اعتبر الشيخ الدكتور علي جمعة مفتي مصر إنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية «فرصة عظيمة لإبراز سماحة الإسلام ووسطيته». ووصف هذا المشروع بأنه «نقلة حضارية وتقدم في مجال العلوم يسجل للمملكة والعالم الإسلامي، ويبرز الوجه الناصع للأمة الإسلامية مع الحفاظ على ثوابت الدين». وركز مفتي مصر في حديثه ل «عكاظ» على أن جامعة الملك عبد الله «ذات رسالة جديرة بالاحترام والتقدير، بالاستناد إلى حاجة الأمة لأجيال من العلماء الذين يكرسون جهودهم في العلوم المتقدمة وفق المعايير العالمية، ما يعود بالنفع على المنطقة والعالم». ودعا الشيخ جمعة الجميع إلى «التكاتف والتعاون لمساندة هذا المشروع التعليمي الجبار لتحقيق النفع والخير للعالم والبشرية جمعاء». وتصدى مفتي مصر لما يثار حول الاختلاط في الجامعة، مشددا على أن «مجرد وجود النساء مع الرجال في مكان واحد ليس حراما في ذاته، فالحرمة إنما تكون في حالة الاجتماع على منكر أو لمنكر أو لخلوة محرمة، وهذا لا يتوافر في أماكن تلقي العلم». هنا نص الحوار: ¶ كيف ينظر فضيلتكم إلى مشروع جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية؟ نحن نثمن الجهود المباركة التي قام ويقوم بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حفظه الله تعالى، لإنشاء هذه الجامعة المباركة لتواكب التطور العلمي وتقدم الوجه الجميل للأمة الإسلامية التي تحرص على التقدم العلمي مع الحفاظ على الثوابت الدينية. فهذه الجامعة منارة جديدة للعلم تلبي رغبة خادم الحرمين الشريفين لتكون بمثابة جامعة دولية للأبحاث لانطلاق عصر جديد من الإنجاز العلمي في المملكة ويعود أيضًا بالنفع على المنطقة والعالم، وهذه رسالة جديرة بالاحترام والتقدير لأننا أحوج ما نكون لأجيال من العلماء الذين يكرسون جهودهم للعلوم المتقدمة. وفق المعايير العالمية. فالبحث العلمي هو نقطة البداية الصحيحة للأمة الإسلامية حتى تضع قدميها مرة أخرى في خريطة العالم، وتشارك بحضارتها في بناء الحضارة الإنسانية، في وقت يحتاج العالم إلى منهج البحث الإسلامي، وإلى تراث المسلمين، وطريقة تفكيرهم، وتجربتهم في استيعاب الحضارات، مؤكدًا أن السبيل إلى كل ذلك هو إحداث نهضة في مجال البحث العلمي الإسلامي ليكون امتدادًا حقيقيًّا لعلوم المسلمين الأوائل ومظهرًا للصلة بين أصالة السلف ومعاصرة الخلف. نقلة ضد التبعية ¶ أشرتم فضيلتكم في ثنايا الحديث إلى أن للجامعة انعكاسات إيجابية على العالم الإسلامي والبشرية جمعاء .. كيف يكون ذلك؟ مما لاشك فيه أن الجامعة تعتبر بمثابة نقلة حضارية وعلمية وثقافية هائلة للأمة الإسلامية والإنسانية جمعاء، إذ تنقل هذه الجامعة العالم الإسلامي من مصاف التبعية والاعتماد على العلوم النظرية إلى ترسيخ التكنولوجيا والتقنية العلمية الحديثة داخل العالم الإسلامي ليحتل مكانته اللائقة والمرموقة بين الأمم. والإسلام يدعو المسلمين إلى طلب العلم والسعي إليه والأخذ بأسبابه والإنسان يظل يتعلم طوال فترات حياته مصداقا لقول المولى «وفوق كل ذي علم عليم». كما تحضنا الشريعة الإسلامية على طلب العلم في أي مكان مما يعكس أهمية وقيمة إنشاء جامعة عريقة وثرية على غرار جامعة الملك عبدالله لتوفير القاعدة العلمية لطلبة العلم. وأستطيع أن أقول إن المملكة أخذت بزمام المبادرة والريادة عندما تم الإعلان عن تدشين هذه الجامعة المرموقة والتي ستستفيد منها أجيالنا القادمة، وجزى الله خادم الحرمين الشريفين خير الجزاء لتبنيه مشروع الجامعة. لذا فإنني أدعو الجميع ان يتكاتفوا ويتعاونوا لمساندة هذا المشروع التعليمي الجبار لتحقيق النفع والخير للعالم والبشرية جمعاء. والإسلام يدعونا إلى الانفتاح على الآخر والاستفادة مما لديه من علوم ويرفض رفضا قاطعا الانطفاء والتقوقع على الذات. