أشير في الحلقة الماضية إلى ما على المواطن من واجبات بموجب مواطنته، وهنا تحسن الإشارة في المقابل إلى بعض ما يترتب له من حقوق جراء ذلك. فلغة الحماس والعاطفة للوطن غالبا ما تتطلب برأي الكثيرين من المواطن، بسبب انتمائه لوطنه، أكثر مما يناله منه، ولكن هنا فرضية تقول: إنه بقدر ما تتحقق حقوق المواطن، تنمو وطنيته وينمو معها حبه لوطنه واستعداده للدفاع عنه من الشرور بكل ما يملكه من وسيلة. بمعنى أن هناك توازنا تقريبا بين ما للمواطن وما عليه لوطنه، ومتى ما اختل هذا التوازن في غير ما هو لصالح المواطن فقد يختل حبه وولاؤه لوطنه، وكقاعدة عامة فإن الاستثناء من ذلك لا يقاس عليه. ولذلك فقناعة المواطن بأن حقوقه قد خدمت غالبا ما ينشئ ذلك لديه وبشكل آلي الشعور بالوطنية والانتماء لوطنه، اللذين لا يأتيان بالضرورة عن طريق التلقين فقط وإنما تلقائيا كرد فعل لإحساس المواطن بتمتعه بهذه الحقوق، إضافة إلى ذلك شعوره بأنه معزز ومكرم في وطنه وأيضا شعوره بأنه يعامل بعدل ومساواة، عندئذ يقدم مصلحة وطنه على مصلحته الشخصية (وهذا ينطبق على أي مواطن في أي وطن). ومجمل القول هو أنه بموجب المواطنة فإنه يترتب للمواطن حقوق مادية تتمثل بشكل عام في حقه في التعليم والتربية والعلاج الصحي والرعاية الكاملة والشاملة من يوم ولادته إلى يوم مماته يسهم في ذلك الأسرة والمجتمع (الوطن) ككل. ومعنويا فحق المواطن أن يجد في وطنه الاعتبار والاحترام كإنسان مكرم أكرمه الله كما في الآية الكريمة: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا» (الإسراء آية 70). وعموما فإن قناعة المواطن وشعوره بأنه معزز ومكرم ومعتبر كإنسان في وطنه، وبأن حقوقه مخدومة فإن هذا يشجع على شعوره بالمواطنة الحقة ويجعل منه وطنيا. يساعد في ذلك ما يلقاه عن طريق سياسة التلقين الشفوي والمباشر عن طريق المؤسسات الوطنية المعنية وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة بالإضافة إلى ما يلقاه عن طريق المحاضرات والندوات والكتب والدروس ووسائل الإعلام المسؤولة، إذ ليست الوطنية عبارة عن ترديد الشعارات وإثارة العواطف الآنية بلعبة رياضية أو غيره. وأيا كانت الوسيلة فللمواطن الحق أيضا بأن يرى منذ الصغر في أقاربه ومدرسيه وأفراد مجتمعه: المخلص في عمله والصادق في تعامله مع الآخرين. ومهم كذلك إيجاد الفرص بشكل ثابت ودائم من قبل الأسرة والمدرسة والمجتمع لأن يسهم الشباب عمليا في القيام بخدمات مختلفة للوطن ليتعودوا على تحمل المسؤولية منذ الصغر، وتأتي أهمية دور الأسرة هنا بشكل خاص في ترسيخ قيم وأخلاق المواطنة. وليس أقل أهمية كذلك تمكين الشباب من الاستفادة من الحوادث والكوارث والحروب وتدريبهم عمليا للخدمة فيها باستمرار كما حصل في كارثة سيول جدة، وهذا مما يعودهم على خدمة الوطن ويجعل الوطنية لديهم واقعا ملموسا في العمل والسلوك. وقد لا يشكل التلقين الإعلامي والشفوي مواطنا بالمعنى الصحيح للكلمة وغير مضمون أن يوجد ذلك وطنية أو انتماء حقيقيين لدى المواطن في غياب ما يستحقه المواطن من حقوق وخدمات وما يكفل جعله يشعر فعليا بقيمته وأهميته كمواطن إنسانا لا رقما. لذلك فقد تفشل سياسة التلقين كسياسة وحيدة، كما يفشل مثلا علاج مريض ما نفسيا عن طريق تناوله الأدوية المهدئة فقط دون تشخيص أسباب المرض والتصدي بجدية لها بالعلاج الصحيح. ومع ذلك فإن للثقافة الوطنية دورا مهما في تلقين وتثقيف المواطنين وخاصة الشباب منهم وتنشئتهم على حب القيم الأساسية كالدين وحب الوطن ونظامه العام والصدق والأمانة والاستقامة والإخلاص في خدمة الوطن والدفاع عنه والتضحية من أجله واحترام أنظمته التي تكفل المحفاظة على صحة وأخلاق وحياة المواطنين، وتحث على التعامل الحسن معهم وعدم ظلمهم وعدم إيجاد العوائق أمامهم، وتؤكد على الحفاظ على إمكانيات الوطن من التسيب والنهب والتخريب. ومكمل لذلك تنشئة الشباب على ربط التفكير والقول بالعمل والمفهوم بالممارسة وعلى التركيز على التعاون وتقدير الوقت وأهميته وتقبل الاختلاف على ما عدا الثوابت من قضايا ومواضيع بروح بعيدة عن الصراعات والتعصب. وقراءة التاريخ والبحث والتنقيب في العلوم الاجتماعية، وخاصة علم النفس، للاستفادة منها فيما يتعلق بالنفس البشرية واستخلاص طبيعتها لمعرفة ما يجعل الإنسان المواطن يشعر بإيجابية تجاه وطنه أمر في غاية الأهمية لتأهيل المواطن كي يحب وطنه (حب الوطن من الإيمان). والفقر بلا شك عدو الوطنية والمواطنة والانتماء للوطن، فالفقير في وطنه معرض لسلبيات كثيرة تقود للانحراف والميل للإجرام بحق المجتمع والوطن، والأمثلة على ذلك كثيرة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الفقر عدو الإنسان، والإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه أدرك خطره قبل ألف وأربعمائة سنة حينما قال: - لو كان الفقر رجلا لقتلته. - الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة. - المال يستر رذيلة الأغنياء والفقر يغطي فضيلة الفقراء. ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس والأمر كذلك فإنه مهم هنا توفير فرص العمل كحق للشباب خاصة من قبل القطاع الخاص الذي استفاد من خيرات الوطن، لتحسين أوضاعهم المادية والمعيشية لأن البطالة بالضرورة تفاقم حالة الفقر واليأس، ومعروفة هي سلبيات البطالة اجتماعيا ووطنيا، وقد قيل إن: «البطالة تورث الرذيلة». وفي غياب فرص العمل يتجه كثير من الشباب لممارسات خاطئة وانحرافات اجتماعية غير مقبولة، ومنهم من يتفرغ لمشاهدة القنوات الفضائية الهابطة والمؤثرة سلبيا على عقولهم وتفكيرهم. فهم يرون العمالة الوافدة على مضض وهي تزاحمهم لقمة عيشهم في المصانع والأماكن الخدمية والمتاجر والمطاعم والبقالات .. ولا يقتصر أفراد العمالة الوافدة على مزاحمة المواطن في لقمة عيشه بل يقومون بترويج المخدرات والخمور وبيع بعض المواد الغذائية ذات المواصفات المضرة بصحته ومنتهية الصلاحية، ويتم بناء على ذلك تحويل عشرات المليارات من الأموال سنويا لخارج الوطن الذي هو وأبناؤه أحق بها لو ساعد الحظ على ذلك. ومعلوم أن من العمالة الوافدة من يتجه للأعمال المخلة بالدين والأمن والذوق والأخلاق. والجرائد تنشر شبه يومي ما يزكم الأنوف من أخبار المخالفات والجرائم الخلقية والجنائية المختلفة بفعل بعض أفراد العمالة الوافدة. وقفة: يذكر أن مواطنا سعوديا قدم هدية ذهب لبريطانية في لندن سبق أن تعرف على أسرتها فسألته كم دفع لجمرك المطار عن الهدية، فأجاب بافتخار أنه تجاوز التفتيش دون إيضاح الهدية لسلطة جمارك المطار ولم يدفع شيئا. عندئذ رفضت الهدية وكلمت في الحال الجمارك التي حضر مندوبها وقبض من المواطن السعودي ما تستحقه الهدية من جمرك، بعدئذ قبلت البريطانية الهدية. وللقارئ أن يتأمل ويحكم على سلوك المهدي وسلوك المهدى إليها وأسباب ذلك.