب رئيس في بقاء مثل هذه الأحوال. فالواجب على المسلم إذا حكم القاضي بين المتنازعين أن يلتزما بالحكم وألا يلجآ بعد ذلك إلى غيره من عرف أو عادة، لأن من يفعل ذلك يكون على خطر عظيم بسبب تفضيله للعادة على الشرع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.