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «الحكمة ضالة المؤمن». وأعتقد أن إنشاء مثل هذه الجامعة هو دليل واضح وصريح على حرص المملكة على الانتقال إلى عالم المعرفة الإنسانية والتكنولوجية المتقدمة لكي يتمكن المسلمون من التقدم والازدهار إلى آفاق عالمية جديدة. وهنا لا بد أن أشير إلى أننا تعودنا دائما من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله على الخطوات الجريئة التي تسير في طريق المنهج الوسطي والمعتدل للشريعة الإسلامية حفظه الله، فنجده يخطو بثبات وقوة في اتجاه دعم أواصر الحوار والتفاعل مع الآخر انطلاقا من دعوة الإسلام للتعاون مع الآخر وعدم الانغلاق والتقوقع على الذات، وتارة أخرى نجده يدعو إلى التطوير والتحديث والأخذ بأسباب العلم، وخادم الحرمين الشريفين دعا في افتتاح جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية إلى التزود بالعلم والمعرفة كطريق لقوة الأمة، وقال إن على الأمة الإسلامية إذا أرادت أن تبلغ مرادها من القوة والمنعة أن تهتم بالعلم وتعتمد عليه بجانب الإيمان. منطق الشرع ¶ ما موقف فضيلتكم مما يثار حول الجامعة من مزاعم عدم جواز الاختلاط؟ كون الطلاب يتعلمون مع الطالبات وكون النساء يتعلمن من الرجال والرجال يتعلمون من النساء، ويحدث الاختلاط بين الطلاب والطالبات في أماكن تلقي العلم فهذا الأمر لا مانع منه شرعا، لأن الذي عليه عمل المسلمين سلفا وخلفا أن مجرد وجود النساء مع الرجال في مكان واحد ليس حراما في ذاته، لأن الحرمة إنما هي في الهيئة الاجتماعية إذا كانت مخالفة للشرع الشريف كأن يظهر النساء مالا يحل لهن إظهاره شرعا، أو يكون الاجتماع على منكر أو لمنكر، أو يكون فيه خلوة محرمة، وهذا كله لا يتوافر في أماكن تلقي العلم التي يكون القصد الأساسي فيها طلب العلم تطبيقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم). ¶ لكن هناك بعض الأصوات ترفض ذلك؟ لا يسع أحدا أن ينكر مشروعية الاختلاط لطلب العلم وهذا الواقع ثابت في السنة النبوية الشريفة والتاريخ الإسلامي، ولا يصح أن نجعل التقاليد والعادات الموروثة في زمان أو مكان معين حاكمة على الدين والشرع، بل إن الشرع يعلو ولا يعلى عليه، فلا يجوز لأي فرد أن يحمل الناس ويشدد عليهم فيما جعل الله تعالى فيه يسرا وسعة. الصحيحان المرجع ¶ عكاظ: و ما الأدلة على ذلك؟ لقد دلت على ذلك السنة النبوية الشريفة، ففي الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: (لما عرّس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاما ولا قرّبه إليهم إلا امرأته أم أسيد)، وترجم له الإمام البخاري بقوله «باب قيام المرأة على الرجال وخدمتهم بالنفس»، وقال القرطبي في التفسير: «قال علماؤنا فيه جواز خدمة العروس زوجها وأصحابه في عرسها»، وكذلك قال ابن بطال في شرحه على الإمام البخاري: «وفيه إن الحجاب (أي انفصال النساء عن الرجال في المكان أو في التعامل المباشر) ليس بفرض على نساء المؤمنين، وإنما هو خاص لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم». وفى الصحيحين أيضا عن أبى هريرة رضي الله عنه في قصة أبي طلحة الأنصاري في إطعام الضيف: «إنهما جعلا يريانه أنهما يأكلان»، وفي رواية ابن أبي الدنيا من حديث أنس رضي الله عنه: «أن الرجل قال لزوجته أثردي هذا القرص وآدميه بسمن، ثم قربيه وأمري الخادم أن يطفئ السراج، وجعلت تتلمظ هي وهو حتى رأى الضيف أنهما يأكلان، وظاهره أنهم اجتمعوا على طبق واحد» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) ونزل فيهما قول المولى عز وجل «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة». ونجد في صحيح البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه، قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما .. إلى آخر الحديث، وقال الحافظ بن حجر في فتح الباري: «وفى هذا الحديث من الفوائد جواز مخاطبة الأجنبية والسؤال عما تترتب عليه المصلحة». لا حرج ¶ فضيلة الشيخ، هذا يدفعنا إلى السؤال عن مشاركة المرأة للرجال في الحياة الاجتماعية والعامة؟ كانت المرأة المسلمة تشارك الرجال في الحياة الاجتماعية العامة مع التزامها بلبسها الشرعي ومحافظتها على حدود الإسلام وآدابه، حتى ان من النساء الصحابيات من تولت الحسبة، ومن ذلك ما رواه الطبراني في «المعجم الكبير» عن أبي بلج يحيى بن أبي سليم، قال: «رأيت سمراء بنت نهيك وكانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وسلم، عليها درع غليظ وخمار، بيدها سوط تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر». وأما بخصوص تلقي الرجال للعلم الشرعي من النساء ومن المرأة العالمة، فقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يبلغن العلم وينشرن الدين، والاختلاط بين الرجال والنساء في ضوء الالتزام بآداب الشريعة الإسلامية لطلب العلم أمر مباح شرعا ولا حرج فيه. الإسلام ضد الجمود ¶ هناك من ينغلقون على العلم الحديث رغم أن له منزلة في الدين الإسلامي، فهل من توضيح؟ نحن الآن في حاجة ماسة للأخذ بالعلوم الحديثة ومتابعة كل تطور فيها، والإسلام يحرص دائما على مواصلة العلم والتطور ويقف ضد الجمود، وأن خير الأعمال أدومها، فالعقل المسلم والثقافة الإسلامية أخرجا أوروبا من ظلمات القرون الوسطى إلى أنوار العلم والمعرفة، وأفرزت الأسس المنهجية للتفكير العلمي القائم على البحث والملاحظة والتجريب والمعتمد على القياس والتدرج من الجزئيات، إلى الكليات وصولا إلى النظريات العلمية وغيرها من الأسس العلمية التي كان للمسلمين فيها فضل السبق. نشر روح التسامح ¶ ذكرتم في حديثكم مناحي الوسطية في سياسة الملك عبد الله بن عبد العزيز، وأشرتم قبل هذا إلى مبادراته في مجال الحوار مع الآخر؟ توجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز حفظه الله تعالى لدعم أواصر الحوار مع الآخر وتفعليه لتحقيق النفع لكل البشرية ونشر روح التسامح والمودة في مختلف أنحاء العالم، يمثل جهودا عظيمة ولا ينكرها إلا جاحد لا يرى الحقيقة أمامه، لأن ما يقوم به الملك عبد الله ينطلق بثبات من المبادئ والأسس التي تدعو إليها الشريعة الإسلامية من ضرورة التعاون والتعارف بين جميع البشر ورفض الانغلاق والتقوقع على الذات.
