أكرمت الشرائع السماوية بنزول التشريعات للعباد وحظيت بالإنسان وجعلت له حقوقا وأوجبت عليه من الواجبات حماية لنفسه حق مجتمعه وحرمت عليه التعدي على الأنفس والأموال بدون حق مشروع ودلالة على أخذه وطالبت أنظمة الإسلام الدولة بإنزال العقوبات لكل متعد ومختلس للمال العام أو المستولي على الخاص استغلالا للنفوذ وسطوة لكرسي الوظيفة، وإذا كانت نصوص الشرع وفقه القانون حرمت التشهير بالإنسان لما في ذلك من المفاسد الكبيرة والآثار الخطيرة مستثنية من ذلك تشهير المظلوم بظالمه، وتحذير الناس من سطوته وشره، وقد أشار العلامة المالكي الإمام ابن عبد البر (463ه) في كتابه القيم التمهيد، حيث أبان على التشييد بقوله (وهذا باب يحتمل أن يفرد له كتاب). من هنا فإن النفوس المكلومة والمجتمع المصاب بالأضرار يسعى إلى أن يشفى الغليل بالتشهير بالمفسد خصوصا من تورط في أحداث مأساة وجرائم تضرر منها المجتمع وراح ضحيتها بشر وفقدت ممتلكات.. فقضايا الفساد والتعدي على الحقوق يطالب المتضررون والمجتمع بالتشهير بمن كان متسببا بها شريطة الإدانة الجازمة والموثقة خصوصا أن الدولة قعدت قواعد قضت أنظمتها بالتشهير بالمختلسين والمرتشين والمزورين ومروجي المخدرات ومن أتلف اعضاء للأنفس أو قتل أفراد كمرتكب أخطاء كالطبيب المهمل والسايق المستهتر وغيرهم. وفيما يتعلق بالوظيفة العامة في الدولة الإسلامية فإن فقه السياسة الشرعية اعتبرها من اعظم الامانات لما فيها من ارتباط بحقوق الخالق والخلق ولما كان في البشر صفات قد تخفى، والبعض منها قد يتغير حاله بتوليه فقد يظلم او يتعدى على المال العام والخاص كصاحب الولاية الوظيفة، فإن الفقه الاداري الاسلامي أشار في منظومة آداب الولايات أن منهج الخلفاء الراشدين نصح هؤلاء فقد كان الخلفاء ينصحون ولاتهم، ويوجهونهم ويذكرونهم بالقيم الرفيعة وعدم اتخاذ الولاية مغنما وأن الواجب عليهم الحفاظ على المصالح الدينية والدنيوية للأمة، وان تعديهم فيه إخلال بالأمانة تستوجب المحاسبة والتشهير الشرعي النظامي من أجل ذلك فإن التشهير المأذون به شرعا قد يبلغ مرتبة الوجوب كالمستغل لوظيفته والمفرط في مصالح المسلمين. وقد أشار الإمام ابن مفلح (763ه) في الآداب الشرعية أنه إذا اتضح تقصير المتولي أمر المسلمين في ولاية وفرط فيتوجب الأمر شرعا وديانة التشهير به وليس هذا من باب الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة في حق الوالي. وذكر الإمام الماوردي (450ه) في الأحكام السلطانية قوله (إذا رأى السلطان من الصالح في رد السفلة أن يشهره وينادي عليهم بجرائمهم ساغ ذلك). وصنف الفقهاء المتخصصين في تنظيم ولايات الدولة الإسلامية بالائمة وابن القيم، وابن جماعة، وأبي يعلي الحنبلي، وابن المناصف ان في التشهير عقوبة تعزيرية تأديبية لمخالفات تضرر منها المجتمع وجعلته متخلفا. وبعد: فإن الأصل في التشهير التحريم بدون مسوغ شرعي وإثبات توثيقي وأنه مجاز الأخذ بالسياسة الشرعية والأحكام المرعية في حق من أتلف وجنى المال من ضروب متعددة مستغلا الوظيفة العامة وكرسي المنصب مضيعا هادرا مصالح الأمة والنفع العام، وان السلطة القضائية ولجان التحقيق الموصية بالتشهير هي الجهات التي توصي بالتشهير حتى لا يستغل الأمين ويتستر على الخاين. * أستاذ السياسة الشرعية والأنظمة - جامعة الملك عبد العزيز محكم قضائي معتمد بوزارة العدل.. عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي